لا أزال أذكر جواب الشيخ عبدالله العلايلي حول اللغة العربية وعلاقتها بالفكر، وكان ذلك في حوار أجريته معه في تسعينيات القرن الماضي. قال الشيخ:" مقوّم اللغة أن تفكر، وفرض إنسان بلا لغة يعني فرض إنسان بلا تفكير". لغتنا العربية لغة لم تنقطع منذ خمسة آلاف سنة. حملت إلينا القديم والجديد في آن. الثابت والعابر. السحر والطرب. حتى جاء زمن وانهارت فيه البُنى المحيطة بهويتنا الحضارية، واللغة جزءاً أساسياً من هذه البُنى.
وبدأت الإشارات تتوالى:
1- أزمة في إنتاج المعنى المرتبط باللغة.
2- تراجع المستوى الإبداعي والأدبي.
3- قصور في متابعة تطورات العلم في المصطلح والمنهج والدلالة.
4- فشل النظام التربوي في إنتاج قارىء – القراءة عنده قنطرة نحو الابداع والتغيير.
5- تراجع اللغة الفصحى لصالح اللهجات والعاميات واللغات المستحدثة
اللغة حيلتنا الجميلة سقطنا أمامها بالضربة القاضية من سطوة التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، ومن تقليل احترام هويتنا الحضارية وغياب المشروع الحضاري. وحتى اللعب باللغة ما عاد يستهوي أحد. شبه الفيلسوف فتجنشتين الممارسة اللغوية بالقيام بالألعاب. وثمة قواعد للعبة ولا أحد يريد أن يحترم هذه القواعد. ولكن مسألة اللغة ستظل في قلب النقاش لعلاقتها الوثقى بالفكر والحضارة والحداثة والنهضة والتاريخ. وستظل تستمد قوتها من التفاعل الحياتي والممارسة الوجودية ومن التاريخ الفردي والجماعي معاً.
ونسأل: هل اللغة وسيلة أم غاية؟ وما الفرق بين اللغة والفكر؟
يميز بورديو في كتابه "ماذا يريد أن يقول الكلام" بين سلطة اللغة النابعة من سلطة فاعليها وليس من ذاتها. وكيف تنطلق اللغة العربية لتعبّر عن الواقع بدون تعمية أو تزييف أو لأجل التسويق لايديولوجية مزدوجة لتحمي السلطة السياسية والتيار الديني السائد. والغرض من كل ذلك السيطرة والهيمنة لا الإصلاح أو التنوير.
يبقى أن اللغة اليوم في ذروة أزمتها، وعلينا استعادتها لغة تامة صحيحة لكي تعبر عن وجودنا وهويتنا وفكرنا النقدي الرافض لوقائع ثقافية واجتماعية وسياسية. والانعتاق الفكري في نهاية المطاف يرتبط ارتباطاً عضوياً بالتحرر اللغوي.
رأى ابن خلدون أحوال اللغة والفكر، وعرف موضع الخلل، وكتب في مقدمته: " إن اللغة أحد وجهي الفكر، فإذا لم تكن لنا لغة تامة صحيحة فليس يكون لنا فكرتام صحيح".