Tahawolat
في زمن الأزمات السياسية الوجودية، تزداد الحاجة الى اعادة التأسيس الثقافي والفكري من اجل التغيير والبناء.
هنا نص بيان تأسيسي لحركة ثقافية، تنشره "تحولات"، وهو دعوة للحوار والعمل.
 
شهدت الساحة الثّقافيّة في القرن الماضي حراكاً نهضويّاً غنيّاً انعكس في التّيار الفكريّ - الفنّيّ الذي نشط على مستويات الشّعر وفنّ السّرد والموسيقى والدّراما وكذلك النّقد. إذ أنّ هذا التّيّار قدّم حركة مجلّة "شعر" التي غيّرت المفاهيم السّائدة حول الأدب، كما أعطى الاتجاه الذي يُعرَف بـ"الموسيقى اللّبنانيّة" التي مدّت الموسيقى المشّرقيّة، لاسيّما منها النّاطقة بالعربيّة، بمراحل من التّطوّر ومن رؤًى جديدة نحو الإبداع في الغناء والتّلحين، إلى جانب الحضور الغنيّ للفنّين المسرحيّ والتّشكيليّ النّوعيّ في بلادنا. إلاّ أنّ هذا الحراك لم يتواصل، ما أدّى إلى خلق فراغٍ حاضرٍ في بيئةٍ ملأى بالأزمات الكيانيّة الخطيرة التي تحيق بأمّتنا اليوم، إلاّ أنّ هذه الأزمات أخذت تتفاقم مع نهاية القرن الماضي، حتّى وصلت إلى أسفل الدّرك في العقد الأخير. فهجمة العولمة التي تبتلع الأمم وتمتصّ خيراتها وإمكاناتها باثّةً فيها مفاهيم وأفكاراً تضليليّة وانهزاميّة استطاعت أن تُغرق فئاتٍ واسعةً من شعبنا في عمليّة التّخلّي عن روحيّتنا وقيمنا وتراثنا، لا بل والتّسليم لأعدائنا بالكثير من حقوقنا. إضافةً إلى الغزو الهمجيّ للأفكار السّلفيّة التّكفيريّة التي عملت على تشويه ما في نفسيّتنا من حقٍّ وخيرٍ وجمال، والتي سعت إلى تشتيت مجتمعنا وتقسيمه أفقيّاً وعموديّاً. وذلك في ظلّ غيابٍ تامٍّ لمشروعٍ ثقافيٍّ نهضويٍّ يهدف إلى الوقوف سدّاً منيعاً في مواجهة تلك الهجمات.
  على أن هذا يترافق مع حضور إمكاناتٍ ثقافيّةٍ مشتّتة، تحتاج إلى أنّ تصبّ جهودها مجتمعةً في سبيل نهضةٍ ثقافيّةٍ عامّةٍ تستهدف قيامة المجتمع وإخراجه من وحول الانحطاط. لذلك، كان لا بدّ من حركةٍ تجمع هذه الإمكانات لتواجه تلك الحال، وتعمل على مجابهة هجمات الاستعمار الثّقافيّ وغزوات التّدمير القبليّة والأصوليّة، وبالتّالي تحرّك عجلة النّهضة.
  بنتيجة ذلك، كان ظهور حركة ثقافيّة جديدة عاملاً حيويّاً لرفد الحياة الثّقافيّة في مجتمعنا بإمكانات الوعي حول شكل الصّراع المفروض على أمّتنا، وإمكانات المواجهة الفاعلة لعناصر الانحطاط والضّياع السّائدين. وغايتها تتجلّى في بعث نهضة ثقافيّةٍ تغيّر الواقع الثّقافيّ في مجالاته كافّة، أكاديميّاً وإبداعيّاً، وتعيد إلى مجتمعنا حيويّته وريادته، وذلك من خلال تقديم نماذج إبداعيّة متنوّعة موسومة بطابعنا الخاصّ وبقيم الحقّ والخير والجمال النّابعة من نظرتنا الخاصّة إلى الحياة والكون والفنّ.
