Tahawolat
تحت عنوان "مآزق الثورات العربية" دعت مؤسسة سعاده للثقافة الى محاضرة ألقتها الدكتورة صفية سعادة وذلك  في دار الندوة. وقد تطرأت سعاده إلى  تطور الثورات المحكوم بأوضاع مجتمعاته التي قد تحرفه عن مساره تماماً كما تفعل التدخلات الأجنبية والغربية.
بداية قدم الإحتفال سركيس ابو زيد الذي تمنى بأن يكون هذا اللقاء هو حلقة من سلسلة محاضرات بدأتها مؤسسة سعاده للثقافة مع وديع فلسطين والدكتور عاطف عطية من أجل إغناء حياتنا الثقافية، وخصوصاً ان اللقاءات وجهاً لوجه أصبحت قليلة ومحدودة في زمن "الفايسبوك" وانتشار العالم الافتراضي.
أضاف: "نلتقي اليوم حول "مآزق الثورات العربية" وما تثيره من اشكاليات تتراوح بين المبايعة والرهان من جهة والحذر والتشكيك والتريث من جهة أخرى، وضعنا الثورات بين هلالين لأن الربيع  الذي لا يزهر نظاماً جديداً مدنياً حراً عادلاً يتحول إلى خريف وثورة مضادة ونكسة وفي تاريخنا أمثلة وشواهد.
بعدها عرّف ابو زيد عن نشاطات سعادة  المتميزه في حقلي التعليم الجامعي والابحاث، والتحقيق ونشر كتابات خليل سعاده وأنطون سعاده.
وختم ابو زيد قائلاً: "صفية لم تقتل الاب على طريقة فرويد لانها تعلمت من انطون سعاده مقاتلة التنين وقتل اعداء الامة، الاستعباد والاستبداد، ولانها تتذكر ان الاب والشهيد كان يصطحبها معه رغم انشغالاته القومية وهي ابنة العامين لاستماع الموسيقى الكلاسيكة الاحب الى قلبه وكانت تنصت باهتمام الى جانب  عنفوان  وحنان الاب الذي لو لم تغدر به قوى الظلام لكان اعطاها واعطى الامة المزيد من الحنان والفكر".

ثم كانت محاضرة الدكتورة صفية سعاده التي قالت ان الثورات أو الانتفاضات أو التحركات في الدول العربية تواجهها عوائق داخلية وخارجية منها:
1 ـ الإرث العثماني:
لقد ورثت الدول العربية، على الرغم من إعلان استقلالها تباعاً في منتصف القرن الماضي، نظاماً عثمانياً لم تتخل عنه الدول الأوروبية المحتلة بل حافظت عليه ورسخته، ليس فقط على صعيد المجتمع، إنما في إدارة الدولة أيضاً، لأنه أداة مهمة في السيطرة على هذه المجتمعات. فلمدة خمسة قرون تم حكم المنطقة بناء على نظام الملة الذي وقف ـ ولا يزال يقف حائلاً ـ أمام تقدم الدولة المدنية ـ الديموقراطية، وذلك للأسباب التالية:
أولاً، يحدد نظام الملة الانتماء على أنه انتماء ديني في الدرجة الأولى، وله الأفضلية القانونية وبالتالي الحقوقية لكل أتباع السلطنة العثمانية: فالسني والتركي والمغربي والعراقي مثلاً تجمعهم القوانين الشخصية ذاتها في مواجهة قوانين أخرى تتحكم بالشيعي والأرثوذكسي والماروني وغيرهم من الملل.
أدى هذا النظام إلى تدمير المجتمعات العربية وعدم تمكنها من تأليف لحمة بين أفراد الشعب الواحد ذلك أن القوانين الملية تتضارب بعضها مع البعض الآخر وتباعد بين المواطنين.
