Tahawolat
ما أسعى إليه في هذه الورقة بحثُ مسائل ثلاث: مفهوم الدين والدولة نظرياً وتطبيقياً، والإسلام بما هو دين ودولة، وتطبيق الشريعة في الدولة المعاصرة وصولاً إلى اقتراح مقاربة جديدة لتطبيقها على أساس الإلتزام، لا الإلزام.
 
أولاً: في مفهوم الدين والدولة نظرياً وتطبيقياً
  الدِّين لغةً متعددُ المعنى. فقد جاء في لسان العرب "الديِّن: الحسابُ؛ ومنه قوله تعالى: مالكُ يوم الدِّين؛ وقيل: معناه مالك يوم الجزاء(...) والدِّينُ: الطاعة. وقد دِنْتُه ودِنْتُ له أي أطعته (...) والدِّين الإسلام، قد دِنتُ به. وفي حديث علي، عليه السلام: محبةُ العلماء دِينٌ يُدان به. والدِّين العادة والشأن. تقول العرب: ما زال ذلك دِيني ودَيْدَني أي عادتي."
  ثمة معنى ناظم بين كل هذه المدلولات. انه معنى الضبط والإنضباط. فالحساب بمعنى المحاسبة هو الجزاء؛ والطاعة بمعنى الإلتزام هي الخضوع؛ والدين بمعنى الديانة هو العقيدة، والعقيدة هي الإسلام الذي يُدان به أي يُطاع ويُلتَزَم؛ والدين بمعنى العادة والشأن هو الإلتزام بتقليدٍ أو سلوكٍ ضابطٍ أو منضبط.
  اننا نقع على هذه المعاني المتعددة للدين كما على المعنى الناظم لها بين عامة الناس أكثر مما نقع بينهم على المعنى الأكاديمي للدين من حيث هو عقيدة او إيمان ذو طابع إلهي أو غيبي.
  الدولة لغةً متعددة المعنى أيضا. فقد جاء في لسان العرب "وقال الزجاج: الدُّولَةُ أسمُ الشيء الذي يُتداول، والدَّولةُ الفعلُ والإنتقالُ مـن حالٍ إلى حال (...) الليث: الدَّولةُ والدُّولة لغتان، ومنه الإدالةُ ألغَلَبة (...) والدَّولةُ: الإنتقالُ من حالِ الشدة إلى الرخاء."
  ثمة معنى ناظم بين مدلولات الدَّولة. انه معنى الغَلَبة والتغيّر والتبدّل والإنتقال من حالٍ إلى حال. اننا نقع على هذه المعاني المتعددة للدولة كما نقع على المعنى الناظم لها بين عامة الناس أكثر مما نقع بينهم على المعنى الأكاديمي للدولة من حيث هي تنظيم سياسي لجماعة من الناس تعيش على رقعة من الأرض وتمارس عليها سيادتها.
  هذه المعاني للدين والدولة منتشرة وسائدة بين الناس، ومن خلالها يمكن فهم نظرتهم اليهما وعلاقتهم بهما وسلوكهم إزاءهما.
  إن معاينةً دقيقة لأحـوال الناس في ما يقولون ويفعلون، أي في تفكيرهم وتدبيرهم، تقود إلى الخلوص لحقيقة ساطعة هي ان الدِّين حاجة إنسانية. وقد كشفت دراسات متعددة في حقول علم الإجتماع الديني والعلوم الاجتماعية والنفسية ان للدين دورٌ في التعبير عن الحاجة الإنسانية للقيم والمبادئ الأخلاقية، ولمتطلبات المعيشة، وللتحرر من القلق والخوف والبؤس، ولفهمِ معنى الحياة ، وتعزيز التماسك الإجتماعي.
  في معالجته للإسلام شدّد عالم الإجتماع الألماني ماكس فيبر على الصلة الوثيقة بين الدين والسلوك اليومي الهادف ذي المضمون الإقتصادي. قال إن غايات الدين هي على الأغلب اقتصادية، مما يفسر، مثلا، سبب عجز الورع الديني عـن ان "يمنـع فلاّحاً في جنوب أوروبا من أن يبصق على تمثال قديس لم يستجب لمطالب كان قد تقدم بها اليه." ألا تذّكرنا هذه الواقعة بعرب الجاهلية عندما كانوا يقيمون أصناماً لآلهةٍ من تمر ويتعبدونها حتى إذا عجزت عن تلبية دعواتهم، قاموا بأكلها غير نادمين؟!
  في معالجته لظهور الإسلام، إعتبر فيبر ان القيم والمعتقدات الإسلاميـة جاءت متناسقة مع الحاجات المادية للطبقات المحاربة. ذلك ان الإسلام زاوَجَ بين القيم التجارية والقيم الفروسية البدوية والقيم الصوفية المعبّرة عن عواطف الجماهير وحاجاتها. ونتيجَةً لهذه المزاوجة الثلاثية، وجّهت الطبقة المحاربة الإسلام وجهةَ الجهاد، ووجّهته الطبقة التجارية في المدن وجهةَ التشريع والتعاقد في مختلف ميادين الحياة، ووجّهته الجماهير المستضعفة وجهةً صوفية.
  قبل فيبر كان عبد الرحمن بن حسن الجبرتي قد شدد في مؤلَفه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" على أهمية العامل الإقتصادي بقوله: "إن العرب في الجاهلية كانت تستعمل شهور الأهلّة وتقصد مكة للحج (...) ولكن لما لا يقع في فصل واحد من فصول السنة (...) ووقوع أيام الحج في الصيف تارةً وفي الشتاء أخرى (...) أرادوا أن يقع حجهم في زمان واحد لا يتغيّر (...) فقال لهم خطيبهم: ليأتِ حجكم وقت إدراك الفواكه والغلال، فتقصدوننا بما معكم منها، فوافقت العرب على ذلك."
  عالم الإجتماع الفرنسي اميل دوركايم قال ان وظيفة الدين الأساسية هي تعزيز وحدة المجتمع وعصبيته. حليم بركات تبنى مقولة دوركايم وأشار إلى انها تمثلت تاريخيا "بدورِ الإسلام في توحيد قبائل الجزيرة العربية والحضر والبدو مما ساهم في قيام الفتوحات الإسلامية الصاعقة."
  غير أن القبائل قاومت تذويبها في المجتمع وحاولت إستعمال الإسلام في خدمة مصالحها الخاصة. يقول محمد عمارة في هذا الصدد ان أهل العصبية القديمة من قريش، وبنو أمية نموذج جيـد لهم، إغتنموا فرصة حكم الخليفة الثالث عثمان بن عفان ليعيدوا سيطرتهم، في ثوبٍ إسلامـي، على مقدرات المجتمع من جديد الأمر الذي حرّك عصبية القبائل الأخرى فلجأت السلطةُ، خاصةً في العهد الأموي، إلى سلاح القبيلـة توازن به صراعات المجتمع، فتضرب قبائل بأخرى. في هذا السياق، إستنتج عبد العزيز الدوري ان تاريخ الإسلام هو تاريخ صراع بيـن القبيلة والدين أو بين القبيلة والقبيلة، وهذا ما كان إستخلصه ابن خلدون وكذلك قسطنطين زرق الذي تحدث عن إستمرار الأزمة بين الإنتماء القبلي والانتماء الإسلامي مما تسبب في سقوط عهود وحكومات وأسر حاكمة خلال التاريخ الإسلامي كله.