  على أنّ الحركة تجعل عمليّة بناء إنسان جديد محوراً لعملها ولتحقيق تلك الغاية، وهذا استناداً إلى رؤيةٍ فلسفيّةٍ جديدةٍ إلى الحياة والوجود؛ لأنّ الإنسان الجديد هو المتحرّر من قيود الطّائفيّة ومن قيود الموروثات البالية وبراثن السّلطة الأبويّة، والقادر على إطلاق التّفكير في ما يدور من حوله، أو في ما يُطرح من مسائل جدليّة.. إنّه الإنسان الجديد السّاعي إلى الخوض في التّجارب الإبداعيّة انطلاقاً من ثرواته القيميّة، وفي عمليّة نقد علميّةٍ مزدوجة الأبعاد يرتبط بعدها الأوّل بالنّظر إلى التّراث والعادات والتّقاليد السّائدة، بينما يبرز البعد الثّاني بنقد الوافد الغربيّ من الأفكار والمفاهيم، وهذا ما ينسحب على عمليّة إعادة النّظر بكتابة التّاريخ الثّقافيّ العامّ في بلادنا.
  ومفهوم الإنسان الجديد هذا يحمل في ما يحمل مساراً يهدف إلى قيام ثقافةٍ جديدةٍ جوهرها المواجهة الحاسمة لعمليّة الاستلاب الفكريّ المنطلق من مفهوم الفردانيّة التي تعزل الانسان عن المجتمع، ولحال التّشييء التي تعمل على تحويل الإنسان إلى مجرّد رقم، إضافةً إلى مجابهة مسألة التّجهيل والتزييف التي أدخلت في مجتمعنا مُثُلاً سطحيّةً وهروبيّةً في الآن عينه. وهي ثقافة تعمل على خلق مجتمعٍ واعٍ يؤمن بأنّ وجوده قائم على العزّ والكرامة، على الحريّة وإطلاق العنان للتّفكير الواعي، على الواجب والنّظام، وعلى تكوين قوّةٍ واثقةٍ بالآتي؛ إنّها ثقافة حياة للمجتمع والفرد في آن عمادها مبدأ العلميّة التي تضع حدّاً للمظاهر الأصوليّة بشكلٍ حاسم وتدفع إلى جعل حياة المجتمع منتجةً لحضارتها الخاصّة القائمة على العقل ولنهجها العلميّ القادر على تثبيت بصمته في الحضارة الإنسانيّة العامّة.
استناداً إلى ذلك كانت الأسس التي تقوم عليها الحركة تتمثّل في ما يلي:
‌أ.  الوعي بحقيقة الهويّة.
‌ب.  اليقين بأنّ العَلمنة العلميّة هي الإطار الحيويّ لتطوّر الفكر الإنسانيّ والمجتمع.
‌ج.  الإيمان بأنّ العقل هو الشّرع الأعلى في الحياة الفرديّة والمجتمعيّة.
‌د.  إدراك أنّ الإبداع هو التجسيد العمليّ للتقدّم الثّقافيّ -الحضاريّ.
‌ه.  الإيمان بأنّ الثّابتين الوحيدين هما الحركة والتّطوّر.
داخل إطار هذه الأسس العامّة ينتظم المشروع الذي تعمل الحركة على تحقيقه من أجل نهضةٍ ثقافيّةٍ فاعلةٍ ومتجدّدة. انطلاقاً من ذلك، كان لا بدّ من تحديد مضامين هذا المشروع في المجالات الفكريّة والثّقافيّة كافّة، ليكون المسير على خطىً واضحة وواثقة. ويمكن وصف هذه المضامين في ما يلي:
1-  التّراث: لا يشمل التّراث الانتاجات الحضاريّة والثّقافيّة لمرحلةٍ تاريخيّةٍ محدّدةٍ من تاريخ الأمّة، بل تشمل تراكم الإنتاج الفكريّ والحضاريّ للمراحل المتعاقبة منذ ما يسبق التّاريخ الجليّ، وهو ما يعدّ مخزوناً حيويّاً لحاضرنا وللآتي من الأيّام، من دون أن يكون هناك قداسة لأي تراث، مهما كان، فقيمة التراث تبرز بقدرما يكون في خدمة الإنسان الجديد والقيم الجديدة التي ترقّيه بعيداً عن أيّ خضوعٍ له. كما يجب الإشارة إلى أنّ التّراث يشمل ينابيع متنوّعة من الفنون الجميلة الكامنة في الأمّة كالأدب والموسيقى والرّسم والتّصوير والنّحت... من دون أن نغفل ما قدّمه التّاريخ الحضاريّ لبلادنا من آدابٍ وفنونٍ شعبيّةٍ يمكن أن تشكّل معيناً لما يلحق من إنتاجٍ إبداعيٍّ وفكريّ.
