شهد البحر الأبيض المتوسط – كما البحار والمحيطات الأخرى – عبر تاريخه القديم والوسيط والحديث، صراعاً مريراً بين أساطيل الدول والإمبراطوريات. كما شهد معارك بحرية دامية، اصطبغت فيها مياهه بدم المتقاتلين من أطراف الصراع، كما كان الحال في معركة «ذات الصواري» بين الأسطول العربي الإسلامي والأسطول الرومي البيرنطى عام 34ه/655م.
فماذا عن البحر الأبيض المتوسط؟ وما هي معركة «ذات الصواري» (المعروفة في المراجع الغربية باسم «معركة فونيكه» (Phoenws)؟ وماذا عن فنّ الدهاء الحربي فيها؟
في الحقيقة، يتمتع البحر الأبيض المتوسط بميزات ذات طابع جيو- استراتيجي، باعتباره يفصل بين قارات ثلاث: أوروبا وآسيا وأفريقيا. وهو بدوره نقطة التقاء هذه القارات. ونتيجة لهذا الموقع الهام والاستراتيجي، فقد كان محور صراع طويل منذ أقدم العصور، وحتى أيامنا، وسيبقى كذلك دائماً على الرغم من تطوّر وسائل المواصلات وتقدّمها. كما أن من يفرض سيطرته عليه يستطيع التحكّم بالقارات الثلاث: أوروبا – آسيا – أفريقيا.
ولقد كان لهذا البحر دور كبير في التطوّرات التاريخية والأحداث المصيرية منذ القديم. وكانت السيطرة عليه هدف كل دولة قامت على سواحله.
من هذا المنطلق، كتب الباحث الاستراتيجي في شؤون البحر وأساطيله، الدكتور إبراهيم أحمد العدوي قائلاً :«يتمتّع البحر الأبيض المتوسط منذ أقدم العصور إلى الوقت الحاضر بموقع جغرافي فريد، جعله مطمع كل قوة تبغي لنفسها الازدهار والسلطان. ولكن لم تستطع أيّة قوة أن تنال الخلود الذي فاز به العرب باستقرارهم على شواطىء هذا البحر. فبينما اندثرت حضارات وانهارت دعائم أمم ازدهرت على جوانب هذا البحر، ما زالت أقدام العرب راسخة إلى اليوم في رقعة شاسعة، تضم شواطى الشام ومصر وشمال إفريقيا، أي ما يقارب من نصف شواطىء البحر الأبيض المتوسط.
ويُعزى سرّ هذا الخلود إلى أن العرب اتخذوا أهبتهم لركوب البحر الأبيض المتوسط وفق خطوات منظمة ومدروسة، بعيدة عن الارتجال، وذلك منذ أطلّوا على مياهه في القرن السابع الميلادي حاملين راية الإسلام. لذلك قامت صفوة من قادتهم تدعو إلى بناء أسطول عربي في البحر الأبيض المتوسط»([1]). وأضاف العدوي يقول:
«ولم يلبث هذا الأسطول العربي الفتيّ أن هزم بحرية الروم وانتزع منها سيادة البحر الأبيض المتوسط، الذي زالت عنه صفة«بحر الروم» وصار بحيرة عربية. ولم تلبث الأساطيل العربية أن تعدّدت باهتمام العرب في شمال إفريقية (بلاد المغرب) والأندلس ببناء سفن حربية أسهمت في إعزاز مجد العرب في البحر الأبيض المتوسط.
وقد نالت الأساطيل العربية الفوز الباهر بفضل شبكة واسعة من القواعد البحرية ودور الصناعات، التي سهرت على خدمتها. وكذلك نتيجة إعداد طبقة ممتازة من الرجال البحريين الذين قادوا تلك الأساطيل في براعة ومهارة إلى النصر المبين([2]).
والواقع، إن من يسيطر سيطرة تامة على البحر الأبيض المتوسط يستطيع فرض وجوده على المدن الواقعة على سواحل هذا البحر والانطلاق منها للسيطرة على مراكز الثقل في القارات الثلاث .وقد عرف هذا البحر صراع الأساطيل اليونانية والرومانية والفارسية والقرطاجية …. فوق مساحته المائية وعلى سطحه المائي، تمخض عنه انهيار امبراطوريات ودول وقوى عظمى، وقامت على أثره دول وامبراطوريات أخرى تنازعت ميدان النفوذ والسيطرة عليه والتحكّم بموقعه وجغرافيته، كمقدمة للتحكّم بتاريخة([3]). ولم يكن صراع الأسطولين العربي الإسلامي والرومي البيزنطي إلا من هذا القبيل.