ما مفهوم الدين وأثره في الحقبة التي أعقبت بزوغ البعثة النبوية في مكة وامتدادها مع الرسول (ص) بعد الهجرة إلى المدينة، قبل ان تنحسر بآثارها مع أفول عهد الخلافة الراشدة ؟ 
  الإسلام في الفترة المكّية كان عقيدةً وحسب. فالآيات المكية تخلو بصورة عامة من أوامر ونواهٍ ذات طابع تشريعي. ذلك ان أحوال المسلمين ومتطلبات حياتهم آنذاك ما كانت تستلزم أكثر من إرساء مبادئ العقيدة وقواعد العبادة. مع تطور أحوالهم بعد الهجرة ونشؤ تحديات وحاجات مستجدة، نزلت الآيات المدنية وفيها من الأوامر والنواهي ما يسبغ عليها طابع الشريعـة. غير ان الشريعة في مجتمع المدينة لم تكن تشريعاً كاملاً لسببين: الأول، لأن المسلمين ما كانوا قد إستكملوا بعدُ عمق الإيمان بالعقيدة، "وما لم تكن عقيدة، فلن تكون شريعة (...) فقد ظهرت العقيدة وظلّت وحدها تمثّل الإسلام طوال سنوات مكة، أي ثلاثة عشر عاماً من ثلاثة وعشرين هي مدة البعثة، ولم يكن للإسلام طوال تلك الفترة من حدود أو شريعة أو جهاد إلاّ بمعنى تكوين النفس تكويناً إيمانياً." السبب الثاني "كان لحكمةٍ نستطيع ان نفهمها بقدْرٍ من التفكير، وهي ان مثل ذلك التشريع كان يلغي فائدة العقل الذي شاء ربنا ان ينعم به على الإنسان (...) مثـل ذلـك التشريـع كان يحوّل الإنسان إلى مجرد مخلوق آلي أشبـه بالاوتوماتون أو الربوت."
حتى لو كانت الشريعة قد إكتملت في مجتمع المدينة، وكان المسلمون قد إستكملوا عمق إيمانهم بالإسلام، فهل كان بالإمكان تطبيق الشريعة من دون دولة تتولى إنفاذ أحكامها؟ جمال البنا –الأخ الأصغر لمؤسس جماعة "الإخوان المسلمين" الإمام الراحل حسن البنا– يجزم إيجابـاً بدعوى ان حكم الرسول (ص) لمجتمع المدينة لم يصاحبه قيام دولة بالمعنى المتعارف عليه، إذ كانت أبرز مقوّمات الدولة، كالجيش والشرطـة والسجون والضرائب وسلطة الإلزام، غائبة أو غير متوفرة. إلى ذلك، يصرّ جمال البنا على انه لا يوجد في القرآن دَولة إنما امة. فكلمة دُّولة وليس دَولة وردت مرةً واحدة في صدد الحديث عن الفيء (كي لا يكونَ دُولَة بين الأغنياء منكم –سورة الحشر، الآية رقم 7) أي لا تكون غَلَبَة، في حيــن "نجد القرآن يستخدم كلمة امة في 49 موضعاً ويجعل هذه الكلمة في الوصف الجماعي  للناس وللمؤمنين."
غالبية الفقهاء، لاسيما السلفيين منهم وفي مقدمهم حسن البنّا، كانوا رفضوا مقولة جمال البنا ومن ذهب مذهبه من قبل ومن بعد. فالدولة، في رأيهم، حاجة ونصْب الإمام واجب على المسلمين يأثمون بتركه، وإقامة الدولة فعل واجب في الإسلام، وانه من الأمور التي تتقرر بمقتضى الأمر الشرعي.
سواء كانت الدولة ضرورةً واجبة لتطبيق الشريعة والقرآن قد أوجب قيامها ضمنا، أو كانت أداةً مشروعة ومستحسنة من نتاج إجتهاد الفقهاء، أو كانت في مطلق الأحوال ظاهـرة إجتماعية تاريخية ناجمة عن غريزة التغلّب ومطلب المصلحة والإقتدار، فإنه يبقى ان الدولة التي عرفها المجتمع العربي الإسلامي كانت في الغالب الأعم مؤسسة مستبدة وفاسدة، لم تخدم مبادئ الشريعة ولا مقاصدها. فالخلافة، بعد ان إنتهت الى بنى أمية، تحوّلت ملكاً عضوضاً. بإستثناء خلافة عمر بن عبد العزيز التي دامت سنتين، فإن معظم الخلفاء والسلاطين والحكام باشروا في عهودهم أشكالاً متنوعة من الإستبداد والفساد. ولعل جمال الدين الأفغاني ليس مغالياً في توصيف حال الأمة في زمانه وعلى نحوٍ يصدق عليها في زماننا بأنها "الأمة التي ليس في شؤونها حلّ ولا عقد، ولا تُستشار في مصالحهـا، ولا أثر لإرادتها في منافعها العمومية، وإنما هي خاضعة لحكمٍ واحد إرادته قانون، ومشيئته نظام، يحكم ما يشاء، ويفعل ما يريد. تلك امة لا تثبت على حالٍ واحد، ولا ينضبط لها سير..."
  غير ان توصيف الأفغاني لحال الأمة، على أهميته، يبقى ناقصاً. ذلك انه لم يلحظ دور الأجنبي عبر تاريخها وفي زمانه تحديداً. إذا كان الخلفاء والسلاطين والحكام المستبدون قد إحتلوا إرادتنا فإن إفراداً وجماعات من شتى الأقوام والألوان والثقافات قد تمكّنوا، تحت ستار الإسلام، من دخول مجتمعنا والإنخراط في نسيجه وولوج أبواب السلطة والارتقاء في مراتبها وصولا إلى إحتلال الأرض والإرادة معا. فقد إستولى على السلطة فريق من المماليك –هم في الأصل تُركٌ وكُردٌ وكُرجٌ– منذ 1171 م، ودام عهدهم نحو 350 عاما ليأتي بعدهم الأتراك العثمانيون ويحكموا الأمة اكثر من 400 عام. وإذا كان العرب قد تقبّلوا حكم المماليك مقابل تقبل هؤلاء لغتهم ودينهم، فإن سجل بني عثمان مع اللغة العربية والإسلام لا يدعو إلى الفخر. فقد جافـوا العربية، وحاولوا تتريك العرب ثقافياً وسياسياً. أما صلة سلاطينهم بالإسلام فكانت سطحيـــة ونفعية إذْ لم يؤثر عن ايّ من سلاطينهم (خلفائهم!) ان حجّ بيت الله الحرام. وبالإضافة إلى الفرنجة الذين إستوطنوا بالإحتلال بلاد الشام نحو 200 عام، فإن الفرنسيين والبريطانيين والايطاليين والإسرائيليين والأميركيين غزوا بلاد العرب، مغربها ومشرقها، منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر وما زالوا يحتلون، مباشرةً او مداورةً، أقطاراً عدّة فيها.