ثانياً، هذا المنحى العثماني أسبغَ سلطة لامتناهية لرجال الدين، فأصبح البطريرك أو الكاهن هو المسؤول أمام الباب العالي في كل ما يتعلق بالشؤون الإدارية العائدة لرعيته، وكان لذلك أثره على ميزات وطبائع رؤساء الملل فتحولت اهتماماتهم من روحية إلى سياسية واقتصادية، وهم يمثلون في كافة الدول العربية من شرقها إلى غربها، سلطة موازية لسلطة الدولة، ولا تستطيع هذه الأخيرة التغاضي عنها، بل تخضع لمشيئتها في معظم الأحيان.
ثالثاً، لم تقض الدول العربية على نفوذ رجال الدين بعد الاستقلال مما ادى الى ازدواجية مدمرة للسلطة. فهي من جهة،  أسست جيوشاً علمانية تفصل الأمور الدينية عن الدولة وولاؤها للوطن، ومن جهة أخرى أبقت مجتمعاً يسيطر عليه رجال الدين، بينما اختارت تركيا بقيادة اتاتورك طريقاً مغايرة من اجل بناء دولة حديثة، حيث اضطرت الى تطبيق علمانية متطرفة من اجل القضاء على نفوذ رجال الدين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع ويواجهون به سلطة الدولة.
 رابعاً، عمدت تركيا إلى ترسيخ قومية مزدوجة العنصرية عُرقية ودينية معاً بعد قتل وتهجير المسيحيين المتواجدين على أرضها ورفض الاعتراف بالاتنيات الأخرى على قدم المساواة بينما ابتعدت دول الهلال الخصيب عن هذا المآل، وبقيت هذه الأعراق والأديان متواجدة على مجمع  هذه الرقعة حتى أنه تم استيعاب المهجرين الأكراد والأرمن والمسيحيين من قبل الدول العربية المجاورة لتركيا. العنصرية نفسها تمارسها الصهيونية على أرض فلسطين، والملاحظ أن كلاً من تركيا و"إسرائيل" اقتبستا هذا النموذج من ألمانيا. فالصهاينة عايشوا ألمانيا النازية، والجيش التركي تم تدريبه اواخر القرن التاسع عشر من قبل ألمانيا.
خامساً، أن نظام الملة يؤدي إلى انقسامات عمودية لا أفقية ضمن المجتمع الواحد، أي أنه يمنع بناء مفهوم المواطنة، وهذا الانقسام مغاير لتطور الدول الأوروبية حيث طغت الانقسامات الأفقية، فأصبح من السهل نشوء وعي شعبي ثار ضد رجال الإقطاع ورجال الدين المهيمنين على مقاليد الحكم، إلا أن هؤلاء في النهاية يعتبرون أنفسهم جزءاً لا يتجزأ من الدولة - الامة، لكن في دول تركيبتها ملية تصبح الملة دولة مصغرة تريد السيطرة على مقاليد الحكم وإخضاع الملل الأخرى وكأنها عدوة لا تنتمي إلى الهوية الوطنية نفسها.
سادساً، استفادت الدول الأوروبية من نظام الملة العثماني للنفاذ وبسط سيطرتها داخل السلطنة، فأصبح الروسي يعتبر أن الروم أرثوذكس هم امتداد له، ودعم الفرنسي الكاثوليك والموارنة، وانحاز الإنكليز جانب الدروز، وأصبح القناصل الأجانب يمثلون ويحمون هذه الملل التي أصبحت فعلياً خارج سلطة وقوانين الدولة العثمانية واحتمت بهويات القناصل الأجنبية التي بادرت إلى بناء مدارس أوروبية عبر إرسالياتها أدت إلى بروز جماعات داخل السلطنة أشبه ما تكون بالجاليات الأجنبية على أرضها، ومثال  ذلك اللبناني الذي يتعلم في مدرسة خاصة فرنسية تصبح لغته الأم الفرنسية وبالكاد ينطق بالعربية، وأهله يكلمونه في البيت باللغة الفرنسية ويتعلم تاريخ وجغرافيا تلك البلاد فيتحول إلى "فرنسي" مقيم على أرض الوطن!!
