تكاد جميع المشاكل السياسية في العالم العربي تنحصر بمسألة الهوية. في الواقع السياسي الراهن أُنشئت الدول العربية بقرار من المستعمر, ما عدا مصر التي تمتد جذور الدولة فيها عميقا في التاريخ, والسعودية التي قامت على فتوحات عبد العزيز آل سعود لمعظم أجزاء جزيرة العرب وتوحيدها. في الشكل أوجدت الدول هوية وطنية رسمية تتجلى في الوثائق الشخصية, بطاقة هوية, جواز سفر.. لكن الهوية الوطنية الحقيقية التي تعبر عن انتماء الفرد تعيش أزمة تخبط وضياع تعلو وقت الازمات وتنخفض عند ظهور حكم قوي.
إلى جانب الهوية الوطنية, ظهرت بشكل متفاوت هويات فرعية تتقدم وتتراجع مع تقدم الفرع وتراجعه. وحدها العروبة لم تجد لها هوية وطنية حتى في جزيرة العرب والمعروفة عالمياً بالعربية Arabia.كانت الحركات القومية العربية التي وصلت إلى الحكم لفترات طويلة وأبرزها حزب البعث في سوريا والعراق حاضنة للفكر القومي العربي من دون تثبيته بهوية عربية فبقي العراقي عراقياً والسوري سورياً واليمني يمنياً و… إنما مع تطلعات وحدوية في الاطار النظري والايديولوجي.
حملت مصر لمدة ثلاث سنوات ونصف اثناء الوحدة مع سوريا ونحو تسع سنوات بعد الانفصال اسم الجمهورية العربية المتحدة وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر غيّر الرئيس السادات اسم الدولة فأصبح جمهورية مصر العربية. لكن الانكماش المصري نحو القطرية المصرية بدا واضحاً منذ الانفصال.
في داخل الدول العربية تختلط الهويات الفرعية بالهوية الوطنية الرسمية, فيعرف المواطن عن نفسه بمنطقته او اثنيته او دينه او مذهبه وفي بعض الاحيان قبيلته او الجهة القادم منها جنوبي او شمالي مثلاً. في العراق كان المكون الكردي الاكثر تمسكا بالهوية الفرعية ونشأت عن مشاكل الهوية نزاعات ما تزال قائمة حتى اليوم بين الكرد والسلطة المركزية العراقية. وفي الاردن, وهو تاريخيا من بلاد الشام, انقسم المجتمع بالهوية الى شرق اردني وغرب اردني او اردني وفلسطيني.
في لبنان اتخذت الامور نواحي عدة, ذلك انه منذ انشاء دولة لبنان الكبير عام 1920 رحب قسم من اللبنانيين بالانتماء الجديد, فيما عارض قسم آخر هذا الانتماء وتمسك بالانتماء الى الدولة السورية التي كانت تتمثل بالمملكة السورية التي أسسها فيصل بن الحسين ولم تعمر اكثر من سنة. اتفق الفريقان على رفض الهوية العثمانية التي اندثرت أصلاً بعد هزيمة الدولة العثمانية وانهيارها. نظر المسلمون الى الهوية اللبنانية انها هوية مسيحية من نتاج الحرب العالمية الاولى.وكانت المهمة الكبرى للكيان الجديد هي انشاء هوية وطنية تشكل لحمة لابناء الوطن الجديد.لا شك في ان القوة لها العامل الاساسي فقوة الانتداب الفرنسي كانت حاسمة في فرض الهوية الوطنية اللبنانية رسميا على جميع الذين يعيشون ضمن حدود لبنان الكبير. لكن ما لم يستطعه الفرنسيون هو تحويل هذه الهوية إلى هوية وطنية سياسية جامعة. كانت اصوات المسلمين التي تتحدث عن الهوية اللبنانية قليلة وبعيدة عن المزاج العام في مجتمعها, وكان الانتماء السوري في أولى مراحل لبنان أقوى عند المسلمين.
بدأت السلطة الفرنسية المنتدبة تتخذ إجراءات دعم الهوية الوطنية فكان الدستور اللبناني عام 1926 حدثا فريدا من نوعه اوجد نصا اساسيا يساوي, نظريا على الأقل, بين اللبنانيين ويضع حقوق وواجبات المواطن في قوانين من دون تمييز بين منطقة او طائفة ومن دون الاخذ بعين الاعتبار الزعامات الاقطاعية التي ورثت النفوذ السائد في مناطقها عن اجدادها منذ عهد الدولة العثمانية.بعد الدستور جاء الاستقلال عام 1943 ليجمع المسلمين مع المسيحيين في الهوية الوطنية اللبنانية الواحدة بعدما يئس المسلمون من العودة الى الكيان السوري وبعدما قدم لهم النموذج اللبناني مكاسب اقتصادية اخرى في الحريات, شجعتهم على قبول الهوية الوطنية اللبنانية والمشاركة في الحياة السياسية من دون ان يلغي ذلك الانتقادات والاعتراضات على امور اساسية كثيرة.