  إن أمةً حكمها السلاطين والحكام الأجانب واحتلوا إرادتها، وما زالوا، نحو ثمانيـة قرون لا يمكن ان تكون علّتها محصورة بمسألتي تطبيق الشريعة وإصلاح الدولة. إن ما تكابده، على ما يبدو، علّة مزمنة ومتجذّرة تتطلب علاجاً نوعياً لروحها وعقلها معا، ولسلّم قيمها وأخلاقها.
ثانياً: في مسألة الإسلام ديناً ودولة
  الإسلام عقيدة وشريعة. العقيدة هي الأصل. الشريعة هي الفرع. تقوم العقيدة على الإيمان بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، وقيم الحق والعدل والحرية. وهي ظهرت في الفترة المكّية على مدى ثلاثة عشر عاماً. الشريعة ظهرت مع الهجرة وبعدها. فهي، إذاً، فرع ومقتضى من مقتضيات العقيدة.
  غايةُ الإسلام ومهمته بين الناس ان يدلّهم إلى طريق الهداية. وهذه في العبادات جاءت بنصّ مفصّل عليها. ذلك ان أمور العبادة ليست مما تتغير فيه المصلحة بتغيّر الزمان والمكان. من هنا، يقول احمـد ابو المجد، "كان النقل مصدر أمور العبادة، والدخول في الطاعة جوهرها. اما الأمور المعاشية فتبقى على الأصل في الحلّ والإباحة الأصلية وحرية الحركة في طلـب الأصلح، تحدّها في ذلك كله حدود النصوص القطعية، وما إشتلمت عليه من أحكام تكليفية، أمراً ونهياً."
  هل تتطلب الشريعة، بما هي نظام، حكومة ترعاها وتنفذ أحكامها؟ البنّا الأكبر قال نعم. البنّا الأصغر قال كلا. وكان حسن البنا قد كتب ما نصّه "يَفترض الإسلام الحنيف الحكومة قاعدةً من قواعد النظام الاجتماعي الذي جاء به الى الناس، فهو لا يقرّ الفوضى ولا يدع الجماعة المسلمـة بغير إمام، فمن ظنّ أن الدين (...) لا يعرض للسياسة، أو ان السيـاسة ليسـت مـن مباحثه، فقد ظلم نفسه وظلم علمه بهذا الإسلام."
  منعُ الفوضى وإقرار النظام يشكّلان حاجة مستدامة عبّر عنها الفقهاء القدامى بوجوب إتقاء الفتنة وحياطة وحدة الجماعة بأسباب الحماية والصون. تفسير ذلك، في رأي محمد مبارك، ان الإسلام ليس مجرد عقيدة دينية فحسب بل هو أيضاً نظام إجتماعي وسياسي لا يقبل الوجود والإستمرار بغير دولة تعبّر عنه وتفرض أحكامه. "إن الدولة ضرورة في الإسلام لأن تنفيذ أحكام القرآن ممتنع دون دولة." هل الدولة من الأصول أو من الفروع؟
  حسن البنا كـان قد حسم هذه المسألة بقوله "الحكم معدود في كتبنا الفقهية من العقائد والأصول، لا من الفقهيات والفروع."
  لا يجادل جمال البنا في وجوب قيام دولة تتولى الردع والوقاية "لأن المجتمع لا يحتفظ بإنتظامه إلاّ بوازع السلطان." لكنه وغيـره كثيرون يرفضون ان تكون الدولة في الإسلام دولة دينية. محمد عمارة رفض أيضا النظرية القائلة بوحدة السلطتين الدينية والزمنية، مستعيناً بكلام الإمام محمد عبده ان أوروبا لم تحقق نهضتها "إلاّ بعد ان فصلت السلطة الدينية عن السلطة المدنية"، وان الأمة في الإسلام هي مصدر سلطة الحاكم، فهو مسؤول "أمام الأمة التي لها الحق في محاسبته ومراقبته." عبد الله العروي لاحظ ان العبارة "الإسلام دين ودولة" وصفٌ للواقع القائم منذ قرون، أي لحكم سلطاني مطلق يحافظ، لأسباب سياسية محض، على قواعد الشرع. أما الإسلام فهو "دين الفطرة الذي يهدف إلى إحالة الدولة إلى لا دولة، كما ان التاريخ الوقائعي لم يعرف دولة "إسلامية" باستثناء فترة الوحي والإلهام، كذلك لم تظهر في التأليف الإسلامي نظرية دولة إسلامية."
سواء كانت الدولة إسلامية، بمعنى دينية، أو مدنية لا تدين بدين معين، فهل تطبيق الشريعة وظيفة إلزامية لها ام وظيفة اختيارية يجري تقريرها في ضؤ المصلحة العامة؟
  الفقهاء السلفيون المتشددون يجيبون بلسان عبد السلام ياسين: "منذ ان أصبح الحكم بين المسلمين ملكاً وهريراً وعضّاً، إنتحتِ الدعوة ورجالها، فلم تعد الدولة هي راعية الدعوة كما كان الأمر من قبل. لم يعد السيف في خدمة المصحف؛ إفترق السلطان والقرآن." يوسف القرضاوي ينطلق من فرِضية مختلفة مفادها ان الشريعة ظلّت مرجعاً للحكم والدولة طيلة ثلاثة عشر قرنا قبل دخول الإستعمار. فالعائق أمام تطبيق الشريعة عائق خارجي في المقام الأول وهو الإستعمار ونظمه المفروضة بالعنف. غير ان عبد السلام ياسين، وإن كان يرى في الإستعمار عائقاً، إلاّ ان العائق الأساس داخلي متمثل في تخلي المجتمعات الإسلامية عن شريعتها بفعل سياسات الحكام وجبن الفقهاء.
  لئن كان تطبيق الشريعة إلزامياً في نظر ياسين والقرضاوي وغيرهما من الفقهاء السلفيين، فإن الناس، لا السلاطين والحكام فحسب، تجاوزوا هذا الإلزام الشرعي بعدم الالتزام به. ها هو حسين احمد أمين يتصدى لطارق البشري الذي كان جزم بأن ليس لديه "شبهة في ان الإسلام كان هو السائد في ديارنا، فكراً وثقافة وسياسة وديناً وعقيدة ونظاماً، بقوله له إن قراءته في البلوي وابن ايبك الدواداري وابن الفرات والمقريزي وابن تغري بردى والصيرفي والسخاوي والسيوطي وابن إياس والجبرتي وعشرات غيرهم من المؤرخين المسلمين الذين أحالوا "لا شبهة" البشري إلى يقين" بأن الإسلام لم يكن، لا في مصر ولا في غيرها، يسود فكرنا او ثقافتنا او سياستنا او عقيدتنا او نظامنا، ولا كان ما يسمى بالشريعة الإسلامية مطبقاً في أي وقت من الأوقات، عدا زمن النبي والخلفاء الراشدين، قبل الإتجاه في القرن التاسع عشر إلى الإقتباس من النظم القانونية الغربية، ثقافةً وفكراً! (...) لقد كان السلاطين والولاة اكثر الناس جهلا بها وتبجحاً في نقضها، وكان جل جهود الفقهاء منصرفاً إلى (...) إختراع الحيل التي يتخلصون بها من الأحكام الشرعية والى كيفية تجنب تطبيق الحدود قدر الإمكان والإستعاضة عنها بالتعزير الذي لم يذكره القرآن ولم يعرض له الحديث إلاّ قليلاً.