2 ـ تناقضات الثورات العربية:
من أكثر العوامل خطورة على مسار الثورات العربية الانقسام الديني والمذهبي، إذ أنه من السهل حرف ثورة أو حركة إصلاحية باتجاه التعصب المذهبي، مما يحول الحراك إلى حرب داخلية ضارية لا تقضي فقط على النظام بل على الدولة بكامل مكوناتها، ذلك ان اثارة النعرات الدينية تلغي تلقائياً مفهوم الدولة الواحدة، الثابتة التي لا تهتز حدودها الجغرافية ولا يتزعزع انتماء مواطنيها مهما اصاب السلطة من تحولات، كما هي الحال في غالبية الدول الاوروبية.  ان اللجوء الى التفرقة الدينية والمذهبية في البلدان العربية يسقط المواطنة عن اعداد كبيرة من السكان كما انه  يؤدي الى وأد الدولة  وتلاشيها الى دويلات طائفية، وهذا تماماً ما فعلته الولايات المتحدة الاميركية في العراق، اذ ان احتلالها لم يؤد فقط الى اسقاط النظام بل الى تقسيم العراق دويلات اتنية ومذهبية.
وقبل العراق، تمت تجربة هذا النموذج  في لبنان عام 1975، حيث نجح نجاحاً باهراً  ادى الى ان يصبح اسم لبنان مرادفاً للشرذمة الطائفية في العالم اجمع تحت شعار "اللبننة" بدلاً من "البلقنة" التي خبا ضوؤها!  فالجيل الذي مثل الشباب آنذاك طالب بإصلاحات للطبقات العمالية وبدولة رعائية: تظاهروا واعتصموا وشطبوا مذهبهم عن هوياتهم، وما لبث أن تحول هؤلاء الشباب المتطلعون إلى التغيير والحداثة إلى وقود حرب أهلية دامت خمسة عشر عاماً تمحورت حول صراع ديني للحصول على امتيازات في السلطة. الشباب الذين قادوا حراكاً مطلبياً لا طائفياً انضم بعضهم إلى ميليشيات طائفية والبعض الآخر هاجر، ومنهم من فاجأه الموت  المجاني على الطرقات إما قصفاً أو ذبحاً لولادته في الدين الخاطئ!
إن الغرب لم يخترع الانقسامات الدينية بل استعملها لتفرقة شعب يريد السيطرة عليه.
ففي الهند أجّج البريطانيون الصراعات على أساس اثني وديني، وفي أميركا اللاتينية نشبت الحروب الأهلية نتيجة التدخل الأميركي بين يمين ويسار لان الدين لم يكن عامل تفرقة. لا تهتم أميركا كثيراً لمن هو سني ومن هو شيعي بل من يقف معها ومن يحاربها، فشاه إيران كان شيعياً ودعمته لأنه آزر سياستها في المنطقة.
وفي مصر، وعلى الرغم من إسقاط حسني مبارك نلمس تهديداً لوحدة مصر عبر تقسيمها عامودياً إلى مسلم وقبطي، وفي مواجهة اللحمة بين المواطنين في ساحة التحرير برزت معضلة تعيين محافظ في الريف لأنه قبطي، كما أن هدم كنيسة في أسوان أدى إلى تأجيج العصبية الدينية في 9 أكتوبر 2011.
والتحريف نفسه يحصل في البحرين التي طالب أهلها بإعطائهم حقوقهم المدنية، فانتهوا بالسجن والتنكيل والتعذيب فقط لأنهم وُلدوا في المذهب "الغلط"!
يتبع الأميركيون بأمانة نصيحة رئيس وزراء بريطانيا السابق ونستون تشرشل الذي قال: "إذا لم تتمكنوا من الهيمنة على منطقة، بادروا إلى تجزئتها"!
