107
لإسرائيل ثلاثة آباء: حاييم وايزمن وناحوم غولدمان وديفيد بن غوريون. الأوّل بذل قصارى جهده لإنتزاع الوعد المشؤوم، فنجح. الثاني عمل على استنفار "يهود الشتات" وتشجيعهم، أو دفعهم، إلى الهجرة نحو فلسطين وراح يجمع الأموال، من كل حدب وصوب، لتنفيذ المشروع الصهيوني وضمان استمراره، فنجح. الثالث تولى تأسيس وتنظيم العصابات الصهيونية المسلحة وأمر بتنفيذ المجازر بحق الفلسطينيين وتهجيرهم، فنجح وأعلن قيام "دولة إسرائيل".
عن الحوارات التي كانت تجري بين بن غوريون وغولدمان، ومعظمها يدور حول مصير إسرائيل، كتب غولدمان الكثير فكان أكثر الحورات أهمية وأغناها عبراً تلك التي أوردها في مؤلفه الشهير "المفارقة اليهودية"، وهو من أكثر الكتب التي أتردد عليها، أزورها، إذا جاز التعبير. والخلاصة التي ترسخت في ذهني فباتت قناعة تتعمق يوماً بعد يوم هي أن البوح المتبادل بين الرجلين يؤكد صحة خيار المقاومة، وفق طرح المقاومة اللبنانية، بقدر ما يقدم تبريراً كاملاً للتفاؤل بها وبحتمية انتصارها المتدرج وصولاً إلى زوال "قاعدة" إسرائيل العسكرية من الوجود. هي قاعدة في شكل دولة، وهي أكبر قاعدة عسكريّة بنتها امبراطورية في التاريخ. هذه الصفة لم تغب عن بال مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتزل القائل أنها "الحصن المتقدم للحضارة الغربية ضد بربريّة الشرق" للتأكيد على "وظيفتها" أولاً وعلى قبول الحركة الصهيونية بأن يكون قدرها "وظيفي" لخدمة الامبراطورية. حبل سرّةٍ، يربط القاعدة بالامبراطورية، أي بصاحبها. ثمة من "يملك" هذه القاعدة.
والملفت في الحوارات آنفة الذكر أن الاثنين يطرحان أسئلة وجوديّة تبقى بلا جواب، وأكثرها خطورة موضوع بقاء "الدولة" القاعدة أو زوالها.
قبل ذلك، نرى الاثنين يفترقان في الخيارات، بدءاً من خياري الحرب والسلم ورأي كلٍّ منهما بالعرب. يذكر غولدمان أنه ذات ليلة من ليالي 1956، وكان ضيفاً على بن غوريون، في منزل بناه الأخير في صحراء النقب الفلسطينية، وفيما اشتد النقاش بينهما حول قبول أو عدم قبول العرب إجراء مفاوضات سلام مع الحكومة الإسرائيلة، ورداً على إصرار غولدمان بأن التسوية مع العرب شرط لبقاء إسرائيل على قيد الحياة، أجاب بن غوريون بحزم: " كيف يمكن للعرب أن يأتوا إلى خيار السلم؟… فلو كنت زعيماً عربياً لما قبلت بالسلام أبداً مع إسرائيل. وهذا أمر طبيعي لأننا نحن الذين أخذنا أرضهم. صحيح أن الله وعدنا بها لكن من الطبيعي أن لا يعنيهم ذلك بشيء، إلهنا ليس إلههم. صحيح أن أصلنا يعود إلى إسرائيل، لكن ذلك كان قبل 2000 عام، وهذا لايمكن أن يعنيهم بشيء. لقد ظهر العداء للساميّة، والنازيون وهتلر وأوشويتز، ولكن هم براء من هذا الخطأ. فهم يرون شيئاً واحداً: نحن أتينا وسرقنا بلادهم. فلماذا تريدهم أن يقبلوا مبدأ السلام معنا؟…" ففي الحالة هذه، لابد، في رأيه، من أن تكون إسرائيل قويّة كي لا يسحقها العرب.