  يلتقي جمال البنّا مع حسين احمد أمين في ان الشريعة لم تكن مطبقة في خلال تاريخنا إلاّ في فترة وجود الرسول (ص) والخلفاء الراشدين، وان لتلك الظاهرة أسباباً عــدّة أبرزها ان الشريعة لم تكن مقننة. فقد حاول الخليفة عمر بن عبد العزيز تدوين السنّة، لكن خلافته لم تدم أكثر من سنتين.  قيل ان الوليد بن عبد الملك أراد التدوين قبل عمر بن عبد العزيز كي يتحوّل ذلك إلى قانون يحمل الناس عليه او يلزمهم به، غير ان محاولته "لم تنجح أمام الأعراف الفقهية السائدة." ويروي مالك بن انس ان الخليفة أبا جعفر المنصور أراد نسـخ كتبه وإرسالها إلى كل مصرٍ من أمصار المسلمين كي يعملوا بما فيها ولا يتعدوها إلى غيرها. لكن مالك رفض ذلك "لأن الناس قد سبقت إليهم أقاويلُ وسمعوا أحاديث أصحاب رسول الله وغيرهم وان ردّهم عما اعتقدوه شديد، فدعْ الناس وما هم عليه وما اختار أهلُ كل بلدٍ لأنفسهم."
  يستنتج جمال البنا من رواية مالك بن انس مع أبي جعفر المنصور ان الفقهاء، لاسيما الكبار والافذاد منهم، كانوا يرفضون تقنين الشريعة وما كانوا يطلقونه من فتاوى في معرض تطبيقها. مردّ ذلك إلى رغبتهم في الإحتفاظ بسلطة الإفتاء بعيداً من إملاء الحكام. ذلك ان تقنين الشريعة من شأنه ان يضع بين أيدي الحكام سلطة مضافة للضبط والربط والسيطرة.
  ثمة سبب آخر لرفض التقنين. انه تفادي الاضطرار إلى الأخذ بمذهبٍ من دون سائر المذاهب المتمايزة، فتقوم قيامة أصحاب المذاهب المتروكة. غير ان الخلوص إلى هذه النتيجة أسعد الفقهاء كما المسلمين. فالفقهاء أسعدهم بقاء سلطة الإفتاء في أيديهم، والمسلمون سرّهم ان "تكون الشريعة فكراً بين الناس يؤثر فيهمٍ ويتفاعل معهم  بحكم أفضليته ومنزلته من أن يكون قانوناً مفروضاً عليهم من الدولة."
  في الصراع بين الأمراء (الحكام) والفقهاء  إنتصر الأولون. ذلك انهم تمكّنوا دائما من توظيف فقهاء في خدمتهم. هؤلاء كانوا مفتيّ السلاطين وكان لهم دور كبير في توطيد تراث الإستبداد في عالم الإسلام. لكن، ماذا عن مسألة إلزامية الشريعة او إلتزامها؟
  يتصدّى محمد النويهي لهذه المسألة بالتأكيد على ان الإسلام يهتم أعظم إهتمام بصلاح أحوال الناس في دنياهم، وانه ليس دين آخرة أو دين خلاص روحي فحسب. لكنه لا يتردد فـي القول أيضا "إن الإسلام لا يتضمن نظاما نهائيا للمجتمع الإنساني، ولم يحاول قط ان يضع مثل هذا النظام، ولم يدعِ قط ان الله وحده هو مصدر القوانين كلها، دينيها ودنيويها، لأنه يقرر مبدأ تطور الأحوال ولا يريد ان يقوم عائقا أمام هذا التطور، ولا يريد ان يشلّ عقول البشر."
  ينطلق النويهي من هذه المسلمة التي يعتنقها الى القول إن أوامر القرآن ونواهيه ليست كلها فروضا وتحريمات ملزمة كما يعتقد كثيرون أو يدّعون. هؤلاء، في رأيه، يريدون ان يحصروا أوامر القرآن ونواهيه في بابين فقط: الفرض والتحريم. لكن الرجوع الى مراجع الاصول والفقه يرشدنا إلى ان العلماء القدامى أنفسهم قسموا اوامر القرآن ونواهيه الى أبواب خمسة: باب الفرض، وهو ما نلزم به ونعاقب على تركه. وباب الواجب، وهو ما يجمل بنا ان نفعله ولكن لا نعاقب على تركه. وباب المباح، وهو يعني التخيير المطلق دونما تفضيل للعمل او للترك. وباب المكروه، وهو ما ينبغي ان نتركه لكنه غير محرم ولا يستتبع فعله عقاباً. واخيراً باب الحرام، وهو ما يلزمنا تركه ويحق علينا العقاب إذا فعلناه. ثم يتساءل النويهي: هل نحن ملزمون بأن نأخذ دائما وفي كل حال بأقوال العلماء القدامى في تحديد أي الأحكام ينتمي إلى كل باب من تلك الأبواب؟ أوَ لم يختلف العلماء القدامى أنفسهم في درجات الوجوب والإباحة والكراهة بين مندوب ومستحسن ومستقبح ومكروه كراهة تحريم وآخر كراهة تنزيه؟
  يجيب النويهي عن سؤاله بنفسه قائلاً "لا يقع علينا الإلزام بأقوال العلماء القدامى إلاّ إذا إعتقدنا بأن لهم وحدهم حق التمييز والإجتهاد وليس لأحد ممن جاء بعدهم، وإعتقدنا بأنهم كانوا معصومين من الخطأ عصمةً إختصوا بها دون غيرهم (...) إن كل ما في القرآن وما في السنّة من تشريعات لا تتناول العقيدة وما يتعلق بها من شعائر العبادة، بل تتناول أمور الدنيا ومعاملاتها وتنظيمها وعلاقاتها، كل هذه التشريعات بلا إستثناء ليست الآن ملزمة لنا في كل الأحوال. حتى ما كان منها في زمان الرسول من بابي الفرض والتحريم، لم يعد الآن بالضرورة كذلك، بل لنا الحق في ان ننقله إلى بابي الندب والكراهة، إن لم ننقله إلى باب المباح وهو التخيير المطلق. لنا الآن هذا الحق إذا إقتنعنا بأن تغيّر الأحوال يستلزم تطبيقه، وما دمنا نلتزم بالغايات الأخلاقية العليا التي نصبها القرآن."