ولقد أدرك الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان هذه الحقيقة، فركز جهده لبناء القوة البحرية. وعرف الأمويون بعد ذلك أهمية البحر فمنحوه الأفضلية الأولى في مخطّطات عملياتهم. وسارت عمليات تطوّر البحرية في خط موازٍ للعمليات البريّة. وأمكن بذلك بناء الدولة الأموية القوية([4]).
كان الهدف الأول للأمويين تصفية الدولة البيزنطية. ورغم فشلهم في القضاء عليها على نحو يماثل قضاء العرب المسلمين على الدولة الفارسية، إلا أن بناء قوتهم البحرية ساعدهم على تقليص نفوذ دولة بيزنطة حتى اقتصرت في عهد معاوية وسليمان بن عبد الملك على مدينة القسطنطينية وحدها.
كما أن سيطرة الأمويين على البحر الأبيض المتوسط قد حطّمت معنوياً نفوذ بيزنطة، واستطاع الأسطول العربي الإسلامي تحقيق کثير من الأهداف منها:
- حماية السواحل وتحقيق الأمن المباشر للدولة العربية.
- نجح في بناء الدولة العربية الإسلامية، وتحطيم نفوذ بيزنطة بالدرجة الأولى، وأسهم في عمليات فتوح الجزر، ضمن استراتيجية السيطرة عليها، كمقدمة لفتح إسبانيا.
- حقق في مجال فن الحرب والدهاء نجاحات رائعة كانت مصدراً من المصادر الهامة في تطوير الأساطيل البحرية عبر التاريخ([5]).
هذا، وقبل أن نتطرّق إلى الحديث عن معركة «ذات الصواري»، والدهاء الحربي الذي عُرف فيها من الفريقين المتحاربين، العرب المسلمين والروم البيزنظيين، لا بدّ من الإشارة إلى موضوع «فن الدهاء الحربي» ومقوّماته ومشروعيّته في الحروب.
لذلك نستطيع القول أن:
الحرب والدهاء عاملان ملتحمان ببعضهما البعض التحاماً وثيقاً يصعب الفصل بينهما. وأيّة حرب لا دهاء فيها، ليست حرباً حقيقية، ولا يجب إصباغ الطابع الحربي عليها، لأنّها تفتقد إلى أبرز عناصرها المكوّنة للإنتصار …
ومن هذا المنطلق يتوضّح أن الدهاء (والحيلة) هو القاسم المشترك بين حروب ما قبل الميلاد وما بعده حتى يومنا هذا … كما يبقى الإنسان والعقل هما الأساس في الحرب والدهاء … فالعقل هو «الولاّعة السحرية» التي تقدح شرراً لاهباً عندما يمعن الفكر بالتأمل والتركيز الواعي بهدوء… والعقل هو قمّة قوّة العالم. والقوى العقلية هي المحرّك الفعلي لهذه القوة. والذكاء في رأس قائمة هذه القوى. إذ أن «هناك ثالوثاً يسيطر على ميدان القتال والمعركة أيضاً، وهذا لا يخفى على أحد وهو: الذكاء – والشجاعة – والسلاح»([6]).
هذا، وتشمل الحروب غالباً الجزء الأكبر من الترتيبات والمناورات والحسابات قبل العمل وأثناء العمل نفسه. والحقيقة أنّنا لا نمجّد المنتصر لانتصاره وليس لشجاعته فحسب، ولكنّنا نشيد بقدرته العالية على الحيل والذكاء الذي يتمتع بهما، وهذا طبعاً تمجيد لفنّه المزدوج في الكسب والإقناع واجتياز المواقف المتقلّبة. ولا شك أن طريق القائد لتحقيق أهدافه وإنجاز مهمته، لا بد له أن يتّصف بالقدرة على التأمّل والتفكير السليم والخيال الواسع، بغضّ النظر أن ننظر إلى عمله بأنّه عمل غريزي. وأغلب صفات القادة العسكريين خلال التاريخ العسكري يتمثل في قدرتهم الأساسية على تكوين الفكرة لتوجيه عملهم([7]).
