114
لم يبقَ للذين خبروا الصورة التركية بهندستها السوسيو- ثقافية الحديثة , سوى الخلوص الى النتيجة المنطقية التالية: لقد أدت القطيعة الحادة بين تركيا الحديثة ووالدتها الشرعية الإمبراطورية العثمانية الى صدع هائل في الصورة أفقدها سماتها وبدّد هويتها. حتى أنّ من علماء الجيو- ستراتيجيا مَن رأى أن تركيا كدولة , ظهرت في المكان الذي خلا بعد الإمبراطورية العثمانية , ولكنها لم تكن امتداداً له. ذلك يعني منطقياً أن قطيعة حادة حصلت بين السلطنة والدولة الجديدة من أبرز سماتها: إقصاء الإسلام السياسي كأطروحة للحكم وحلول سلطة سياسية ذات ثقافة برانية، راحت تتدفّق على بلاد الأناضول بفعل الصعود المدوّي لإمبرياليات الحداثة الغربية في مستهل القرن العشرين. وهكذا جرت التحولات على نحوتناقضي انتباذي بين الإسلامية العثمانية والعلمانية الاتاتوركية. إذ بدلاً من البنية الإسلامية الإمبراطورية المتعددة المراكز والكثيرة القومية , أقام مصطفى كمال أتاتورك الصيغة الشرقية لمقولة الدولة / الأمة (Etat-Nation) ذات البناء العلماني – الإلحادي الفج والقومي الضيق .
لقد تحولت تركيا بسبب من هذا الإجراء التاريخي, الى كونها الدولة الأولى في الشرق التي تقطع الصّلات مع تقاليدها الروحية والدينية والجيوبوليكية. اما من الناحية الواقعية , فتمثل تركيا كعضو في الناتو, – المخفر الأمامي للأطلسية والعولمة – وهو ما يسميه عالم الجيوبوليتيكا الروسي الكسندر دوغين بـ"النطاق الصحي" بين الشرق الآسيوي والعالم العربي . والأنموذج الجيوبوليتيكي الذي تقدمه تركيا هو التكامل مع الغرب والحضارة العولمية الإلحادية . ولكن بما أن تركيا نفسها – الطامحة الى الدخول في أوروبا – لا تزال تشكل "المستعمرة السياسية الإيديولوجية" للولايات المتحدة – فإن معرفة موقعيتها يعني بالنسبة لبلدان الجوار تكاملاً مع المشروع العولمي , وتشكيل "العزقة الاستعمارية" بين كتلة أوراسيا القاربة الشرقية (إيران والصين والهند) وبين العالم العربي الذي يهدد بالإنفجار ويتطلع دوماً الى التخلص من القيادة العولمية .
ومن مفارقات "الدين السياسي التركي" أن الأتراك العثمانيين أنفسهم أُخذوا منذ البداية بدهشة العلمنة . ربما يعود ذلك الى احتكاكهم بتحولات الحداثة الأوروبية , وكذلك بفعل جدليات الاحتدام والتواصل مع تلك التحولات.
وقد أظهر العثمانيون في عهد السلطانين محمد فاتح وسليمان القانوني ميلاً للابتعاد عن حكم الشريعة الإسلامية , ثم توصلوا بعد ذلك الى استنتاج مفاده أن الإسلام غير قادر على التأقلم مع الظروف المتغيرة , وفي وقت بذلت فيه دول إسلامية أخرى جهوداً لإثبات أن الإسلام يمتلك قابلية كبيرة للتكيّف مع الظروف المتغيرة .
ولمّا أقام الأتراك جمهوريتهم العام 1923 , اتّخذوا خطوة كبيرة في هذا الإتجاه حيث اختاروا لها نظاماً علمانياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى , وقرروا استبدال النظام العثماني الإسلامي بالنظام الجمهوري العلماني , وقد عبّر عن هذا التحول , البروفسور "كمال كاربت" بالقول:" إن الهدف النهائي لما يسمى بالثورة الثقافية في تركيا هو خلق الإنسان التركي الذي يفكر بشكل منطقي" . فقد انشغل مؤسسو الجمهورية التركية بكيفية استثمار الأتراك لمجمل طاقاتهم وقدراتهم , وعدم التحول والارتماء في أحضان الدين , فأيّ دور كان على الإسلام أن يؤديه مثل تلك الظروف ؟ وبحسب مؤسسي الجمهورية التركية , فإن الإسلام بالنسبة اليهم يجب أن يشكل منظومة عقائدية وقومية على المستوى الفردي فقط , ولا يجب أن يصبح مرجعية لرؤية أو مبادئ أو مجموعة مفاهيم متجلية على المستوى السياسي.