إذْ يرفض محمد النويهي إلزامية تطبيق الشريعة، يتصدى محمد عابد الجابري للمسألة نفسها من باب فتح باب الإجتهاد بما يؤدي إلى الإلتزام بتطبيقها حيث وانّى تقضي المصلحـة العامة الحقيقية بذلك. في هذا السبيل يقتفي العابدي خطـى الخليفة الراشدي الثاني بقوله "إذا كان عمر بن الخطاب قد عمل بإجتهاده واجتهاد الصحابة الذين إستشارهم في مسألة فيها نص، فوَضَع الخراج على الأراضي المفتوحة عنوةً بدلَ تقسيمها بين المقاتلين، مراعياً في ذلك المصلحـة، مصلحة الحاضر ومصلحة المستقبل؛ وإذا كان قد عدل عن قسمة الغنائم بالسوية، كما كان يفعل النبي وابو بكر، وارتأى ان "العدل" يقتضي قسمتها على أساس السبق في الإسلام والقرابة من الرسول (ص)، واذا كان عمر بن الخطاب –لمشرّع الأول في الإسلام بعد الكتاب والسنّة– قد اعتبر المصلحة ومقاصد الشرع، فوضعهما فوق كل اعتبار، فلماذا لا يقتدي المجتهدون والمجددون اليوم بهذا النوع من الاجتهاد والتفكير بدل الإقتداء بفقهاء عصر التدوين والترسيم؟ (...) فالإجتهاد يجب ان يكون لا في قبول هذا المبدأ او عدم قبوله بل في نزع الطابع الميكانيكي عن مفهوم "الدوران" (القول بان الحكم الشرعي يدور مع علّته، وليس مع حكمته)، والعمل من اجل الإرتفاع بفكرة المصالح إلى مستوى المصلحة العامة الحقيقية كما تحدد من منظور الخلقية الإسلامية. انه من دون هذا النوع من التجديد سيبقى كل "إجتهاد" في إطار القواعد الأصولية القديمة إجتهاد تقليد، وليس إجتهاد تجديد."
  إذ يدعو العابدي إلى تأصيل أصول الفقه على أساس بنائها على مقاصد الشريعة، وفق منهج الفقيه المالكي الاندلسي الإمام الشاطبي، بدل الإقتصار في الإجتهاد على القياس، قياس جزئيات لم يرد فيها نص على جزئيات ورد فيها نص، تراه يعترض، شأن احمد ابو المجد ومحمد النويهي وجمال البنا، كلٌ من زاويته، بقوله إن تطبيق الشريعة لا يجوز ان يعني فقط إقامة الحدود، كقطع يد السارق، لأن هناك مبادئ واحكاماً اخرى يجب ان تطبق، مثل مبدأ الشورى في الحياة السياسية، ومبدأ (هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون – سورة الزمر، الآية رقم 9) في الحياة الفكرية، ومبدأ "الناس كأسنان المشط" في مختلف مرافق الحياة. هذا مع العلم ان "مصالح العباد" لم تعد مقصورةً على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال كما حددها الفقهاء القدامى، بل أصبحت تشمل، في رأي العابدي، بالإضافة إلى ذلك كله اموراً أخرى كالحق في حرية التعبير وحرية الإنتماء السياسي، والحق في إنتخاب الحاكمين وتغييرهم، والحق في العمل والخبز والمسكن والملبس والتعليم وتوفير الصحـة والوقاية والعـلاج.
  ان شريعةً يفترض بها ان تنطوي على كل هذه المقتضيات الشرعية والإنسانية وغيرها يصعب تقنينها، ليس بسبب إتساع مسائلها ومواضيعها فحسب بل بسبب الخشية أيضا من تجميدها في نص قد يأخذ طابع قداسةٍ مزعومة أو عصمة موهومة في عصر يقوم على الحركة والتطور والتغيّر المستدام.
ثالثاً: تطبيق الشريعة في الدولة المعاصرة
  إذا كانت الشريعة في بلدان المغرب العربي تعني، عموماً، إقامة الحدود (وليس تطبيق أحكامها بالضرورة) فإنها في بلدان المشرق العربي تعني تطبيق أحكام الأحوال الشخصية كالزواج والطلاق والإرث والوصية. ومع ذلك فإن تسعة من بين دساتير الدول العربية الاثنتين والعشرين تتضمن دساتيرها عبارة من خمس كلمات "الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، فيما تعتبر السعودية "كتابَ الله وسنّة رسوله دستورها"، والسودان يضيف الى الشريعة "إجماع الأمة إستفتاءً ودستوراً وعرفاً"، وسوريا تعتمد مفهوماً أوسع مدى "الفقه الإسلامي مصدر رئيسي للتشريع".
  بإستثناء السعودية، تتمشى الدول العربية على أحكام قوانين وضعية في مختلف حقول الحياة. بعض هذه القوانين يتصل بأحكام الشريعة؛ بعضها الآخر ذو أصولٍ وصياغــة أجنبية (تقنين نابوليون وسواه). غير ان عبد الرزاق السنهوري، الذي كانت له اليد العليا في وضع القانون المدني المصري، يؤكد بأنه جرى تبني كل ما يمكن تبنيه من أحكام الشريعة عند وضع القانون المذكور مع مراعاة المبادئ الصحيحة للتشريع الحديث.
  منـذ ثلاثينات القرن العشرين إنطلقت حملة شعبية لإعتماد أحكام الشريعة في وضع القوانين. ابرز المطالبين بأسلمة القوانين الوضعية كانـت، وما زالت، جماعـة الأخـوان المسلمين. الحملة لم تفلح كثيراً ربما لأن "التشريعات المهمة التي تكوّن النسيج التشريعي لمجتمعاتنا المعاصرة كقوانين التوظيف والخدمة المدنية، وقوانين  المرور، والصحة العامة، والتعليم، وإقامة الأجانب، وتسجيل العقارات" (...) هي، في رأي احمد أبو المجد، لا تخالف "مبادئ الإسلام وشريعته"(...) الأمر الذي دفعه الى التساؤل عن جدوى عملية أسلمة القوانين: "ام أن عين المسلمين لا يجوز لها ان تقرّ إلاّ إذا بدؤا بالهدم الكامل وسووا بالأرض كل ما عليها من أبنية ثم أقاموها من جديد؟"
  يتحصّل من مجمل ما جرى عرضه من وقائع وجدليات ومساجلات حول حال الشريعة قديماً وحديثاً الخلاصات الآتية:
اولاً، ان الإسلام عقيدةً وشريعةً ينطوي على توجّهٍ الى إصلاح الحياة العامة بجوانبها السياسية والإجتماعية من خلال تطبيق المبادئ الإسلامية في تلك الميادين.
ثانياً، ان القرآن لم يأت على ذكر الدولة كفريضة شرعية، لكن إقامة الدولة تبقى ثابتة بالإقتضاء في كثير من النصوص التي تفترض وجود الدولة بما هي سلطة سياسية غالبة وقادرة على تنفيذ الواجبات وحماية ما يقابلها من حقوق.
