في عام 2016، أعلنت قواميس أوكسفورد مصطلح «ما بعد الحقيقة» (post-truth) كلمة العام، وعرّفتها كصفة ترتبط «بالظروف التي تكون فيها الحقائق الموضوعية أقل تأثيراً في تشكيل الرأي العام من تأثير العواطف والقناعات الشخصية».
صحيح أنّ هذا الإعلان جاء في أعقاب عام مشحون سياسياً، طبعته الانتخابات الرئاسية الأميركية التي أفضت إلى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، واستفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكسيت)، حين طغى التضليل الصريح على الخطاب العام، وبدت خيارات الجماهير أكثر تأثّراً بالشعبوية في مقابل الحقائق الموثقة، لكن، ألا يمكننا القول إنّ هذا الوصف ينطبق على مجمل العصر الذي نعيشه اليوم؟
نعيش في عالم أصبحت فيه الحقائق قابلة للتلاعب، يتمسك فيه الأفراد بنسخ متناقضة من الأحداث نفسها، وتؤثر المعتقدات والعواطف ليس فقط في آراء الجماهير حيال الأحداث، بل حتى في إدراكها للأحداث نفسها. هي ليست أزمة سياسة أو إعلاماً فقط، بل أزمة متجذرة في أعماق بنية العقل البشري. ولفهمها، علينا أولاً أن نفهم كيف يبني كلٌّ منا نسخته الخاصة من «الحقيقة».
الواقع كما نحن
«نحن لا نرى الأشياء كما هي، بل كما نحن». هذه المقولة للكاتبة الأميركية ــ الفرنسية أناييس نن تلخّص علاقتنا بما نسمّيه «الحقيقة». نعتقد أن ما نختبره بواسطة حواسنا هو تصوير دقيق وموضوعي للعالم من حولنا، يرينا إياه كما هو، في حين أنّ هذا الواقع ليس إلا تصوّراً دماغياً يتشكّل عبر عمليات عصبية معقّدة، تستند إلى تحليل الإشارات الحسّية الواردة من محيطنا، بقدر ما تتأثّر بعوامل داخلية أخرى.
من ضمن هذه العوامل التوقعات المسبقة: أدمغتنا تتنبأ بالواقع ولا تكتفي بتلقّيه، وبالتالي، ما نتوقع رؤيته يؤثر في ما سنراه بالفعل. الخدع البصرية التي تستغل هذه «الثغرة» كثيرة، ولا بد من أنك وقعت ضحية إحداها من قبل. على سبيل المثال، لأننا نتوقع أنّ الوجوه دائماً ما تكون بارزة، نرى قناع وجه مجوّف على أنه بارز. كذلك، خدعة «الظل على رقعة الشطرنج» التي طوّرها الباحث في «معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا» إدوارد أديلسون، تجعلنا نرى مربعين متطابقي اللون على أنهما مختلفان، لأن أدمغتنا تعوّض تأثير الظل بهدف التنبؤ باللون الحقيقي للمربع.
من منظور عملي، اعتماد الدماغ على المعرفة السابقة يقلل من الحاجة إلى معالجة كل معلومة جديدة من الصفر، ما يخفف الجهد الذهني ويوفّر الطاقة. لكن ماذا يحصل حين ينطلق كل منا من توقعات مختلفة؟
تجيبنا صورة الفستان الشهير التي غزت الإنترنت عام 2015؛ بين أزرق ــ أسود، وذهبي ــ أبيض، اختلف إدراك لونه بين شخص وآخر باختلاف توقع المتلقّي المسبق لطبيعة الإضاءة الموجودة في الصورة: ضوء الشمس المباشر في الحالة الأولى، أو الإضاءة الاصطناعية في الثانية. توقعات مختلفة إذاً تؤدي إلى حقائق مختلفة.
الدماغ العاطفي
المصفاة الثانية التي تمرّ عبرها «الحقيقة» في أدمغتنا هي الحالة العاطفية؛ فالأخيرة تؤثّر بشكل مباشر في طريقة معالجتنا للمعلومات الحسية الواردة من حولنا. عواطفنا تؤثّر في إدراكنا لمدى انحدار الأسطح، وارتفاع الأشياء، وأوزانها، وحرارتها. عرّض شخصاً لصورٍ مثيرة لمشاعر سلبية، فسيرى ارتفاع شرفةٍ ما أعلى مما سيراه شخص تعرّض لصور محايدة.
حرّك مشاعر حزينة لدى شخص آخر وسيرى الوجوه الغامضة أكثر حزناً مقارنة بالآخرين. إحدى الدراسات أظهرت أنّ الأشخاص يقيّمون الأصوات على أنّها أعلى حين يكونون في مزاج سيّئ. أكثر من ذلك، تظهر دراسات تصوير الدماغ أنّ نشاط المناطق المسؤولة عن المعالجة البصرية والسمعية من القشرة الدماغية (visual/auditory cortex) يتأثر بامتدادات عصبية مباشرة قادمة من مناطق معالجة العواطف كاللوزة الدماغية (amygdala).
لماذا؟ عواطفنا تلوّن الواقع بتعديل طريقة توجيه انتباهنا للمعلومات الحسية فيه: الخوف مثلاً يقودنا إلى التركيز على التهديدات، فيما يبعد الاشمئزاز انتباهنا عن مصدر الإزعاج، وتوجّه السعادة انتباهنا إلى مصادر إضافية للإيجابية.