والجدير بالذكر، أن الإنسان هو مدبّر الحرب، وهو وقودها وأداتها الأولى، والحقيقة أن ما يتمتع به الإنسان من القوى العقلية هي المحرك الفعلي (كما سبق وأشرنا)، فمن هذه القوى العقلية تنبثق الإدارة ووسائل وطرق القتال وتنظيمه وشكله. وهذا ليس بغريب لأنّها قمة قوة العالم. فهذه القوى العقلية للإنسان هي التي بدّلت سطح الأرض وخلقت الحضارات وقوّضتها. ولقد تشكّلت النشاطات العقلية الواعية للإنسان من زمان مضى قبل وقت طويل أو بعيد بحيث تمثّلت على هيئة نشاطات فكرية ومعنوية وجمالية ودينية واجتماعية. وطبيعي أن الذكاء كان حاضراً في كل ذلك. والذكاء يحتاج لنموّه وظهوره دائماً إلى التدريب المستمر والتمارين. كما أن التركيز ينمّي الذكاء والدهاء والتبعثر يؤذيه. لكن الذكاء بمفرده غير كافٍ للإنسانية للتطوّر على طريق المعرفة، ولكن يحتاج ذلك إلى عمل العلماء المبدعين والقادة مع وجود قدرة غريبة، هي خليط من الإلهام والتخيّل الخلّاق والإيحاء، قادرة على ملاحظة العلاقات بين الظواهر المنعزلة والمتغيرة، وبالتالي تبيّن الحقيقة بدون الحاجة إلى التفكير، أو بتفكير سريع للملاحظات الآنية، ومن المحتمل أن يعتبر ذلك نوعاً من الإنسجام الوثيق مع الواقع([8]).
وبدوره يقول العماد حسن توركماني (أحد رؤساء أركان الجيش العربي السوري) في كتابه «الدهاء في الحرب» ما يلي :
«الدهاء صفة وسمة للعقل وقدراته غير المحدّدة. والدهاء ليس حكراً على الأعمال العسكرية بل إنه قد يكون ضرورياً في الكثير من ممارسات الإنسان ونشاطاته ذات الصلة بأعمال الفكر والبحث، وباعتبار الدهاء معنياً بالبحث في كافة جوانب المشكلة أو المعضلة (المعركة) التي تواجه الإنسان (القائد) وتقليب أوجه حلّها من خلال التحليل والتركيب ومحاكاة تصرّف الخصم وإنتاج أفضل حلّ من بين الحلول الممكنة والذي يؤدي إلى النجاح أو إلى تحقيق الهدف الذي نتوخّاه، وغنيّ عن البيان أن الدهاء هو نتيجة لنشاط عقلي لإنسان أو قائد يمتلك عقلاً راجحاً»([9]). ويضيف العماد توركماني قائلاً :
«وتبدو ممارسة الدهاء في العمل العسكري مشوبة بمظاهر الخداع والحيلة، مما يثير لدى بعض الناس فكرة تعارض هذه الممارسات مع الأخلاق. إلا أن البحث والتعمّق في تحليل مسألة الدهاء واستخدامها في الحرب يُظهر أن ذلك أمراً مشروعاً تماماً، ويستمد مشروعيّته من جهة، من مشروعيّة الحرب التي يخوضها القادة والقوات للدفاع عن الوطن وكرامته واستقلال البلاد والذود عن ترابها. كما أن الحرب صراع مصيري ولا بد فيها من بذل أقصى الجهد والبحث عن كل وسيلة ممكنة لدفع الأذى والمحافظة على البلاد في مواجهة عدو يستهدف القضاء على المدافعين واحتلال الأرض. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأديان كلّها أعطت حق الدفاع عن النفس مشروعيّته. وكما قال سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلم إبّان غزوة الأحزاب «الحرب خدعة».* وبذلك يعطي النبي العربي المثل في ردّ الأذى والمحافظة على الرسالة من بطش قريش. وقد أدى الدهاء في تلك الغزوة إلى تفرّق الأحزاب وانتصار المسلمين. وبهذا نجد أن الدين لا يعتبر ممارسة الدهاء عملاً لا أخلاقياً بل مشروعاً. وكذلك الشرعية الدولية تؤكّد على حق الدفاع المشروع.
ويمكن القول أن ممارسة الدهاء ليس عملاً مشروعاً وأخلاقياً فحسب، بل إنه مطلوب ومستحسن في الممارسة العسكرية، ويصبّ في خانة النوعية في الممارسة العسكرية. فالدهاء هو قمّة التفكير والإبداع في العمل العسكري، وقد حقّق الدهاء عبر العصور نجاحاً وانتصاراً في المعارك والعمليات.