ثالثاً، ان الإسلام لا يقيم حكومة دينية، بل ان الدولة الإسلامية هي دولة مدنية من حيث ان الرضاء هو شرعية الحكم في المجتمع الإسلامي.
رابعاً، ان الشريعة لم تطبق بصورة كاملة قديماً وحديثاً، وان ما طُبق من أحكامها كان في معظمه متعلقاً بالأحوال الشخصية غالباً وبحدّي السرقة والزنى احياناً، فيما أُهمل مفهوم الشورى من طرف السلاطين والحكام الذين استخدموا فقهاء من أجل تسويـغ حكم التسلط والإستبداد.
خامساً، ان مسألة تطبيق الشريعة تتصل إتصالا حميما بضرورات الاجتماع السياسي وحاجياته في الزمان والمكان الأمر الذي يستدعى، بالضرورة، مفهومي الشورى والديمقراطية ومركزيتهما في عملية التشريع .
في ضوء ما تقدّم بيانه يستقيم الإستنتاج دونما تحفظ أن مسألة تطبيق الشريعة هي، في التحليل الأخير، مسألة تقرير ما اذا كان يقتضي إلزام المجتمع بها ام تركها أمانة لدى النــاس، مسؤولين ومواطنين، علماء وبسطاء، كي يقرروا بأنفسهم، في ضوء ضرورات الحياة وحاجياتها من جهة والنظام الأخلاقي الإسلامي ومقتضيات الانتظام العام من جهة أخرى، ما إذا كانوا سيلتزمون بأحكامها وقواعدها وقيمها وشكل هذا الإلتزام ومداه.
إن الحرية والعدل والعقل أسس جوهرية في الإسلام، وهي قيم دافعة بإتجاه إيثار خيار الإلتزام على خيار الإلزام في تطبيق الشريعة. وعليه، أبادر إلى تجديد المناقشة في هذا المجال الحيوي من خلال معالجة ثلاثة موضوعات إشكالية هي الإسلام والدولة، عصمة رجال الدين، الإسلام والعلمانية، وذلك في سياق مقاربة جديدة لتطبيق الشريعة على أساس الإلتزام.
الإسلام دين ونظام
تقول غالبية الفقهاء إن الإسلام ليس مجرد دين ينطوي على مُثل وقيم وعبادات بل هو دولة أيضا تنطوي على شريعة وقواعد وأحكام ومعامـلات. فالله تعالى "يزع بالسلطان (أي بالسلطة والقوة) ما لا يزع بالقرآن"، وأن لا سبيل الى تطبيق أحكام الشريعة إلا بقيام سلطة إسلامية، القيادة فيها للعلماء والفقهاء.
الحقيقـة ان الإسلام ليس دينا فحسب بدليل انه ينطوي أيضا على شريعة ذات قواعد وأحكام، وأن الشريعة نظام أو ناظم لأحوال الإنسان في عباداته ومعاملاته. ولكن ثمة سؤالاً يُطرح: هـل يقتضي إقامة دولة إسلامية لتطبيق هذا النظام، وهل في القرآن أمر بإقامة هذه الدولة؟
    لستُ من القائلين بأن تطبيق الشريعة -أي نظام الإسلام- يستلزم إقامة دولة إسلامية بقيادة الفقهاء والعلماء لأن من الممكن، بل من المستحسن، ان يكون الالتزام بالشريعة إلتزاما ذاتياً نابعاً من الإيمان والوجدان والاقتناع والمصلحة الشخصية. فالمسلم يستطيع ان يمارس الشهادة والصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد وتطبيق أحكام الزواج والـطلاق والإرث والوصية دونما حاجة إلى دولة إسلامية، أي إلى سلطة ملزمة، بدليل ان المسلمين يمارسون تلقائيا تلك الفرائض في دول أوروبا وأميركا حيث لا سلطة إسلامية. فالقرآن الكريم خلو من أي أمر أو فرض بإقامة دولة إسلامية. وكل ما يقوله بعض الفقهاء والعلماء في هذا الصدد لا يعدو كونه اجتهادا لا يُلزم المسلمين بل يلزم القائلين به ومن يذهبون مذهبهم. وليس معنى هذا أنه لا يجوز إقامة دولة إسلامية أو أن مثل هذه الدولة لم تقم في التاريخ. بالعكس، من الجائز والمستحسن إستجابة إرادة الغالبية في إقامة دولة إسلامية، لكن إقامة هذه الدولة ليست فريضة دينية.
حتى عندمـا قامت دولة إسلاميـة في الماضي فإنها لم تكن قط حكومة دينية، ذلك ان الإسلام، كما يقول العالم الدكتور احمد كمال أبو المجد "لا يقيم حكومة دينية، لان رضاء الشعب هو مصدر شرعية السلطة في المجتمع الإسلامي." وقبل أبو المجد جزم الإمام محمد عبده بأن "ليس في الإسلام ما يسمى عند القوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه. ولا يجوز لصحيح النظر ان يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج تيوكراتيك." وعليه، ما دام رضاء الشعب هو القاعدة والمعيار فإن النظام الذي يختاره الشعب، بإرادته الحرة، يكون نظاما شرعيا مقبولا من الإسلام، كما يؤكد ابو المجد.
 باختصار، إن الإسلام دين ونظام. هذا النظام يمكن تطبيقه في المجتمع من دون تدخل الدولة. حتى عندما يتطلب الأمر تدخل الدولة فإن هذه لا يقتضي أن تكون سلطة دينية ولا سلطة معقودة اللواء للمسلمين وحدهم. هذه هي الحال في المجتمع الإسلامي، فهل يجوز ان تكون غير ذلك في المجتمع المتعدد الأديان والمذاهب كالمجتمع اللبناني والسوري والمصري والعراقي؟ أليس هذا ما حدا بأية الله الشيخ محمد مهدي شمس الدين الى المطالبة بان تكون الدولة في لبنان بلا دين؟
عصمة رجال الدين
  لعل من ابرز مزايا الإسلام انه دين بلا كهنوت. فالإسلام لا يقرّ أبدا طبقةً او سلكا مخصوصا برجال الدين، بل إن تعبير "رجال الدين" منافٍ للإسلام الذي لا يشترط قـط زيا خاصا وتراتبيــة محفوظة للمتصلين بشؤون الدين. فالرسول (ص) كان يسير عاري الرأس، يرتدي جلبابا بسيطا وسترة اكثر بساطة. ولم يؤثر عنه، كما يقول الشيخ عبد الحميد بخيت، انه إرتدى عمامة او غطاء للرأس إلا في حالات نادرة وللضرورة الملحة، إتقاء للشمس او تجنبا للمطر.