لم يشذ عن هذه القاعدة الفرنسيون في عهد انتدابهم على سورية، وحاولوا ابتداع كانتونات علوية ودرزية وسنية، إلا أنهم فشلوا أمام الرفض الشعبي.
ما فشلت فرنسا في تطبيقه منذ ما يقارب القرن ـ لا تستطيع هي أو أميركا إنجاحه اليوم في وقت ترسخ فيه الوعي القومي وخصوصاً أن سورية رفضت الخضوع لـ"إسرائيل" بالرغم من المحاولات الحثيثة لقلب موازين القوى فيها، فالشعب السوري يدرك بغالبيته العظمى أن الهدف ليس تغيير النظام أو إرساء الديمقراطية، بل تدمير الدولة خدمة للصهيونية.
تحاول الولايات المتحدة الأميركية دفع الحراك السلمي إلى اقتتال داخلي مسلح عبر اخفاء التناقض الرئيسي ما بين "سورية المقاومة" و"إسرائيل"  وابراز تناقض ثانوي بدائي قبلي، طائفي، مذهبي يعيدنا إلى أجواء القرون الوسطى وما  قبل نشوء الدول والقوميات.
أليس هذا ما أنجزته أميركا في أفغانستان في الثمانينات من القرن الماضي؟ لجأت إلى أشد أنواع الحركات الإسلامية التكفيرية وسلّحتها لتهاجم الوجود السوفياتي الذي كان قد قام بتحديث المجتمع الأفغاني وتحرير المرأة من الكثير من القيود التقليدية، فإذا بالولايات المتحدة الأميركية تعيدهم قروناً إلى الخلف، ثم تصطنع فكرة إرساء الديموقراطية!
حاصرت أميركا الاتحاد السوفياتي عبر حزام إسلامي تكفيري لا يختصر بأفغانستان فقط بل يمتد إلى السعودية نفسها، وبلدان الخليج، والأردن وأيضاً تركيا عبر تنمية التيارات الإسلامية الدينية وعلى رأسها حزب العدالة والتنمية مخافة تحول تركيا نحو الشيوعية. وبالتالي ليس من الصعب تصور تقارب الإخوان المسلمين من أميركا وقبولها أن يتبوأوا السلطة لأن هدفها خلق صراع داخلي يرتكز على الدين والمذهب كون أهل هذه المنطقة ما يزالون يحتفظون بانتمائهم الديني القوي.
من هنا تجهد أميركا لإسقاط أنظمة علمانية كالنظام السوري، لأن فصل الدين عن الدولة يمنع الاقتتال الديني كما تشتهي، وسقوط الدولة العلمانية يعني انهيار الجيش القومي العقيدة واستبداله بميليشيات دينية متطرفة، وبالتالي شعار "اسقاط النظام" يعني شيئاً واحداً للدولة العظمى الا وهو انهاء الدولة السورية.
 3- اقتصاد قومي مرتهن:
   أحد أكبر العوائق التي تواجه نجاح الثورات في العالم العربي هو اقتصاد دولها الذي اصبح مُرتهناً للخارج عبر نظام الخصخصة، فالخصخصة في الولايات المتحدة الأميركية أو دول العالم المتقدِّم تعني تنازل الدولة عن العديد من قطاعاتها وافساح المجال أمام الرساميل الخاصة لإدارتها. تحويل هذه القطاعات إلى إدارة خاصة لا ينفي عنها صفتها الوطنية – إذ أن الملكية تنتقل من الدولة الأميركية إلى مواطنين أميركيين، فلا يُسمح مثلاً للصين أو ايران أو أي شركة أجنبية أن تقتني كهرباء كاليفورنيا أو فلوريدا أو غيرها من الولايات، فيظل رأس المال أميركياً، بينما الخصخصة في بلادنا تعني انتقال الملكية من دولة كلبنان إلى أيدٍ أجنبية كما حصل في قطاع الخليوي، أو كما يحصل في استثمار النفط من قبل شركات غربية في بلدان عربية أخرى. 