والحق أن الدهاء في الممارسة العسكرية يجب أن ينتج تدابير وإجراءات تؤدي إلى مفاجأة العدوّ وغالباً ما يؤدي تحقيق المفاجأة إلى النصر كما هو معروف لدى الجميع»([10]).
هذا، وقد صدق المنظّر العسكري الكبير كلاوزفيتز عندما قال:«إن كل مفاجأة تتضمن درجة معينة من الحيلة (أو الدهاء)… ولا تتحقق المفاجأة بدون الدهاء، ولا يتحقق النّصر بدون المفاجأة».([11]) ويبقى الإنسان الواعي والمفكر، والذي يتميز بذكاء ودهاء وذهن وقّاد يقدح الأفكار ويبدع الخطط، هو المحور في كل الحروب ومجرياتها. وعلى هذا الأساس، قال القائد الفرنسي الشهير نابوليون بونابرت: «يتوقف مصير المعركة على خطّة أو فكرة … وما إن تلمع الشرارة المعنوية حتى تنفّذ العمل أصغر قوة احتياطية»([12]). لذلك، كان الانتصار الباهر للأسطول العربي الإسلامى على الأسطول الرومي في معركة ذات الصواري، هو وليد «الفكرة» التي تفتّقت عن ذهن القائد عبد الله بن سعد بن أبي سرح وأعوانه القادة بعد مشورتهم. فكيف كان ذلك؟
معركة «ذات الصواري» (34ه/ 29 آب 655م):
في الوقت الذي يعتبر فيه معاوية بن أبي سفيان مؤسّساً لأول بحرية عربية في التاريخ الإسلامي، والأسطول العربي الأوّل في ذلك الحين، وقد سطّر من خلاله انتصارات باهرة على الشواطئ في بلاد الشام وآسيا الصغرى حتى «رودس»، فأصاب الروم البيزنطيين بضربة حاسمة في أفريقيا وسواحلهم في المتوسط. عندها قرّر الامبراطور البيزنطي قسطنطين بن هرقل «المفاجأة» للعرب المسلمين. فكانت معركة «ذات الصواري» المعركة الفاصلة بين الأسطولين([13]). وقبل هذه الأثناء عيّن الخليفة عثمان بن عفان لإمارة البحر في مصر عبدالله بن سعد بن أبي سرح. وقد بذل عبد الله جهده لتنظيم القوة البحرية وتجهيزها. واشترك مع أسطول الشام في غزو قبرص.
وضع الروم مخطّطاً لتدمير الأسطول العربي الإسلامي، فاتصلوا بأنصارهم لتدمير الأسطول في ميناء طرابلس، وهو الأسطول الذي كان معاوية قــــد حشده لغزو القسطنطينية. وقام العملاء وأنصار الروم بإحراق الأسطول وهربوا إلى القسطنطينية. ثم تحرك قسطنطين بن هرقل على رأس أسطول ضخم يضم ألف قطعة بحرية لغزو الشواطىء العربية، وكان الروم قد بنوه من قبل في القسطنطينية، لضرب المسلمين ضربة يثأر با لخسارته الكارثية في البر.
هذا، وعندما كان القائد عبد الله بن سعد بن أبى سرح الساعد الأيمن لمعاوية في بناء الأسطول في مصر، وإرسال قطعه إلى الشام، فكان له الفضل الأكبر في قيادة معركة ذات الصواري إلى جانب مراكب الشام التي أرسلها معاوية بقيادة بُسْر بن أرطأة الفهري، واجتمع مع عبد الله بن سعد في مراكب مصر، وكانت كلّها تحت أمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط([14]).
سار هذا الركب، وفيه أشجع المجاهدين المسلمين مما أبلوا في الحروب السابقة. لقد انتصر هؤلاء على الروم من قبل في معارك عديدة، فشوكة عدوّهم في أنفسهم محطّمة، لا يخشونه ولا يهابونه، على الرغم من قلّة عدد سفنهم إذا ما قيست بعدد سفن العدو. خرج المسلمون إلى البحر وفي أذهانهم: أننا سنجعل الروم اليوم يحسبون للقوة البحرية الإسلامية الفتية ألف حساب.([15])
ويمكننا أن نلخص أسباب اللقاء البحري بما يلي:
- الضربات القوية التي وجّهها المسلمون إلى الروم في أفريقية.