اكثر من ذلك، ليس الإتصال بشؤون الدين من عبادة وشعائر واجتهاد وتشريع أمرا موقوفا على رجال الدين، أي على طبقة من الناس، كالكهنوت المسيحي، يشكلون واسطة بين الله والإنسان. فالعلماء والفقهاء هم،  في الدرجة الأولى، اختصاصيون مشهود لهم بالعلم والفضل والاجتهاد، لكن اجتهاداتهم ليست ملزمة وهم ليسوا معصومين من الخطأ ولا يمكن ان تكون لهم خارج رضــاء الجماعة (الشعب) أية سلطة عُليا تبيح لهم النيابة عن صاحب الشريعة في تفسير أحكامها وإلزام الناس بها.
   إذا كان هذا هو الواقع في المجتمع الإسلامي الخالص او ذي الغالبية الإسلامية، فهل يجوز ان يكون غير ذلك في المجتمع اللبناني او السوري او المصري او العراقي المتعـدد الأديان والمذاهب؟ وكيف تكون الحـال عندما يتولى فقيه، مباشرةً او مداورةً، النيابة عن صاحب الشريعة في تفسير أحكامها وإلزام الناس بها، خصوصا عندما تكون شريحةٌ من هؤلاء من غير المسلمين؟ وكيف نحمي مجتمعنا من الإستعمار الجديد والصهيونية اللذين يتربصان بنا ويتلهفان على سوانح وثغرات مثل هذه لينفذا بالإيقاع والفرقة الى عمق صفوفنا؟
الإسلام والعلمانية
ليس من شك في ان الإسلاميين على حق في رفضهم التقليد الأعمى للغرب، بل هذا التغّرب الذي يتناول معظم وجوه حياتنا ويلحق بها من الفوضى والتشويه ما يجعلنا في إرتباك مقيم. غير ان رفض التغّرب ليس وقفا على الإسلاميين بل هو موقف ينهض به ويتحمل مسؤولياته المثقفون وأهل الرأي والمناضلون السياسيون المنتمون الى شتى المدارس والتيارات والإيديولوجيات القومية واليسارية والتقدمية الحريصة على الأصالة، من حيث هي الجوانب الحية في التراث، حرصهـا على المعاصرة بما هي الجوانب الخيرّة في الحداثة المراد  تكييفها مع متطلبات المشروع النهضوي الحضاري العربي.
  رغم التقاء الإسلاميين والتقدميين في موقف معاداة التغرّب فإن معظم الإسلاميين يلجأ الى التحامل على "العلمانيين" بوضعهم جميعا في سلة واحدة من حيث إتهامهم بأنهم مجرد مقلدّين للتجربة الأوروبية، الفرنسية خاصةً، هذه التجربة التي إنطوت على الفصل بين الكنيسة والدولة في حين لا كنيسة في الإسلام ولا ضرورة لاستحداث تقليد الفصل بين المسجد والسياسة في مجتمعاتنا الإسلامية المغايرة في ظروفها لمجتمعات أوروبا المسيحية.
الحق أن هناك فروقاً عميقة بين "العلمانية" العربية (مع تحفظي الشديد على استعمال هذا المصطلح) والعلمانية الأوروبية وبالتالي بين "العلمانيين" العرب والأوروبيين. ولعل هذه الفروق تظهر اكثر ما يكون عند تبيان المرتكزات الأساسية للعلمانية العربية على النحو الآتي:
*حرية الإعتقاد عملا بالآيات الكريمة: "لا إكراه في الدين" (سورة البقـرة ، الآية رقم 256). "لست عليهم بمصيطر" (سورة الغاشية، الآية رقم 22). "انـك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" (سورة القصص، الآية رقم 56).
 *قدرة العقل الإنساني على اجتراح حلول لمشكلات الإنسان والمجتمع سواء باقتباسها من النص الإلهي، اي الشريعة، او بتبنّيه واتّباعه قيما ومسالك مكتسبة من تجارب الحياة الإنسانية وظواهرها الطبيعية والاجتماعية. باختصار، قدرة العقل على حلّ مشاكل الإنسان والمجتمع، والثقة بهذا العقل.
*المساواة بين البشر والتكافؤ في الفرص بصرف النظر عن الجنس والأصل والدين واللون والمنزلة الاجتماعية.
*حياد الدولة إزاء مؤسسات الأديان والمذاهب.
*الشورى والديمقراطية هما السبيل الأفضل لحكم المجتمع وتطويره، ويقومان على حرية التعبـير، وتعددية الرأي، وحكم القانون، والاحتكام الى الأغلبية في إطار من التوافق  الوطني.
*وضع قانون مدني اختياري للأحوال الشخصية يراعي القواعد والأعراف الأساسية في الإسلام والمسيحية.
*ايلاء النظر في قضايا الأحوال الشخصية إلى المحاكم المدنية على ان تكون مؤلفة من قضاة مختصين بالشرع.
*التسامح من حيث هو طريق التراحم ("رحمة الأمة في إختلاف الأئمة ") والحوار والتفاعل والتصويب والتطوير.
    إن خصائص "العلمانية" العربية، كما حددناها آنفا، تختلف إختلافا واضحا عن خصائص العلمانية الأوروبية. بل إن هذه الخصائص البارزة للعلمانية العربية ذات السياق التاريخي والاجتماعي المختلف تضعها في صلب روح الإسلام العظيم وقيمه ومُثله وممارسة الأخيار من خلفائه وعلمائه وحكمائه. أليس في ضؤ ذلك قال العلامة الشيخ عبد الله العلايلي: "الإسلام دين علماني"؟
   لعله آن الآوان كي يعلن "العلمانيون" العرب تمايزهم عن العلمانية الأوروبية واستقلالهم الذاتي عنها بسياق تاريخي خاص بهم وذلك بشتى وسائل التفكير والتدبير والبحث والممارسة. ولعله أيضا بات من الضروري إبدال مصطلح العلمانية ذي المضمون الأوروبي المغاير بمصطلح جديد يحمل الخصوصية التاريخية والاجتماعية لمضمونها العربي المتكامـل مع روح الأديان جميعـا -لاسيما الإسلام- والمتكامل مع الإيمان الديني عموما. وإني أقترح، في هذا المجال، تعبير العدلانية (او العدلنة) المشتقة من العـدل، وهـي كلمـة تحمل، في المعجم، جملة معانٍ تؤدي المضمون الأفضل والمطلوب:  ضد الظلم والجور، السويّة، النظير والمثل، القيمة.
  هذه المفردات تحمل معاني حرية الإعتقاد، والمساواة، والقيمة المتوخاة للإنسان من حيث هو روح وجسد وعقل.
  أني ألتزم وغيري الإسلام والشريعة بإقتناع ذاتي نابع من عمق الإيمان والوجدان، وبثقة صافية نابعة من صميم القلب والعقل، فلماذا إلزام المرء قسراً بما يمكن ان يختاره طوعاً وان يلتزمه حراً؟!