وعلى الرغم من جاذبية الخطاب الديني وقوّته بين الأحزاب الحديثة ذات الايديولوجية الإسلامية (حزب النظام القومي وحزب الفضيلة وحزب الرفاه وأخيراً حزب العدالة والتنمية) إلا أنها رسمت لنفسها خطاً أحمر لجهة عدم تجاوز "قدسية" النظام الجمهوري ودستور 1923. لقد استمرت تركيا الجمهورية في تنفيذ مشروعها العلماني , من قبل أن تسمح للإسلام بأن يؤدي دوراً مؤثراً في سياساتها , وأصبح من الصعب – في ضوء ذلك – على الأحزاب الإسلامية أن تستعيد لنفسها استراتيجية "الرجل الواحد" خلال الانتخابات لتسلّم السلطة , ومحاولة إقامة دولة على خلفية إسلامية . فالمقترعون الأتراك لم يصوتوا – لا في الماضي ولا في الحاضر – لأي حزب ولم ينتخبوه لكونه حزباً دينياً إسلامياً. ولا بد من الاشارة إلى أن تركيا سمحت للإسلام بأداء دور في الحياة السياسية في تركيا من أجل أن يحقق المصالحة مع الديمقراطية, ذلك يعني أن يتوصّل الجميع الى استنتاج مفاده أنه لا وجود لنظام أفضل من النظام الديمقراطي.
واللافت أنه على الرغم من الصعود البيّن للحركة الاسلامية التركية, فقد ظلت فكرة إقامة الدولة على أسس إسلامية , فكرة "معزولة" عن بنية الخطاب السياسي، الذي لم يجد له ترجمة عملية في الواقع.
حتى أردوغان نفسه، الذي أفصح عن الحد الأقصى من الايديولوجيا الإسلامية , بقي على حذره حيال المسّ بالنظام العلماني، بل وتعامل معه كــ"لاهوت سياسي" لا ينبغي إلحاق الأذى بقدسيته . وبهذا المعنى فقد استعاض حزب العدالة والتنمية من خلال زعامة أردوغان عن الاسلام السياسي بتصعيد النزعة القومية التركية وإعادة إنتاجها تحت ظلال المنظومة التاريخية لعلمانية أتاتورك.
لعلّ إحدى النقاط التي توقّف عندها أردوغان وتعكس طبيعة تفكيره , هي أنّ المؤمن الحقيقي – كما يقول – لا يجوز له أن يلحق الأذى بالآخرين مهما كان اعتقادهم أو دينهم ", فقد قال مرة: "إيماني بالإسلام كعقيدة هو إيمان على الصعيد الفردي , أما اهتمامي على الصعيد السياسي فهو تكريس الدستور والمبادئ والديمقراطية".
وفي التحليل النهائي , فإن أردوغان , يتخذ من الإسلام ومن الديمقراطية وسائل أو أدوات لتأكيد السعادة والرفاه لشعبه , ولذلك راح يحتفظ بمسافة بيّنة تنأى به من تهمة الاسلام السياسي. وعلى أي حال , فإن الفجوة مع العلمانيين لا تعني أردوغان على الإطلاق , فقد اتّهموه دائماً , بأنه يسعى الى تقوية الإسلام السياسي , وأنه يختبئ خلف نياته الحقيقية وينتظر الظروف الملائمة للانقضاض عليهم , ومن أجل إقناع العلمانيين بأنه لا يطمح الى دولة إسلامية، لم يكتف أردوغان بالابتعاد عن القاموس اللفظي في الخطاب الإسلامي، وإنما مضى الى عدم استخدام التقويم الهجري الإسلامي. ومثل هذا الأمر , يُعتبر في رأي عدد من المفكرين الأتراك من أكثر التغيرات أهمية في شخصية أردوغان مقارنة بالماضي , عندما كان يستخدم التقويم الإسلامي أثناء مناقشة القضايا الإسلامية والعلمانية على السواء.
من النخب التركية التي اختبرت رحلة "الأسلمة المستحدثة"، مَن ينبري إلى إجراء محاكمة نقدية لتجربة الاسلام السياسي من خلال النموذج الذي يقدّمه حزب العدالة والتنمية. وهذا النموذج – حسب تصور هؤلاء – ينطوي على اضطراب، حين يريد صانعوه أن يوائموا بين اعتقادهم الفردي، وهم في موقع القرار وبين شروط قيادة الدولة وإدارة مؤسساتها.