- أصيب الروم في سواحلهم الشرقية والجنوبية بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها.
- خشية الروم من أن يقوى أسطول المسلمين فيفكروا في غزو القسطنطينية.
- أراد قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية براً وعلى شواطئه في بلاد الشام ومصر وساحل برقة.
- كما أراد الروم خوض معركة ظنوا أنها مضمونة النتائج، كي تبقى لهم السيطرة في المتوسط فيحافظوا على جزره، فينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب.
- محاولة استرجاع الإسكندرية بسبب مكانتها عند الروم، وقد ثبت تاريخياً مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل ملك الروم.
ما سبق كان سبب معركة «ذات الصواري»([16]).
وهنا نصل إلى السؤال الجوهرى: كيف سارت أحداث هذه المعركة؟
قال مالك بن أوس بن الحدثان([17]): «كنت معهم – في ذات الصواري – فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا – أي لصالح مراكب الروم – فأرسينا ساعة، وأرسوا قريباً منا. وسكنت الريح عنا قلنا – للروم – الأمن بيننا وبينكم – قالوا : ذلك لكم، ولنا منكم».
كما طلب المسلمون من الروم. إن أحببتم ننزل إلى الساحل فنقتتل، حتى يُكتب لأحدنا النصر، وإن شئتم فالبحر.
قال مالك بن أوس: فنخزوا نخزة واحدة، وقالوا: الماء … الماء… الماء. وهذا يظهر لنا ثقة الرّوم بخبرتهم البحرية، وأملهم بالنصر لممارستهم أحواله وفنونه… مرنوا عليه فأحكموا الدراية بثقافته وأنوائه، فطمعوا بالنصر فيه،خصوصاً وأنهم يعلمون حداثة عهد المسلمين به. بات الفريقان تلك الليلة في عرض البحر، وموقف المسلمين حرج، فقال القائد المسلم لصحبه: «أشيروا عليَّ»؟؟.
فقالوا: انتظر الليلة بنا، لنرتب أمرنا، ونختبر عدوّنا، فبات المسلمون يصلّون ويدعون الله عز وجل ويذكرونه، ويتهجّدون، فكان لهم دويّ كدوي النحل، على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب. أما الروم فباتوا يضربون النواقيس في سفنهم.
لقد بات كل منهما يهيّئ نفسه روحياً، فجميع الشعوب قديماً وحديثاً تركز على الإعداد الروحي قبل المعركة، وأفضلها أثراً في النفوس، سيكون لأصحابها النصر… ([18])
أصبح القوم، وأراد قسطنطين أن يُسرع في القتال، ولكن عبد الله بن سعد، لما فرغ من صلاته إماماً بالمسلمين للصبح، استشار رجال الرأي والمشورة عنده، فاتفق معهم على خطّة رائعة:
يمكننا أن نجعل المعركة بريّة على الرغم من أنّنا في عرض البحر، فكيف تم للمسلمين ذلك؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن عدوهم، فنزل الفدائيون، أو «رجال الضفادع البشرية في عرفنا الحالي» إلى الماء، وربطوا السفن العربية بالسفن الرومية، ربطوها بحبال متينة، فصار 1200 سفينة في عرض البحر، كل عشرة أو عشرون منها متصلة مع بعضها، فكأنها قطعة أرض ستجري عليها المعركة.
وصفَّ عبد الله المسلمين على نواحى السفن يعظهم ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصاً سورة الأنفال لما فيها من معاني الوحدة والثبات والصبر…
(وأطيعوا الله ورسوله، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا إن الله مع الصابرين)([19])… إن معاني هذه السورة الكريمة لهي من المعاني المناسبة للموقف المناسب.
بدأ الروم القتال، فهم في رأيهم قد ضمنوا النصر عندما قالوا: بل الماء… الماء… الماء… وانقضّوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنصر، مستهدفين ضربة أولى حاسمة يحطمون بها شوكة الأسطول الإسلامي. فنقض الروم صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم، وصار القتال كيفما اتفق وكان قاسياً على الطرفين، وسالت الدماء غزيرة، فاصطبغت بها صفحة الماء. فصار أحمراً. وترامت الجثث في الماء وتساقطت فيه، وضربت الأمواج السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وقتل من المسلمين الكثير وقتل من الروم ما لا يحصى. حتى وصف المؤرخ البيزنطي «تيوفانس» هذه المعركة بأنها كانت «يرموكاً» ثانياً على الروم. ووصفها ” الطبري ” بقوله: إن الدم كان غالباً على الماء في هذه المعركة([20]).