   علاوة على ذلك لم يتم  تطبيق مبادئ المنافسة في البلدان العربية، واقتصر الانتقال من العام إلى الخاص على بضعة أشخاص لجأوا إلى الاحتكار، بينما هدفت الولايات المتحدة الأميركية الى الهيمنة الاقتصادية عبر الضغط على دول العالم لتطبيق نظرية ما سمته بثالوث الحريات:
1- حرية السوق.
 2 - حرية التجارة.
3  - حرية  الاستثمار الأجنبي.
   تطبيق هذا الثالوث من الحريات يتطلب الغاء دور الدول العربية الاقتصادي كي لا تقف حاجزاً أمام اجتياح الشركات العالمية، وتغطي أميركا هذا الاستعمار المقنع تحت عنوان «استراتيجية السلام»، أي أن كل من يرفض مبدأ «حرية السوق» يُعتبر مهدداً للسلام العالمي ويرغم على تبني الرؤيا الأميركية الرافضة للإيديولوجية الماركسية. وتلعب السفارات الأميركية في الدول العربية دوراً أساسياً في الضغط باتجاه الخصخصة، وفتح السوق المحلية أمام الشركات الأميركية من ستاربك وماكدونالد وغيرها، عدا عن الصناعة الرئيسية لأميركا ألا وهي تصدير الأسلحة المدمرة وبيعها.
   ما بدأته الولايات المتحدة الأميركية في الثمانينات من القرن الماضي من عملية دمج الأسواق العالمية، والغاء أي رقابة على المصارف بناء على نصائح خبراء مال كغرينسبان الذي غطى عمليات المصارف باعطائها الحرية المطلقة دون أي محاسبة بناء على نظرية ساذجة تؤكد أن من طبيعة السوق الحرة الإبقاء على التوازن والعدل في المعاملات عبر المنافسة!
   بالطبع كانت هذه النظرية مفيدةً جداً للولايات المتحدة الأميركية التي وجدت أن لديها فائضاً ضخماً من الرساميل هي بحاجة إلى استثماره في دول لا تستطيع منافستها.
   وهكذا بادرت أميركا إلى تطبيق نظام الاقتصاد الليبرالي وتعميمه على الكرة الأرضية خصوصاً بعد دحرها الاتحاد السوفياتي، وسوقت هذا الاقتصاد على أنه الحلم المنشود لرخاء الانسانية.
   بدأ العمل بهذا البرنامج في الدول العربية متوازياً مع مكافحة المبادئ الشيوعية، فانتقال قيادة مصر من جمال عبد الناصر إلى السادات هي زلزال سياسي – اقتصادي أدى ليس فقط إلى انتقال مصر من مواجهة «إسرائيل» إلى توقيع معاهدة كامب دايفيد والاعتراف بها على حساب الحق الفلسطيني، بل حول الاقتصاد من إدارة الدولة الرعائية المهتمة برفاهية المواطنين المصريين وارساء اقتصاد وطني، إلى تدمير هذه الادارة وإستبدالها باقتصاد حر غير موجّه من قبل الدولة، أوصل مصر إلى ماهي عليه اليوم من احتكار ومضاربات أثرت حفنة من الرأسماليين وبعض رموز الدولة المرتهنين للرأسمال الغربي على حساب افقار غالبية الشعب المصري.
   هذا المثال الليبرالي الاقتصادي عُمم على كل الدول العربية إما بالضغط عليها أو محاربتها فخضعت دون استثناء لنموذج يلغي دور القطاع العام ويؤدي إلى بيع ممتلكاته وبالتالي القضاء على دوره كصمام امان لحماية مجتمعه.