وعلى الرغم من إيمانه المطلق بأن القوة ولا شيء غير القوة تضمن لهم البقاء على أرض فلسطين إلا أنه تمنع عن التنبؤ بمصير إسرائيل لأكثر من 15 سنة، أي لغاية 1970.
توقف غولدمان طويلاً أمام هذا التشاؤم، وقال لبن غوريون: كيف يمكن أن تنام غير مطمئن أبداً لبقاء إسرائيل على قيد الحياة؟… أجابه: ومن قال لك أنني أنام؟!… وهنا بيت القصيد.
بن غويون لم يكن يستبعد حصول هجوم مضاد من الدول العربيّة تنهار أمامه إسرائيل فتزول. وهنا أخطأ. ثم اعتبر أن الفلسطينيين بعد جيل أو جيلين "سينسون" فلسطين. وهنا أيضاً أخطأ. فالذي حدث هو عكس ما توقع هو تماماً، إذ أن الأجيال التي لم تعرف فلسطين ما قبل 1948 هي، قبل غيرها، وربما دون سواها، المتمسكة بفلسطين، بكل فلسطين، من النهر إلى البحر، ولا تقبل حتى بأراضي 1967.
غلطة الشاطر بألف غلطة. خصوصاً حين تصدر عن رجل استراتيجي كبن غوريون الذي كان القائد الصهيوني الوحيد المناسب لقيادة الصهاينة إلى النصر في حرب 1948 التأسيسية.
والغلطة الثالثة التي ارتكبها بن غوريون والتي تشكل ركناً في استراتيجيته الشاملة، تتمثل في اعتباره أن الحرب التي تجرّ حروباً، هي وحدها، الكفيلة بتعميم النسيان. كيف يمكن لرجل مثل بن غوريون أن يرتكب هذا النوع من الأخطاء؟… والجواب يعطيه غولدمان، ولو بطريقة غير مباشرة، حين يلحظ تناقضاً يكاد أن يكون جذرياً ما بين ذكاء بن غوريون و…طبعه. ذكاؤه جعله قلقاً على الوجود الإسرائيلي والمصير، فيحسن تشخيص صلب المشكلة بين الغزاة، أترابه، وأصحاب الأرض الفلسطينيين. لكن طبعه يدفعه إلى اعتماد علاج – استراتيجي لا يتلاءم مع هذا التشخيص.
وأمّا الغلطة الرابعة فتعود إلى كونه لم يستوعب درجة الانحطاط الذي وصلت إليه الحكومات العربية على الرغم من إلمامه بحقيقة دور تلك الحكومات في نجاح العصابات الصهيونية بتحقيق هدفين متلازمين: السيطرة على أرض فلسطين، وتهجير الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني. أي أنه كان يعرف تماماً أن الحكومات دخلت، من خلال بعض رموزها، في "حلزونة" الحالة الصهيونية بحيث أصبحت صهيونية في السياسة وإن لم تكن صهيونية في الدين، ما يسميه كاتب هذه السطور بالصهيونية العربيّة، صاحبة الدور المتمم للصهيونية اليهودية والإسرائيلية.
لقد اعتبر بن غوريون، ككل الغزاة المستعمرين الذين سبقوه، أن الإمعان في إذلال أهل البلاد الأصليين كفيل بجعلهم ينصاعون. هذا ما كان يرفضه غولدمان رفضاً قاطعاً، وظلّ على موقفه إلى 1982، عند اجتياح لبنان واحتلال عاصمته بيروت، فوجد في ذلك القشة التي قصمت ظهر البعير، أي "الجرعة الفائضة" OVER DOSE.
من في استطاعته أن ينفي العلاقة التناقضية ما بين الاحتلال ونشوب المقاومة التي بات مشهوداً لها بالتفوق، عسكرياً وسياسياً، بحيث باتت تشكل حجر الزاوية في منظومة مقاومة العدو الإسرائيلي، ما سيؤدي إلى زوال قاعدة إسرائيل العسكرية ذات يوم، قد لا يكون بعيداً.