حاول الروم أن يغرقوا سفينة القائد المسلم عبد الله، كي يبقى جند العرب المسلمين دون قائد. فتقدّمت من سفينته سفينة رومية ألقت إلى سفينة عبد الله السلاسل لتسحبها، وتنفرد بها. ولكن علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السفينة والقائد، بأن ألقى نفسه على السلاسل وقطعها بسيفه([21]).
وصمد المسلمون رغم كل شيء، وصبروا كعادتهم في معاركهم، فكتب الله عز وجلّ لهم النصر بما صبروا، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي، وكاد الإمبراطور قسطنطين أن يقع أسيراً في يد المسلمين، كما ذكر ابن عبد الحكم، لكنه تمكّن من الفرار لما رأى قواه تنهار، وجثث جنده على سطح الماء تلقي بها الأمواج إلى الساحل([22]).
لقد رأى أسطوله الذي تأمّل منه خيراً ونصراً وإعادة كرامة، يغرق قطعة بعد أخرى، ففرّ مدبراً والجراحات في جسمه، والحسرة تأكل فؤاده، يجرّ خيبة وفشلاً … فوصل جزيرة صقلية … ألقت به الريح هناك … فسأله أهلها عن أمره، فأخبرهم، فقالوا: «شمت النصرانية، وأفنيت رجالها، لو دخل العرب لم نجد من يردّهم» فقتلوه، وخلوا من كان معه في المركب…
نتائج معركة ذات الصواري:
- كانت ذات الصواري أول معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيّ الصبر والإيمان، والجلد والفكر السليم، بما تفتّق عنه الذهن الإسلامي. خطّة جعلت المعركة صعبة على أعدائهم، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولة، كما استخدم المسلمون خطاطيف طويلة يجرون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للروم([23]).
- كانت ذات الصواري حداً فاصلاً في سياسة الروم إزاء العرب المسلمين، فأدركوا فشل خططهم فى استرداد هيبتهم، أو استرجاع مصر أو الشام، وانطلق المسلمون في عرض هذا البحر، الذي كان بحيرة رومية، وانتهى إسم «بحر الروم» إلى الأبد. واستطاع العرب المسلمون فتح قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر الباليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا.
- انتهج عبد الله بن سعد بن أبي سرح سياسة النبيّ الكريم محمد (ص) في مبدأ «الشورى»، كما في حربه «الخدعة»، فكانت المعركة البحرية معركة «برية» بامتياز (ولو كانت فوق سطح الماء) مما أفقدت الروم البيزنطيين براعتهم وعبقريتهم البحرية.
- أفشلت خطّة عبد الله بن سعد«المفاجأة» التي خطط لها الامبراطور قسطنطين للقضاء على القوة البحرية الإسلامية الفتيّة، تماماً مثلما أفشل علقمة بن يزيد الغطيفي خطة قسطنطين أيضاً وفكرته الحربية في جرّ سفينة القائد عبد الله بن سعد وقتله … فحصد مجموعة «هزائم» مقابل مجموعة «انتصارات»عربيّة إسلامية.
- أثبتت معركة ذات الصواري أن القلّة لا يُعتدّ بها، وكثيراً ما تغلّبت القلة على الكثرة، ورجّحت الكفّة على الأعداء المتفوقين في موازين القوى عدّة وعدداً([24]).
- أكدت هذه المعركة صحّة قرار الخليفة عثمان بن عفان في توليةعبدالله بن سعد بن أبي سرح ولاية مصر وقيادة الأسطول العربي فيها، رغم كل الانتقادات التي وجّهت للخليفة بسبب هذا، بالإضافة إلى أنّه كان على ميمنة القائد عمرو بن العاص في فتح مصر وفي حروبه كلها، وهو لا يطمع بخلافة، ولا يرى لنفسه حقاً بها. وقد تحقّقت فراسة الخليفة عثمان به، وأحرز نصراً مهماً بعد أن قاد الجند بحكمة ودراية([25]).
وهكذا في معركة ذات الصواري:
- بني الأسطول العربي بأيدٍ عربية وطنيةو إسلامية.
- لم يأذن عمر للمسلمين بالغزو بالبحر شفقة عليهم وخشية على أرواحهم قبل استكمال بناء الأسطول لضمان النصر في وقته المحتوم.
