في المأثور العربي "آثارنا تدل علينا" ولكن ماذا إذا اختفت هذه الآثار بسبب التدمير أو النهب أو السرقة أو الاحتلال فتنفصم عرى العلاقة بين الدال والمدلول، وكذلك يفقد الزمن تواصل دوائره بين الماضي والحاضر والمستقبل.
مناسبة هذا الكلام هو الآثار الفلسطينية المستردة. كان موشي دايان مجرم الحرب ووزير دفاع الكيان الاسرائيلي الغاصب مولعاً بحب الآثار والتنقيب عنها وسرقتها والمتاجرة فيها والتصرف بها بغير وجه حق.
وكان حاكماً عسكرياً مطلق الصلاحية في الضفة الغربية يأمر جنوده بالتنقيب وأحياناً بمساعدة سكان المنطقة. وكان دايان يهدي هذه القطع الأثرية إلى أصدقائه ومنهم بعض غلاة الأمريكيين الصهاينة في النصف الثاني من القرن المنصرم، ومن الذين وفروا الدعم والمساعدة لإسرائيل.
وتمر الأيام ويرتأي أحد أحفاد هؤلاء أن هذه القطع الأثرية لا قيمة لها سوى ما تحرزه قيمتها المالية في المزاد العلني. هنا كانت اللحظة المؤاتية "لمؤسسة سعاده للثقافة وجمعية إنماء" بشراء هذه القطع واستردادها واستقدامها الى لبنان بالطرق والإجراءات القانونية اللازمة.
وهكذا ربحت مؤسسة مدنية غير حكومية (سعاده وإنماء) معركة حضارية ضد العدو الإسرائيلي، وكشفت النقاب عن فضيحة تاريخية تحاول اسرائيل (العدو الغاصب) تغطيتها كل يوم بالمجازر والمؤامرات. وتزييف التاريخ ورفض القرارات الدولية.
هذه الآثار ستجد طريقها يوماً الى فلسطين وشعبها ودولتها. ولكن لا بد من تعزيز الجهود وتشبيكها لحماية الآثار في بلادنا. هذا الإرث الذي هو ملك كل امرأة وطفل وشيخ ورجل في بلادنا. ولنا في تجربة (سعاده للثقافة وإنماء) البرهان والعبرة والدليل.
ذات مرة كتب الصحافي والباحث الراحل فرد هاليداي: "أن اسرائيل مشروع غير قابل للحياة مثل نظام جنوب افريقيا العنصري مثل الجزائر الفرنسية ومثل الاتحاد السوفياتي، ولكنه لن يزول قبل أن ندفع جميعاً الثمن."
لا تزال اسرائيل تمارس النظام الاستعماري في فلسطين، وتستبيح كل المحرمات والمعايير والأعراف لتستمر. سرقت فلسطين، وسرقت الآثار، وقتلت الشهود، ولكن الصراع مع اسرائيل هو صراع وجود وصراع حضارة. وهو صراع أجيال لا يملك أحد حق حسمه بتسويات أو صفقات غامضة.
هذا العدد من مجلة "تحولات مشرقية" خصص لملف الآثار في بلادنا، والآثار التي سرقت وتحرق وتنهب وتُدمر في صورة رمزية لتمزيق شعبنا ووحدتنا وتشويه تاريخنا وهويتنا الحضارية.
وبعد، التحية مستحقة الى مؤسسة سعاده للثقافة ولجمعية إنماء على الإيمان بالقضية وإرادة التحدي وتصويب المسار على قوة الأمل الذي يُحفزنا لأن نفعل شيئاً، وكلٍ في مجاله.
تحية إلى الشعب الفلسطيني في انتفاضاته التي لن تتوقف حتى تحرير الإرداة الوطنية وكامل التراب الفلسطيني.