وكيف يكون اليوم بعيداً، وقد لد الإنسان الفلسطيني الجديد، الطفل ابن السابعة أو الثامنة من العمر والذي لا وجود للخوف في قاموسه، يشتبك مع دبابة الـ"مركافا" وهو في طريقه إلى المدرسة، فإما يقتل برصاص الصهياينة أو يتعرض لإصابة تُولد إعاقة، أو يعتقل ويخضع للتعذيب، هو وأهله، أو يفلت من الملاحقة ويتابع طريقه إلى المدرسة، أو منها إلى بيته.
إن كل ما يحدث على أرض فلسطين يؤكد أن هذا الإنسان الفلسطيني الجديد إنسان لا يقهر.. لا يقهر.. لا يقهر. هو الذي سيزيل قاعدة إسرائيل العسكرية عن الوجود. إنها الحقيقة التي لم يتوقعها بن غوريون، فسار باقي قادة القاعدة العسكرية اليهودية، المملوكة من الامبراطورية الأنكلوسكسونية، على خطى بن غوريون. وهم يسيرون في درب الخطأ القاتل. فاليوم إن نتنياهو المدرك جيداً لعدم أهلية جيشه في مواجهة الإنسان الفلسطيني الجديد وإنسان المقاومة اللبنانية المتفوق، يستقوي بالدعم العالمي وبالإنصياع الكامل لإرادته من قِبَلِ حكومات ونُظم ما يُسمى بالعالمين العربي والإسلامي، وهي حكومات ونُظمٌ تثبت يوماً بعد يوم عدم أهليتها وعدم استحقاقها لأي احترام في المنتديات الدينية كافة وعدم أهليتها لأن تقف في صفوف الأمم الحرة. من حق نتنياهو وأسياده في الغرب وأصدقائه في روسيا أن يحتقروا تلك الحكومات والنُظم التي لاتحترم نفسها أصلاً، لكنه، أي نتنياهو، يرتكب الخطأ القاتل حين يظن أن كل هذا الدعم اللامحدود والخيالي الذي يحصل عليه سيمكنه من إلحاق الهزيمة بالإنسان الجديد، إنساننا. وهنا الخطأ القاتل خصوصاً وأن إنساننا هذا متفوق على إنسانه المغتصب للأرض، السارق للأرض على حد قول بن غوريون نفسه.
المقاومة اللبنانية حطمت إسطورة الجيش الذي لا يقهر. وإيران كسرت احتكار إسرائيل للذرة في منطقة سورية الطبيعية، وفي الشرق الأوسع، أي الذي يضم إلى كيانات سورية الطبيعية إيران وتركيا، وفي العالم العربي.
ولا ينفع إسرائيل ولاء الحكومات الصهيونية العربية، ولا تبعية منظومة العالم الإسلامي لتلك الحكومات. فالإنسان الجديد هو المؤسس للغد المشرق. معه لم يعد إنساننا مهزوماً بل قدره النصر. أما إنسان الصهيونية اليهوديّة فقدره أن يهرب، كما فعل العسكر المدججين بالسلاح حين هربوا من أمام عمر أبوليلى بعد طعنه لزميل لهم.
إن كل أسباب التفاؤل بحتمية الانتصار باتت متوفرة ومكتملة، والمسألة مسألة وقتٍ، والوقت بات يتسارع. والإنسان الإسرائيلي سيصبح مضرب مثلٍ بالفشل. فما عليه إلاّ الرحيل.
الإنسان الفلسطيني الجديد يسند ظهره إلى المقاومة ومحور المقاومة ونصف الكرة الأرضية، مهما تواطأت عليه الصهيونية العربية، ومنظومة العالم الإسلامي التافهة بقدها وقديدها. فالمعركة التاريخية هي معركة الإنسان.