- سبب المعركة إنكسارات الروم المتتالية في البر، فأرادوا تحطيم الأسطول الإسلامي الفتيّ في مهده، بحراً، لكنّهم حصدوا فشلاً بالغاً([26]).
- هرب قسطنطين من المعركة، تاركاً جنده للأقدار. هل هناك قائد عربي مسلم يترك جنده ليفرّ ناجياً بنفسه؟
أين موقف قسطنطين هذا من موقف الأمير الفارس النعمان بن مقرّن المزني؟ أما تمنّى أن يكون أول شهيد في المعركة؟
أين هذا الموقف من موقف خالد بن الوليد في اليرموك عندما كان يرى الموقف الحرج فيدفع نفسه إليه ليدرأ هذا الخطر عن جنده.
هذه الانهزامية التي أظهرها قسطنطين ما عرفها تاريخ الإسلام، وقد عرفها التاريخ الأوروبي الحديث عن نابليون عندما ترك جنده للطاعون، وللسفن الإنكليزية تلعب بهم، وهرب إلى فرنسا بعد أن تحطّمت آماله على أسوار عكا. هذه النفسية ما عرفها قادة الإسلام في فتوحاتهم بفضل التربية النضالية التي ربّى عليها رسول الله(صلعم) صحبه.
- أصبح البحر المتوسط بحيرة عربية إسلامية، وصار الأسطول الإسلامي سيّد مياه البحر المتوسط، وهذه السطوة ليست للتسلّط والقرصنة بل للتحرير ليس غير. فأينما حلّوا حلّ العلم والخير والرفاهية والعدالة الإنسانية. وتشهد بذلك الأندلس وصقلية وجنوب فرنسا.
- عكف المسلمون على دراسة علوم البحرية، وصناعة السفن، وكيفية تسليحها وأسلوب القتال من فوقها، وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار ومعرفة مواقعهم على المصوّرات البحرية المختلفة، فعرفوا الاصطرلاب «البوصلة الفلكية» وطوّروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون أمثال: كريستوفر كولومبس، وأمريكو فيسبوشي في اكتشافاتهم([27]).
وهكذا، أنهت معركة «ذات الصواري» عصر السيادة البيزنطية في شرق البحر الأبيض المتوسط، فاطمأن المسلمون إلى أن هجمات البيزنطيين المفاجئة على شواطئهم أصبحت بعيدة الاحتمال، فتمتّعوا بالأمان والهدوء على طول الساحل الإسلامي، بعد أن أصبح الطريق نحو القسطنطينية ممهّداً أمام القوات الإسلامية لتواصل زحفها نحو عاصمة الدولة البيزنطية. كما كانت هذه المعركة، من جهة أخرى، فاتحة الحروب البحرية العربية التي حوّلت البحر الأبيض المتوسط إلى «بحر شامي» و«بحر عربي إسلامي»، بعد أن عُرف مدة طويلة من الزمن بـ «البحر الرومي» أو «بحر الروم» ….. وقد دخلت هذه المعركة، التاريخ البحري من أوسع أبوابه، وبنصر استرا تيجي كبير، مسجّلاً انتهاء عصر سيادي (رومي- بيزنطي) وبداية عصر سيادي (عربي إسلامي) في عالم البحار والمحيطات، وبروز المسلمين قوة مؤثّرة يحسب حسابها في عالم البحر، كما في عالم البر من قبل، ومن بعد. ([28]) وأحرز الدهاء العربي نصراً باهراً على الدهاء الرومي.
ونظراً للمكانة التي تبوّأها الأسطول العربي الإسلامي، لاسيما بعد معركة «ذات الصواري» وأصبح من أبرز أساطيل العصور الوسطى، فقد دفع الكثيرين من شعراء العرب أن يشيدوا بهذا الأسطول وانتصاراته المميّزة، حيث كان من بينهم أمير الشعراء أحمد شوقي، قائلاً:
يا معشر الإسلام في أسطولِكمْ عِـــــــــزٌّ لكــــــــــــم ووقــــــايةٌ وســــــــــــــلامُ
جُودُوا عَلَيْهِ بِمَالِكُمْ وَاقْضُوا لَهُ مـــــا توجِبُ الْأَعْــــــلَاَقُ والأَرْحَــــــــامُ
لَــوْ تُقْرِئُونَ صغَــــارَكُمْ تــاريخَهُ عَرَفَ الْبَنُونَ المَجدَ كَيْفَ يُرَامُ([29]).
