Tahawolat
قد نكون مَن صدّر الأبجدية الى العالم، ومَن اخترع الطبّ والدواء... قد تكون أرضنا موطن الحضارة ورحم الثقافة... وقد نكون شعوبًا تُبعَث من رمادها... الا انّنا، وفي بحر تاريخنا، أغفلنا أن نكون أحرارًا...

تحكي "ميرنا الشويري" في روايتها "بغداد براغ" مسيرة رجلٍ نحو الحرية ، بطلها "نضال" "لم يُولد حُرًّا بل اختار أن يكون حُرًّا". هو رسامٌ عراقيّ خلع عنه أغلال التقاليد والأعراف وأبى أن تُكبَّلَ أفكاره وفنّه وطموحه ولو بسلاسل من ذهب ووجاهة. "نضال" متمرّدٌ على واقعه، يرفض الانصياع له. يحارب دفاعًا عن آرائه ويخوض غمار مستقبله مُجازِفًا بكلِّ ما لديه، مُدافعًا بكلِّ ما أُؤتيَ به من قوة عن معتقداته الإنسانية. فهو عصاميٌّ شقَّ طريقه بنفسه مؤمنًا برسالته وموهبته. وهو أيضًا رومانسيٌّ حالم، يملك الكثير من الحبّ، يبحث عن شريكةٍ تستحقّه يُمسكُ بيدها فيهيمان معًا في عالمٍ آخر من نسج الخيال والأحلام... وهو المدافع الشهم عن الحبّ وفارسه النبيل، يساعد ابنة عمّه "كفاح" للحصول على الطلاق من زوجٍ يُعنِّفها، يُزوِّج أخته "ليلى" بحبيبها رغم معارضة أهله ويستميت في دفاعه عن حبّه لـ"الينا" فيتزوّجان ويُنجبان طفلتهما "ماريا". حاول "نضال" التفلُّت من أعراف العشيرة التي تربّى في كنفها والتي تشرّبت عائلته أفكارها. فتوافق مع والده في مواقف عدّة أبرزها حبّه لفتاة من غير دينه، امتهانه الرسم ومن ثمّ زواجه براقصة باليه تشيكيليّة ومعارضته كلمة شيخ العشيرة.

لم تخلُ حياته من الخسارات، لا بل غصَّت بها. فحبُّه الأول اصطدم بصخرة الواقع، نُفيَ من وطنه، مُنعَ من رؤية أهله وصولاً الى الثمن الأكبر: حياته. إلا انّ تميُّزه الفنيّ والإنساني حصدا له الكثير من الجوائز في الفنّ بالإضافة الى مكافأة الحبّ الكبير الذي، وإن لم يَدُمْ طويلاً، كان مرسًى لمشاعره المُتدفّقة وميناءً يستوعب زخمه العاطفيّ وآماله الشاهقة.
لا يخفى كبرياؤه الذي انتصر على حبّه الأول "لين". فهو لم يسامحها على تراجعها وجُبنها واعتبر حبّها ليس كفاية. ولكن الكبرياء نفسه انهزم أمام حبّ "الينا" التي فاقَتْه إغداقًا حتى أغرقت عنفوانه في بحر عطاءاتها.