في المقدّمات التي يلاحظها نقّاد الإسلام السياسي المستحدث، أنّ الإسلاميين الأتراك الذين نظموا أنفسهم سياسياً منذ أواخر الستينيات، راحوا يتخلّون عن نموذجهم الإسلامي الخاص لمصلحة النموذج الديمقراطي الغربي. ولم يفعلوا ذلك لأنهم تخلّوا عن معتقدهم ولا لأنهم لم يعودوا يطمحون لمجتمع إسلامي. لقد فعلوا ذلك لأنهم مرّوا بعملية دراسة للأفكار والخبرات اتضح خلالها أنه بدون الأساس المدني، أي الفصل بين شؤون العقيدة وشؤون السياسة والحياة العامة، لا يمكن تأسيس مجتمع ديمقراطي.
لقد تحولت تركيا بسبب من هذا الإجراء التاريخي, الى كونها الدولة الأولى في الشرق التي تقطع الصّلات مع تقاليدها الروحية والدينية والجيوبوليكية. اما من الناحية الواقعية , فتمثل تركيا كعضو في الناتو, – المخفر الأمامي للأطلسية والعولمة – وهو ما يسميه عالم الجيوبوليتيكا الروسي الكسندر دوغين بـ"النطاق الصحي" بين الشرق الآسيوي والعالم العربي . والأنموذج الجيوبوليتيكي الذي تقدمه تركيا هو التكامل مع الغرب والحضارة العولمية الإلحادية . ولكن بما أن تركيا نفسها – الطامحة الى الدخول في أوروبا – لا تزال تشكل "المستعمرة السياسية الإيديولوجية" للولايات المتحدة – فإن معرفة موقعيتها يعني بالنسبة لبلدان الجوار تكاملاً مع المشروع العولمي , وتشكيل "العزقة الاستعمارية" بين كتلة أوراسيا القاربة الشرقية (إيران والصين والهند) وبين العالم العربي الذي يهدد بالإنفجار ويتطلع دوماً الى التخلص من القيادة العولمية .
ومن مفارقات "الدين السياسي التركي" أن الأتراك العثمانيين أنفسهم أُخذوا منذ البداية بدهشة العلمنة . ربما يعود ذلك الى احتكاكهم بتحولات الحداثة الأوروبية , وكذلك بفعل جدليات الاحتدام والتواصل مع تلك التحولات.
وقد أظهر العثمانيون في عهد السلطانين محمد فاتح وسليمان القانوني ميلاً للابتعاد عن حكم الشريعة الإسلامية , ثم توصلوا بعد ذلك الى استنتاج مفاده أن الإسلام غير قادر على التأقلم مع الظروف المتغيرة , وفي وقت بذلت فيه دول إسلامية أخرى جهوداً لإثبات أن الإسلام يمتلك قابلية كبيرة للتكيّف مع الظروف المتغيرة .
ولمّا أقام الأتراك جمهوريتهم العام 1923 , اتّخذوا خطوة كبيرة في هذا الإتجاه حيث اختاروا لها نظاماً علمانياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى , وقرروا استبدال النظام العثماني الإسلامي بالنظام الجمهوري العلماني , وقد عبّر عن هذا التحول , البروفسور "كمال كاربت" بالقول:" إن الهدف النهائي لما يسمى بالثورة الثقافية في تركيا هو خلق الإنسان التركي الذي يفكر بشكل منطقي" . فقد انشغل مؤسسو الجمهورية التركية بكيفية استثمار الأتراك لمجمل طاقاتهم وقدراتهم , وعدم التحول والارتماء في أحضان الدين , فأيّ دور كان على الإسلام أن يؤديه مثل تلك الظروف ؟ وبحسب مؤسسي الجمهورية التركية , فإن الإسلام بالنسبة اليهم يجب أن يشكل منظومة عقائدية وقومية على المستوى الفردي فقط , ولا يجب أن يصبح مرجعية لرؤية أو مبادئ أو مجموعة مفاهيم متجلية على المستوى السياسي.