   وبعكس الدول العربية التي خسرت استقلاليتها عبر لبرلة الاقتصاد، استفادت دول الشرق الأقصى ذات الرقعة الجغرافية والسكانية الواسعة كالصين من تحرير السوق، إذ أنها عمدت إلى تقديم انتاج رخيص الثمن من المستحيل منافسته مما أدى إلى صب الرساميل الغربية في المعامل الصينية، وانهيار الاقتصاد الأميركي الصناعي فيما عدا انتاج الأسلحة العسكرية التي تمثل أهم صادرات الولايات المتحدة الأميركية خاصة لدول الخليج الثرية بالنفط.
 
 
   ان اتباع سياسة الليبرالية الاقتصادية والخصخصة في الدول العربية أدت ليس فقط إلى انهيار القطاع العام كحاجة للاقتصاد القومي والوطني، بل أيضاً إلى اضمحلال الصناعات المحلية غير القادرة على منافسة البضائع الأرخص ثمناً، والمورد الوحيد الذي بقي كي تعتاش منه الادارات الحكومية في هذه الحالة هو الضرائب.
هنا  يبرز التناقض الذي يقضي على مقومات الوطن، إذ تتفق الحكومة مع المستوردين الذين يتعاملون بدورهم مع الرأسمال العالمي على "الغاء" الضرائب على البضائع المنهمرة من كل أقاصي العالم، فيما تقوم "بزيادة" الضرائب على المواطنين لتغطية عجز الانفاق العام. أليس هذا ما فعله رفيق الحريري حين تبوأ السلطة، فعمد إلى ازالة الرسوم الجمركية على الواردات كي ينتفع التجار وكذلك رؤوس الاموال الغربية لكنه قضى على الصناعة والزراعة المحليين؟ وما علينا للتأكد من ذلك الا القاء نظرة على رفوف اي سوبرماركت لنفاجأ بان البضاعة المستوردة ارخص من الانتاج المحلي.
لقد نجم عن تحرير التجارة الخارجية وتحرير حركة الرساميل التي مثلت مضمون السياسة الليبرالية اختفاء الانتاج الوطني اللبناني وازدياد معدلات البطالة وهجرة الشباب.
   إن السياسة الاقتصادية في لبنان قامت بعد الحرب الأهلية على أسوأ أنواع الخصخصة لأنها أدّت إلى الاحتكار لا على المنافسة، تماماً كما حصل لروسيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حين لجأ أهل الدولة إلى احتكار قطاعات الادارة العامة وتملكها بدلاً من افساح المجال للمواطنين للمساهمة فيها عبر شراء اسهمها.
   وانه من المؤسف والمؤلم أن نشاهد في لبنان كيف أن من كان يدير قطاعات الدولة حاول شلّها واضعافها كقطاعات الماء والكهرباء والاتصالات وحتى القطاع التربوي العام بهدف ترغيب المواطن بالمناداة بالخصخصة على انه الحل الانسب لتحسين اداء هذه القطاعات. ولقد تصدى الوزير شربل نحاس لمحاولات احتكار قطاع الاتصالات الذي كان سيزيد العبء على المواطنين أضعاف أضعاف دون أي ضمانة بتحسن النوعية.
   وفي مصر، لم تغير ثورة 25 يناير النظام الاقتصادي الليبرالي الذي وضع أسسه أنور السادات، ولم يتم معالجة البطالة أو تحسين الأجور أو إعادة توزيع الضرائب بشكل عادل بحجة أن أية ضرائب على رأس المال ستؤدي إلى هروب المستثمرين بينما الحقيقة المرة هي أن هؤلاء المستثمرين يلحقون الضرر باقتصاديات الدول العربية لأن نشاطهم لا يصب في القطاع الزراعي أو الصناعي أو خلق فرص عمل جديدة، بل هو مجرد متاجرة خاصة في قطاع العقارات.