[1] – العدوي، ابراهيم أحمد، الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، القاهرة 1957، ص) المقدمة).
[2] – العدوي، ابراهيم أحمد، المرجع السابق نفسه، والصفحة الثانية من المقدمة.
[3] – للتوسع في ذلك، راجع كتاب: العسلي، بسّام، المذاهب العسكرية في العالم، دار النفائس، بيروت، ط1، 1993، ص 245- 259.
[4] – العسلي، بسام، فنّ الحرب في عهود الخلفاء الراشدين والأمويين، دار الفكر، بيروت، ط1، 1974 ، ص 219 (ج1).
[5] – العسلي، بسام، المرجع السابق، ج1، ص 220.
[6] – الحميميدي، العميد الركن محمد بن علي، الحرب والذكاء والقيم الفكرية والمعنوية، (طباعة خاصة)، الرياض 2014، ص 3، كما يمكن مراجعة کتاب: فرونتينيوس، خدع حربية، ترجمة عبد الله فؤاد كحيل، دار الفارابي، بيروت، 1986 .
[7] – الحميدي، محمد بن علي، المرجع السابق نفسه، ص 4-5.
[8] – المرجع السابق نفسه، ص9-10.
[9] – توركماني، العماد حسن، الدهاء في الحرب، دار الفكر للطباعة والنشر، بيروت، 2000، ص 7.
* – جاء ذلك في كلمة رسول الله محمد (ص) لنعيم بن مسعود في غزوة الأحزاب، (أو غزوة الخندق) قائلاً: «يا نعيم إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنا ما استطعت فإن الحرب خدعة».
[10] – توركماني، العماد حسن، المرجع السابق نفسه، ص 8-9.
[11] – کلاوزفيتز، الجنرال كارل فون، عن الحرب، ترجمة سليم شاكر الإمامي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1997، ط 1 ، وقد ذكرها العماد توركماني في كتابه السابق، ص 13 و16.
[12] – الحميميدي، محمد علي، مرجع سابق، ص 11.
[13] – انظر: الطبري، أبو جعفر محمد بن جرير، تاريخ الرسل والملوك، دار المعارف، مصر 1960، ج4 ، ص 288. وأيضاً: ابن عبد الحكم القرشي، فتوح مصر والمغرب، مطابع لجنة البيان العربي، القاهرة، (د.ت)، ص 255.
[14] – زهر الدين، صالح، موسوعة معارك العرب، ج 3، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط1، 2003، ص 66. (معركة ذات الصواري).
[15] – الطبري، مصدر سابق، ج 4، ص 290.
[16] – أبو خليل، شوقي، ذات الصواري بقيادة عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، دار الفكر، دمشق، ط3، 1986، 60-61.
[17] – مالك بن أوس بن الحدثان اليربوعي (أبو سعيد) هو تابعي من أهل المدينة، كان عريف قومه في زمن الخليفة عمر بن الخطاب. (راجع: الزركلي، خير الدين، معجم الأعلام، دار العلم للملايين، بيروت (د.ت)، ج6، ص 129.
[18] – الطبري، مصدر سابق، ج4، ص 290.
[19] – سورة الأنفال، الآية 46.
[20] – الطبري، مصدر سابق، ج4، ص 290-291.
[21] – ابن عبد الحكم القرشي، فتوح مصر وأخبارها، مصدر سابق، ص 190.
[22] – ابن عبد الحكم، المصدر السايق نفسه، ص190-191.
[23] – أبو خليل، شوقي، ذات الصواري، مرجع سابق، ص68.
[24] – راجع تفصيلياً في ذلك: المغلوث، سامي بن عبد الله بن أحمد، أطلس الفتوحات الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين، مكتبة العبيكان، الرياض، ط 2 ، 2015، ص 632.
[25] – أبو خليل، شوقي، مرجع سابق، ص 69-70 .
[26] – محفوظ، جمال الدين، معركة ذات الصواري، دراسة منشورة في مجلة «الأمة»، العدد 71، سنة 1406 هـ.
[27] – أبو خليل، شوقي، ذات الصواري، مرجع سابق، ص 75-76.
[28] – زهر الدين، صالح، موسوعة معارك العرب، مرجع سابق، ص 75-76.
[29] – أنظر: إبراهيم أحمد العدوي، الأساطيل العربية في البحر الأبيض المتوسط، مكتبة نهضة مصر بالفجالة، 1957، ص ج (بعد المقدمة).