وعلى الرغم من جاذبية الخطاب الديني وقوّته بين الأحزاب الحديثة ذات الايديولوجية الإسلامية (حزب النظام القومي وحزب الفضيلة وحزب الرفاه وأخيراً حزب العدالة والتنمية) إلا أنها رسمت لنفسها خطاً أحمر لجهة عدم تجاوز "قدسية" النظام الجمهوري ودستور 1923. لقد استمرت تركيا الجمهورية في تنفيذ مشروعها العلماني , من قبل أن تسمح للإسلام بأن يؤدي دوراً مؤثراً في سياساتها , وأصبح من الصعب – في ضوء ذلك – على الأحزاب الإسلامية أن تستعيد لنفسها استراتيجية "الرجل الواحد" خلال الانتخابات لتسلّم السلطة , ومحاولة إقامة دولة على خلفية إسلامية . فالمقترعون الأتراك لم يصوتوا – لا في الماضي ولا في الحاضر – لأي حزب ولم ينتخبوه لكونه حزباً دينياً إسلامياً. ولا بد من الاشارة إلى أن تركيا سمحت للإسلام بأداء دور في الحياة السياسية في تركيا من أجل أن يحقق المصالحة مع الديمقراطية, ذلك يعني أن يتوصّل الجميع الى استنتاج مفاده أنه لا وجود لنظام أفضل من النظام الديمقراطي.
واللافت أنه على الرغم من الصعود البيّن للحركة الاسلامية التركية, فقد ظلت فكرة إقامة الدولة على أسس إسلامية , فكرة "معزولة" عن بنية الخطاب السياسي، الذي لم يجد له ترجمة عملية في الواقع.
حتى أردوغان نفسه، الذي أفصح عن الحد الأقصى من الايديولوجيا الإسلامية , بقي على حذره حيال المسّ بالنظام العلماني، بل وتعامل معه كــ"لاهوت سياسي" لا ينبغي إلحاق الأذى بقدسيته . وبهذا المعنى فقد استعاض حزب العدالة والتنمية من خلال زعامة أردوغان عن الاسلام السياسي بتصعيد النزعة القومية التركية وإعادة إنتاجها تحت ظلال المنظومة التاريخية لعلمانية أتاتورك.
لعلّ إحدى النقاط التي توقّف عندها أردوغان وتعكس طبيعة تفكيره , هي أنّ المؤمن الحقيقي – كما يقول – لا يجوز له أن يلحق الأذى بالآخرين مهما كان اعتقادهم أو دينهم ", فقد قال مرة: "إيماني بالإسلام كعقيدة هو إيمان على الصعيد الفردي , أما اهتمامي على الصعيد السياسي فهو تكريس الدستور والمبادئ والديمقراطية".
وفي التحليل النهائي , فإن أردوغان , يتخذ من الإسلام ومن الديمقراطية وسائل أو أدوات لتأكيد السعادة والرفاه لشعبه , ولذلك راح يحتفظ بمسافة بيّنة تنأى به من تهمة الاسلام السياسي. وعلى أي حال , فإن الفجوة مع العلمانيين لا تعني أردوغان على الإطلاق , فقد اتّهموه دائماً , بأنه يسعى الى تقوية الإسلام السياسي , وأنه يختبئ خلف نياته الحقيقية وينتظر الظروف الملائمة للانقضاض عليهم , ومن أجل إقناع العلمانيين بأنه لا يطمح الى دولة إسلامية، لم يكتف أردوغان بالابتعاد عن القاموس اللفظي في الخطاب الإسلامي، وإنما مضى الى عدم استخدام التقويم الهجري الإسلامي. ومثل هذا الأمر , يُعتبر في رأي عدد من المفكرين الأتراك من أكثر التغيرات أهمية في شخصية أردوغان مقارنة بالماضي , عندما كان يستخدم التقويم الإسلامي أثناء مناقشة القضايا الإسلامية والعلمانية على السواء.
من النخب التركية التي اختبرت رحلة "الأسلمة المستحدثة"، مَن ينبري إلى إجراء محاكمة نقدية لتجربة الاسلام السياسي من خلال النموذج الذي يقدّمه حزب العدالة والتنمية. وهذا النموذج – حسب تصور هؤلاء – ينطوي على اضطراب، حين يريد صانعوه أن يوائموا بين اعتقادهم الفردي، وهم في موقع القرار وبين شروط قيادة الدولة وإدارة مؤسساتها.
في المقدّمات التي يلاحظها نقّاد الإسلام السياسي المستحدث، أنّ الإسلاميين الأتراك الذين نظموا أنفسهم سياسياً منذ أواخر الستينيات، راحوا يتخلّون عن نموذجهم الإسلامي الخاص لمصلحة النموذج الديمقراطي الغربي. ولم يفعلوا ذلك لأنهم تخلّوا عن معتقدهم ولا لأنهم لم يعودوا يطمحون لمجتمع إسلامي. لقد فعلوا ذلك لأنهم مرّوا بعملية دراسة للأفكار والخبرات اتضح خلالها أنه بدون الأساس المدني، أي الفصل بين شؤون العقيدة وشؤون السياسة والحياة العامة، لا يمكن تأسيس مجتمع ديمقراطي.
رئيس مركز دلتا للأبحاث المعمّقة