   وقد يتصاعد معدل النمو إلا أن ذلك لا ينعكس على معدّل البطالة لأن فئة قليلة العدد هي المستفيدة من حركة الاستيراد والسياحة، فعشية ثورة المصريين – اقترب معدّل الفقر من 40 في المئة وبطالة الشباب 26 في المئة خاصة من الذين يحملون الشهادات الجامعية إذ لا اقتصاد وطني موجود لاستيعابهم.
   أما سورية، فلم تبادر إلى تبني سياسة حرية السوق إلا اخيراً، أي منذ عام 2005، وقاومت لسنوات عدة الضغوط الغربية لتغيير نمطها الاقتصادي.
   ولسوء الحظ فإن غالبية دارسي الاقتصاد أمّت الجامعات الغربية الخاصة التي تعلّم آليات حرية السوق على أنها طريق المستقبل، لكن ما تغفل عن قوله هذه الجامعات أن هذا النمط قد يناسب اقتصاد دول كبرى، إلا أن دول صغيرة كدول البلدان العربية ليس بمقدورها المنافسة، بل إن فتح مجالها يعني انهيار اقتصادها الوطني. وقد تبرز طبقة من الأغنياء الجدد جراء تركيز النمو على التجارة والمال والعقارات والخدمات، إلا أن الاقتصاد المستقل في الزراعة والصناعة يَنْحو باتجاه التراجع.
   في كل من سورية ولبنان ارتفعت أسعار الأراضي ارتفاعاً جنونياً، وتم شراء أراضٍ بأسعار بخسة ثم اعيد بيعها بأسعار باهظة جراء المضاربات العقارية، وبدا هذا النشاط وكأنه نموّ إلا أنه في الحقيقة خراب للمواطن السوري واللبناني اللذين لم يعد بامكانهما ايجاد موطئ قدم للسكن.
    واعتماد الخصخصة أدّى إلى رفع الدعم عن مواد أساسية ذلك أن القطاع العام بعد أن يتم تخصيصه يعجز عن دعم الطاقة والمازوت والأسمدة الكيميائية والمبيدات الزراعية كما كان يفعل سابقا،ً ونتج عن ذلك اهمال القطاع الزراعي من قبل الفلاحين وهجرتهم باتجاه المدن. ترافق مع ذلك الغاء الدعم عن السكر والزيت والطحين وهي مواد أساسية للعاطلين عن العمل الذين ازدادت اعدادهم نتيجة الانفتاح التجاري على اسواق عالمية منها التركية والعربية وإقامة مناطق تجارة حرة أدت إلى اغلاق العديد من المشاريع الصغيرة غير القادرة على المنافسة.
   هذه العوامل الاقتصادية قادت الطبقات الشعبية، وخصوصاً في الأرياف إلى الانفجار.
   حالما ينشأ هذا التململ والحراك الاجتماعي في الطبقات الشعبية تبادر الولايات المتحدة الاميركية الى احتوائه عبر توجيه الحقد باتجاه النظام الذي لا تريده، فتحاول الغاءه والغاء دوره السياسي - الاقتصادي والسيطرة على زمام الامور. ولقد علق الصحافي في جريدة النويورك تايمز - طوماس فريدمان قائلاً بان تحرير الرساميل يسمح لاميركا بان تفتعل ازمة مالية في اي بلد من البلدان النامية. ويساهم كل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في رفد هذا الاتجاه اذ انه يجبر اية دولة تريد الاقتراض ان تقبل بالخصخصة وتحرير الرساميل.
هذا ما حصل فعلاً في العراق، فما ان احتلت الولايات الاميركية البلد حتى بادرت للسيطرة على اقتصاده قبل اي قرار آخر، اذ اعلن يومها الحاكم الفعلي للعراق، بول بريمر، في جريدة الواشنطن بوست، ان هدف اميركا خصخصة كل مرافق الدولة، وافهام العراقيين ان ايام اعتمادهم على الدولة قد ولت الى غير رجعة.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net