ثلاثة امور عززت الهوية الوطنية هي العلم الوطني الواحد والنشيد الوطني والجيش.كان الجيش قبل الاول من آب 1945 تابعا للقيادة الفرنسية وبدخوله الى كنف الحكومة اللبنانية حقق المزيد من الدعم والتثبيت للهوية الوطنية اللبنانية. على الصعيد الثقافي كانت الجهود منصبة على انشاء ثقافة وطنية لبنانية جامعة, وانشاء ذاكرة وطنية, ورموز وطنية تجمع بين اللبنانيين. كان كتاب التاريخ ورواية التاريخ ابرز جهد ثقافي لكنه لم يحقق الهدف المرجو تماما بسبب ثغرات شابت كتابة التاريخ تسلل من خلالها الكثير من الافكار التي اثرت على رسوخ الهوية الوطنية. تم تضخيم شخصيات واحداث في التاريخ وعزلها عن محيطها القريب وكانت المشكلة هي في تضخيم الاصول الفينيقية والتاريخ الفينيقي وحصره على الساحل اللبناني مع ان اكبر حاضرة فينيقية ما زالت آثارها ظاهرة اليوم هي أوغاريت شمال اللاذقية والتي جاء الكلام عليها بخفر. اما مدن عكا وحتى غزة فيجهل اللبنانيون عنها مع انها كانت مدنا فينيقية في المجتمع الفينيقي الذي كان يعتمد نظام المدينة – الدولة ولم يكن الفينيقيون يوماً موحدين في دولة واحدة تلهم المؤرخين اللبنانيين.
يكاد التاريخ الوسيط للبنان يذكر قليلا فيقفز صانعو كتاب التاريخ والثقافة الجديدة عنه ليصلوا مباشرة الى فخر الدين والدولة العثمانية وسرد روايات مشكوك في صحتها حول تعامل فخر الدين الاول مع العثمانيين ضد المماليك والتي لم يُعثَر عليها في المصادر التاريخية. كل ذلك استفز بعض المسلمين وكتب احدهم كتابا عنوانه قراءة اسلامية للتاريخ اللبناني. لم يتقدم كتاب التاريخ وصانعو الثقافة الجديدة الى اللبنانيين بالواقعية التاريخية ولم يقولوا هذا لبنان بحدوده الحالية التي رسمها الجنرال غورو وهو وطن الجميع وجزء من المحيط السوري والعربي بل حاولوا خلق حواجز بين لبنان ومحيطه. نجح اتفاق الطائف في عبارة «لبنان وطن نهائي» في ارساء هوية وطنية مقنعة اكثر من الروايات التاريخية التي ما ان يبدأ احد بتدقيقها حتى يصاب بالصدمة من كثرة اختلاق الشخصيات وتضخيم الوقائع.
اذا كان اللبنانيون قد حققوا بعد نحو من نصف قرن هوية وطنية متفقاً عليها فهي تتعرض لهجمة شرسة. فصعود الاحزاب الدينية بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982 وفشل احزاب الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في صد الاجتياح ادخل واقعا جديدا وهو نمو الهوية الدينية على حساب الهوية الوطنية وتوسع ظاهرة التدين وممارسة الطقوس والشعائر الدينية وتخلي قسم كبير من العلمانيين والقوميين والشيوعيين عن علمانيتهم ورجوعهم الى الاصل الديني. تغلب الانتماء الديني, أحضر معه الخلافات المذهبية التي أسهمت ايديولوجيا القاعدة بتعميمها. في الإسلام الشيعي بأن هناك أزمة أممية شيعية لأن إيران الدولة الشيعية الأكبر والتي تشكل رابطاً دينياً هاماً هي في الحقيقة لاتعتبر امتدادا ثقاقيا للشيعة العرب فكانت العلاقات السياسية قوية بينما العلاقات الاخرى متفاوتة. اما عند المسلمين السنة فقد اكدوا تمسكهم بلبنان ربما بسبب الخصومة مع سوريا التي تحولت الى انحسار للفكر القومي العربي السائد لديها. لكن غزوة التطرف الديني جعلت البعض يقدم الهوية المذهبية على الهوية الوطنية وهذا ما حصل عند بعض اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين. لم يعد المتشدد لبنانيا ولا سوريا ولا فلسطينيا انما اتخذ هوية مذهبية وصلت عند بعض الفلسطينيين ان يترك اراضي 1948 الرازحة تحت الاحتلال الاسرائيلي ويذهب الى سوريا ليقاتل من أجل المذهب.
تراجعت الهوية الوطنية وتراجع معها مفهوم الخطر على الامة. لم تعد اسرائيل خطراً ولا تهديداً, ولم تعد الصهيونية العنصرية المشكلة الابرز بل جرى استحضار مشاكل مذهبية وطائفية وسط صمت الغالبية وذهول الاقليات عما يجري من وقائع. الاخطر هو غياب قيادات وطنية واخرى عابرة للحدود الدول تضع حدا لهذا الخطر المستفحل الذي دق باب لبنان. المسيحيون صانعو لبنان فقدوا القوة اللازمة للحفاظ على هذا الوطن الانجاز الذي حقق الحريات ونسبة عالية من التقدم قياسا للمنطقة، لكنه بدأ ينهار تحت وطأة الهويات الفرعية. العودة الى الانتماء الوطني والى الهوية الوطنية اللبنانية تشكل مدخلا اساسيا لتسوية الازمات الراهنة والتخفيف ما امكن من الازمات المقبلة.