 حليم بركات، المجتمع العربي في القرن العشرين ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2000 م ) صفحة 426.

  Max Weber, the Sociology of Religion ( London :  Methen and Co.1966 ) pp. 1-2.
 

 Ibid., p. 13

 عبد الرحمن بن حسن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار ( بيروت، دار الجيل، دون تاريخ )، الجزء 1، ص: 7-8 .

 Emile Durkheim , The Elementary Forms of the Religions Life, Free Press Paperbacks ( New York: Free Press, 1965) pp. 236-245 and 462-472.

 بركات، المصدر السابق الذكر، ص: 429

 محمد عمارة، "من هنا بدأت مسيرتنا للوحدة العربية"، قضايا عربية، السنة 3، الأعداد1-6 ( نيسان/ابريل– أيلول/سبتمبر 1976م)، ص: 67-68

 عبد العزيز الدوري، مقدمة في تاريخ صدر الإسلام (بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1961 م).

 Constantine K. Zarayk, “ Tensions in Islamic Civilization”, Seminar Paper no.3 ( Washington , Dc: Georgetown University, Center for Contemporary Arab studies, 1978. 
 

 جمال البنا، هل يمكن تطبيق الشريعة؟ (القاهرة، دار الفكر الإسلامي، 2005 م) ص: 51 – 55 .

 محمد النويهي، "نحو ثورة في الفكر الديني"، مجلة الاداب، عدد ايار/مايو 1970 م)، ص: 25-107.

 جمال البنا ، الإسلام دين وامة وليس دينا ودولة (القاهرة ، دار الفكر الإسلامي ، 2003 م)، ص 17 – 21.

 المصدر نفسه.

 عبد الاله بلقزيز، الدولة في الفكر الإسلامي المعاصر ( بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، 2002 م)، ص: 126-130 .

 بلقزيز، المصدر السابق الذكر، ص 47.

 عصام نعمان، اميركا والإسلام والسلاح النووي (بيروت، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، 2007 م)، ص: 74 – 78.

 احمد كمال ابو المجد "المسألة السياسية: وصل التراث بالعصر والنظام السياسي للدولة" في: السيد ياسين وآخرون، التراث وتحديات العصر في الوطن العربي (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1987 م) ص: 571 – 593.

 حسن البنا، مجموعة رسائل الامام الشهيد حسن البنا ( بيروت، المؤسسة الإسلامية، لا تاريخ )، ص: 211

 محمد المبارك، نظام الإسلام: الحكم والدولة  ط 4 ( بيروت، دار الفكر، 1981 م)،  ص: 12-18.

 حسن البنا، المرجع السابق الذكر، ص: 170.

 محمد عمارة، الدولة الإسلامية بين العلمانية والسلطة الدينية (بيروت، القاهرة: دار الشروق، 1988 م)، ص: 27-32 و61.

 عبد الله العروي، مفهوم الدولة (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 1981 م)، ص: 122 – 123.

 بلقزيز، المصدر السابق الذكر، ص: 156.

 المصدر نفسه، ص: 156 –  157 .

 المصدر نفسه ، ص 157 –  158 .

 حسين احمد امين، في السيد ياسين وآخرين، التراث وتحديات العصر في الوطن العربي، ص 646 – 647. يتضامن مع حسين احمد امين في الموقف نفسه مفكرون آخرون، انظر: محمد عابد الجابري، الدين والدولة وتطبيق الشريعة (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2004م)، ص:  201- 209.

 جمال البنا، هل يمكن تطبيق الشريعة؟، ص 5-6

 المصدر نفسه.

 المصدر نفسه.

 المصدر نفسه، ص: 7.

 المصدر نفسه، ص: 9.

 النويهي ،المرجع السابق الذكر.

 المصدر نفسه.

 المصدر نفسه.

 الجابري، المرجع السابق الذكر، ص: 181 – 182

 المصدر نفسه ، ص 196 – 197. للتوسع في الإطلاع على مبدأ الشورى، انظر: احمد الموصللي، جدليات الشورى والديمقراطية (بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007م).

 الجابري ، المرجع السابق الذكر ، ص 190.

 هي دساتير مصر، اليمن، الكويت، البحرين، قطر، السودان، الإمارات العربية المتحدة، سوريا، فلسطين.

 Enid Hill, Al-Sanhuri and Islamic Law (Cairo, The American University in Cairo Press, 1987) p.71

 Ibid., p 72

 احمد كمال ابو المجد ، المرجع السابق الذكر ، ص 578 – 584.

 المصدر نفسه. انظر ايضا: آية الله السيد محمد حسين فضل الله، الحركة الإسلامية-هموم وقضايا، ط 3 (بيروت: دار الملاك للطباعـة والنشر، 1993م).

 المصدر نفسه. انظر ايضاً: الاعمال الكاملة للإمام محد عبده، دراسة وتحقيق، 1973م.

 محمد مهدي شمس الدين، نظام الحكم والادارة في الإسلام، ط2 ( بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1991م).

 محمد النويهي، المرحع السابق الذكر.

أبلغنا مصدر موثوق ان أشياخاً يحسبون أنفسهم على الإسلام الأصولي المتزمت "افتوا" في العراق بعدم جواز عقد القران بين المسلمين والمسلمات في محاكم الدولة بل لدى أشياخ جماعتهم، وعدم جواز مزاولة مهنة الحلاقة أو بيع الثلج في أشهر الحرّ والقيظ بدعوى ان هذه المهن لم تكن معروفة في عهد الرسول (ص).  



آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net