الحقيقة في خدمة الهوية
حين نتحدث عن تحليل معلومات ذات أبعاد اجتماعية أو سياسية، تمر «الحقيقة» عبر مصفاة إضافية، هي الهوية الشخصية. من الثابت في العلوم المعرفية والسلوكية ميلُ الأشخاص إلى تحليل الحقائق بشكل يحافظ على معتقداتهم الأساسية، وهو ما يسمّى بالاستدلال المحفَّز. قد تظن أنّ هذا النوع من التحليل يطغى لدى الأفراد الأقل ذكاءً، لكنّ دراسة صدرت عن «منشورات جامعة كامبريدج» عام 2017 أثبتت العكس تماماً.
ما نعتبره حقيقياً يبقى
تحت تأثير مزيج من التوقعات والعواطف، والاعتقادات الشخصية والتأثيرات الاجتماعية
في هذه الدراسة، طلب باحثون من عيّنة من المواطنين الأميركيين تحليل بيانات دراستين: الأولى حول تجربة دواء جديد للطفح الجلدي (محايدة سياسياً)، والثانية حول تأثير حظر حمل السلاح المخفي على معدلات الجريمة (مثيرة للانقسام بين الليبراليين والمحافظين).
بطبيعة الحال، في التجربة الأولى، كان الأشخاص ذوو المهارات الرياضية العالية أفضل في تحليل البيانات والوصول إلى النتائج الصحيحة. لكن المفاجئ في التجربة الثانية أنه عندما تعارضت مع معتقداتهم السياسية، لم يكن المشاركون عموماً أسوأ في تحليل النتائج فقط، بل إنّ الأشخاص ذوي المهارات الرياضية العالية كانوا أسوأ في تحليل البيانات من الأشخاص الأقل مهارة!
يستخدم الأشخاص مهاراتهم التحليلية بشكل انتقائي عند تقييم الحقائق الجديدة، بحثاً عن دعم لمعتقداتهم الأساسية، لحماية هويّتهم الاجتماعية والثقافية.
لواقع كما تفرضه الجماعة
كما تختلف «الحقيقة» بين فرد وآخر باختلاف التوقعات والعواطف والمعتقدات، للجماعة أيضاً دور في فرض نسختها من الواقع على أفرادها. تجارب كثيرة أجريت لدراسة تأثير الضغوط الاجتماعية في ذاكرة الأفراد، وخلص جلُّها إلى نتائج متشابهة.
يَجمع الباحثون عدداً من المشاركين ويطلبون منهم تذكّر حدث معين، ثم يعرضون عليهم معلومات مغلوطة صادرة عن أفراد آخرين. بالنتيجة، يُظهر المشاركون ميلاً كبيراً إلى تبنّي تلك المعلومات الخاطئة كأنها جزء من تذكّرهم الشخصي لما حدث، حتى عندما تكون ذاكرتهم الأصلية قوية ودقيقة. بهذه الطريقة، تمكّن باحثون من زرع معلومات مزيفة عن وجود حيوانات مصابة في ذاكرة عدد من الأشخاص عند استرجاعهم لأحداث تفجيرات الشقق السكنية في موسكو عام 1999.
التأثيرات الاجتماعية لا تقتصر على تشويه الذاكرة الفردية عن أحداث سابقة، بل كثيراً ما تفرض الجماعات أوهاماً على أفرادها، تصبح جزءاً من واقعهم لفترات طويلة. لعلّ بين أقسى الشواهد على الأوهام الجماعية ما ساد من اعتقادات حول ممارسات الشعوذة في أوروبا وأميركا الشمالية بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، وقد أدّت إلى ملاحقات ومحاكمات دموية، أنهت حياة عشرات الآلاف من النساء بطرق وحشية، بتهم ممارسة السحر والاتصال بقوى شيطانية.
في زمن أقرب في التاريخ، غزت الولاياتِ المتحدة الأميركية موجةٌ من الذعر في الثمانينيات والتسعينيات بشأن مزاعم اعتداءات مرتبطة بـ «شعائر شيطانية»، لم تتمكن المحاكمات من إثبات حدوث أيّ منها. الحقيقة في هذا السياق هي ما نُجمع عليه، والتبنّي الأعمى لنسخة الجماعة من الحقيقة جزء من سعينا الدائم إلى القبول الاجتماعي.
في الخلاصة، ما نعتبره حقيقياً، حتى الوقائع التاريخية التي لا تحتمل الاختلاف في الآراء، يبقى تحت تأثير مزيج من التوقعات، والعواطف، والاعتقادات الشخصية، والتأثيرات الاجتماعية.
واليوم، مع ثورة المعلومات، والتدفق غير المسبوق للمحتوى، خلقت خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي ما بات يسمى بـ«الفقاعات المعلوماتية» التي تغذي المستخدم بالمعلومات التي تتماشى مع معتقداته وميوله، معمّقةً التباعد بين النسخ اللامتناهية من الحقيقة. كثيراً ما نتكلم عن محورية الحقيقة وأهمية البحث عنها، وأقلّ بكثير عن كونها أداة طيّعة بيد أدمغتنا، تعيد تشكيلها للحفاظ على تماسك روايتنا الذاتية.
دماغ الإنسان مهيّأ منذ آلاف السنين لرؤية حقائق مشوّهة، أو فلنقل معدّلة، لأنّه معنيّ بالعملية أكثر مما يكترث للموضوعية، ويولي القبول الاجتماعي أهمية أكبر من دقة التحليل.
وصفُ زمننا الراهن بعصر «ما بعد الحقيقة» قد يوحي بأننا قد فقدنا «البوصلة»، لكنها آليات الانحياز نفسها التي لطالما رأينا العالم عبرها؛ كل ما في الأمر أنّ انحيازاتنا وجدت في العالم الرقمي الجديد بيئة خصبة لها.