لم يعد القمع في عصرنا الراهن يقتصر على أدوات السلطة التقليدية، ولا على الجغرافيا السياسية أو الأنظمة المستبدة.
التكنولوجيا، بتطورها المتسارع، دخلت مباشرة إلى قلب معركة السردية، حتى صارت معايير ما يُسمح بقوله وما يُجرَّم قوله تُصاغ في مختبرات الذكاء الاصطناعي وأروقة الجامعات الغربية، وتُفرض على منصات العالم الرقمي من دون مراجعة أو مساءلة.
فك شيفرة معاداة السامية
أخطر تجلٍ لهذا التحول يظهر اليوم في «مركز أبحاث معاداة السامية» في جامعة برلين التقنية. انتقل مشروع Decoding Antisemitism (فك شيفرة معاداة السامية)، بقيادة ماتياس ج. بيكر والباحثة المشاركة هيلينا ميهالييفيتش، والمموّل من مؤسسة «ألفريد لانديكر»، من كونه بحثاً أكاديمياً إلى محاولة فرض خوارزمية تُصنّف الخطاب السياسي حول فلسطين و«إسرائيل»، وتقرر تلقائياً الأصوات التي تُبقى وتلك التي تُحذف. القضية هنا دفاع عن أبسط المبادئ: ألا يصبح النقد السياسي أو التضامن مع شعب مُحتلّ جريمة رقمية يُحاسَب عليها الإنسان بقوة الذكاء الاصطناعي.
صناعة القمع الرقمي
الفريق البحثي الذي يدير المشروع يتألف من اختصاصيين في اللغة والذكاء الاصطناعي، ويعمل على جمع وتحليل آلاف التعليقات على الإنترنت وتصنيفها إلى «خطاب معادٍ للسامية» أو «خطاب محايد».
غالبية هذه التعليقات تدور حول فلسطين و«إسرائيل»، وتعتمد الخوارزمية المنتجة على التقاط كل كلمة غاضبة أو متعاطفة مع الفلسطينيين وتسجيلها بمنزلة جرم محتمل.
تحت شعار مكافحة معاداة السامية، تحولت الخوارزمية إلى سلاح يوجه ضد الأصوات التي تعترض على سياسات الاحتلال أو تدافع عن حق الفلسطينيين في الحياة والحرية.
تشبيه سياسات «إسرائيل» بالنازية، أو الإشارة إلى قتل الأطفال الفلسطينيين، أو دعم حملة المقاطعة (BDS)، جميعها تُصنف تلقائياً ضمن فئة «التحريض والكراهية». ملايين الأصوات في ألمانيا وفي أنحاء العالم مهددة بالحذف والتجريم إذا اعتُمد هذا المعيار الخوارزمي على منصات التواصل الكبرى.
نحو معيار رقمي عالمي
يسعى القائمون على المشروع إلى تصدير هذه الخوارزمية إلى الإنترنت العالمي. تهدف جهودهم إلى إقناع شركات التقنية الكبرى باعتماد خوارزميتهم، فيصبح أي خطاب متضامن مع الفلسطينيين أو ناقد لسياسات كيان الاحتلال هدفاً للحذف الآلي والحظر، بغض النظر عن السياق أو النوايا أو الحقائق.
تتحول التكنولوجيا هنا من أداة وصل إلى وسيلة لهندسة الوعي الجمعي وتحديد الممكن والممنوع في النقاش العام. إذا اعتُمد هذا النموذج معياراً دولياً، ستتحول ملايين القصص والشهادات والتجارب والمعاناة اليومية إلى «محتوى محظور»، فقط لأنها تُحرج كياناً يملك نفوذاً سياسياً وإعلامياً عالمياً. يتبدل دور الذكاء الاصطناعي من أداة للمعرفة إلى وسيلة لتقييد الذاكرة وتهميش الشعوب الواقعة تحت الظلم.
ما هو الثمن الحقيقي؟
إذا انتشر هذا النموذج على الإنترنت العالمي، ستجد كل حركة تضامن مع قضية فلسطين نفسها محاصرة: طلاب الجامعات، الصحف العالمية، الحسابات التي تُحظر من دون إنذار أو شرح، والشهادات الحية من قلب غزة أو الضفة تُعامل كما لو كانت شتائم أو دعوات عنصرية. الضحايا هنا هم كل صاحب رأي حرّ، وكل من يرفض التواطؤ مع الظلم أو الصمت عن الجريمة.
الخطر يتجاوز القضية الفلسطينية. إذا جُرِّم التضامن مع شعب مُحتل لأن خوارزمية أوروبية صنّفته «خطاب كراهية»، سيصبح سهلاً تعميم هذا النموذج على قضايا أخرى: حقوق السود، حقوق المهاجرين، أو حتى انتقاد السياسات الاقتصادية الغربية. من يملك الخوارزمية اليوم، قد يملك غداً مفتاح الحقيقة على الإنترنت، ويعيد تشكيل الوعي العالمي وفقاً لما يناسبه.
إعادة إنتاج الحقيقة
تدفع هذه القضية شعارات الأخلاق والعدالة من مساحة النقاش العام إلى «معايير تقنية» تفرضها شركات ومنصّات تفتقر إلى أي شرعية ديموقراطية.
كل من يخالف سردية القوى الكبرى، يجد نفسه محاصراً بخوارزميات لا تعترف بالاختلاف ولا تسمح بالسؤال. هكذا تُنتج «الحقيقة الرسمية» رقمياً، وتُجرَّد الحركات الاجتماعية من أبسط أدواتها: الكلمة.
تشهد الشعوب المقهورة تصاعداً في مظاهر الإقصاء والتهميش عن المنصات الإعلامية والفضاءات السياسية، ما يدفعها إلى الاعتماد على العالم الرقمي للتعبير عن واقعها ونقل معاناتها إلى الرأي العام العالمي.
مع اتساع هذا الدور الرقمي، تتزايد محاولات القوى المهيمنة لإغلاق هذه النافذة أيضاً، عبر تسخير الذكاء الاصطناعي لصنع جدران رقمية تفصل المقهورين عن العالم، وتمنع وصول أصواتهم وصورهم وشهاداتهم إلى المنصات المفتوحة.
معركة اليوم معركة الدفاع عن حرية الخطاب باعتباره حقاً إنسانياً أساسياً لا يمكن تفويضه لخوارزميات تُصمَّم في مراكز القوى لفرض السردية الرسمية. إذا أُسكتت فلسطين اليوم رقمياً، يسكت معها صوت كل مظلوم غداً.