يعتبر "نضال" انّ "العبوديّة في الشرق هواية"، وهي تمتدُّ على كلّ مراحل الحياة وتفاصيلها. فيتملّك الجار وقت جاره، ويتملّك العاشق امرأته، ويتملّك الأهل أولادهم ويدّعي الجميع أنّ وطنهم يملكهم. الاَّ انّ "نضال" "لا يملك شيئًا ولا أحد يملكه". فهو ذهب بالحريّة الى حقيقتها الكُليّة رافضًا ايّ نوعٍ من أنواع العبوديّة. ويعزو "نضال" هذه الظاهرة في شرقنا الى التربية. فمعظم الأهل في الشرق يضحّون بطموحاتهم وأحلامهم ويُلغون أنفسهم من أجل أولادهم. لذلك يشعرون أنّ لهم الحقّ في تسيير أولادهم عندما يكبرون كما يريدون، وفي وضعهم على السكّة التي رسموها لهم، جاهلين أنّهم بفعلهم هذا حرموهم من حريّة الاختيار. أمّا "نضال" فقرّر ألاَّ يُضحّيَ بنفسه من أجل طفلته بل سيُعطيها كلّ ما يستطيع من دون إلغاء نفسه، وبهذا يكون قد أهداها حريّتها!
كما ينتقد الازدواجيّة التي يفرضها المجتمع الشرقي على الإنسان الساعي خلف التطوّر والانفتاح. الأمر الذي يجعل من البعض "انتقائيّ القيم"، فيختار ما يُناسبه من القيم الغربية ويُسقط ما لا يُناسبه. ويسمح لنفسه بعيش بعضها بينما يمنعون على غيرهم وخاصّةً المرأة. فـ"كمال"، صديق "نضال"، أحبَّ دكتورة انكليزية اسمها "كريستينا" وقد تعلّقت هي أيضًا به حدَّ القبول بالعيش معه في بغداد. إلاَّ انّه تراجع عن الزواج بها لأنّه لم يستطع تخطّي عدم كونه الرجل الأول في حياتها. وتناسى أنّه كسر قيمه الشرقيّة عندما أقام علاقة معها ولم يرفّ له جفنٌ، ولكنّه حاسبها لأنّها ليست "شريفة" وفق قيمٍ هي أصلاً ليست موجودة في تربيتها!
تأرجح قلب "نضال" بين بغداد وبراغ. غادر موطنه بعدما خسر حبّه الأول وانكبَّ على تحقيق أحلامه الفنيّة، وعاد إليه بتفوُّقٍ باهر وعشقٍ كبير. أراد بثَّ رياح الطيران بين فراخ بلاده إلاَّ انّ الأجنحة الجامحة لا تعيش في ظلمة الأنفس ولم تجدْ لها سماءً في بغداد، لا بل حتى القبور لا تَسَعْ هذا الكمّ من الحريّة!
كم هو مُشرِّفٌ بحث الرجولّة عن التحرُّر، ومُهينٌ إنْ بحثت الأنوثة عنه! ماذا لو كانت البطلة فتاة؟ فـ"لين"، حبيبة "نضال" الأولى، تراجعت عن الهرب معه خوفًا من خسارة أهلها الى الأبد. خانتها قوّتها، عوَّلت على مرور الوقت وتفهُّم حبيبها غير أنّها وجدت نفسها تتحمّل وحيدةً عواقبَ حبٍّ لم يزلْ، رغم مرور الوقت، نابضًا فيها... حبٌّ جعلها أسيرة كلمة "لو"! فالأنوثة التي تُربى خلف القضبان تكبر بأجنحة ضعيفة تُثقِلها مُورِّثات الطاعة والخنوع في جيناتها. فكيف لفراشةٍ أن تنفض عنها غبار حياتها ولا تموت؟! وكيف لها أن تتلمّسَ سبيلها الى الشمس إن اعتادت أضواء المصابيح؟!


تدور أحداث القصة وشخصيّاتها في فلك الفنّ الجميل. فـ"نضال" رسام، "لين" كاتبة، "الينا" راقصة باليه والله، مَن أبدع في تصوير الكلّ، هو "فنّان".
كما يسمو الحبّ في الرواية. فيُوصف بأنّه "شعلة إلهيّة" و"الخالد الأول بعد الله" و"أقوى قوّة في العالم". وتبرز فكرة "الاتّحاد بالحبّ" مثلما يسعى الصوفيّون الى الاتّحاد بالله. فـ"التخلّي عن الحبّ مذلّة" والدفاع عنه أبلغ أشكال الحريّة!
وقد يكون الغلاف مُغدِقًا في وصفه التوق الى الوصال. فهي اليدُ التي تمتدُّ الى معشوقها مهما باعدتهما الأقطاب، وهي اليدُ التي نُذِرَتْ لرفض الأغلال مهما أضناها الألم، وهي اليدُ التي تستكينُ أخيرًا مع استكانة القلب بين أحضان الذكرى والنهايات...
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net