2-  الحداثة: بعد دخول هذا المفهوم من باب الأدب ترجمةً لمصطلح Modernism، أخذ المعنى يتوسّع ليشمل بعض جوانب مفهوم الحداثة العامّة Modernity بوصفه حاجةً ملحّةً للمجتمع بما يتضمّنه من "عقلنةٍ للحضارة وعلمنةٍ للمجتمع وحريّة في الأفكار"؛ إلاّ أنّ مسار المجتمع وجموده أدّيا إلى ترويض بعض مظاهرها. وهذا ما يشير إلى ضرورة جعل مسألة التّعريف بحقيقة تلك القيم والإقناع بها محور نضالٍ عمليٍّ وممنهج، على المستويين النّخبويّ أو الشّعبيّ، فضلاً عن توسيع دائرتها لتتضمّن جوانب الحياة العامّة للأمّة.
3-  الشّعر: بنتيجة التّطوّر الذي قامت به "مجلّة شعر" في مفهوم الشّعر وتقنيّاته، ظهرت تيارات شعريّة مجدّدة ومتنوّعة بعضها يصدر عن فهمٍ عميقٍ لذاك المفهوم، وبعضها الآخر يتخبّط داخل تشتّتٍ في المفاهيم؛ بينما استمرّ الصّراع في مواضع كثيرة مع المفهوم التّقليديّ للشعر. لذا ينبغي الخوض في تجربةٍ شعريّةٍ تقوم بإيضاح تلك المفاهيم وتوطيدها في أذهان المتلقّين، وتحافظ على منجزات الحداثة الشّعريّة، وتعمل على ترسيخ عمليّة استخدام الرّمز التّراثيّ والنّظر إليه، كما تعزّز المضامين الوجوديّة التي تلقي الضّوء على حقيقة الانسان ومصيره وتطوِّرها لتكون أقرب من القرّاء، إضافةً إلى إطلاق الحريّة في التّجريب على مستوى الأسلوب الشّعريّ ورفض القوالب الجاهزة، وهذا بهدف الإفساح في المجال أمام العالميّة.
4-  الرّواية والقصّة: عرف فنّ السّرد تطوّراً واسعاً في بلادنا، لا سيّما ابتداءً من النّصف الثّاني للقرن الماضي، إلاّ أنّ الكثير من النّتاجات السّرديّة قد وضعت عمليّة المحاكاة لتقنياتٍ عُرفت في الغرب هاجساً لها. وبناءً عليه، ينبغي الدّخول في توجّهٍ يسعى إلى خلق تيّارٍ فنّيٍّ يعمل على تطوير أساليب جديدة في القصّ والرّواية تنبع من طبيعة تراثنا وتحرّك آفاقاً جديدةً للتّخييل، إضافةً إلى كونه يحمل إطاراً يوازن بين الأحداث المتراكمة وبين أبعادها الرّمزيّة الفلسفيّة التي تعبّر عن روحيّة الأمّة وعن نظرتها نحو الوجود.
5-  الموسيقى والغناء: بعد التّطوّر الذي شهدته الموسيقى في بلادنا، أخذ هذا الفنّ يشهد تقهقراً في معظم إنتاجاته مع نهايات القرن الماضي وحتّى اليوم؛ بالرّغم من حضور عددٍ غير قليل من الأعمال التي تتمتّع بالرّقيّ الفنّيّ. لكنّ الملاحظة العامّة التي تسيطر على الأعمال الغنائيّة ترتبط بغياب التمايز الفنّي في الكثير من الأحيان، وببساطة الكلمة وسطحيّتها، وتكرار الجمل الموسيقيّة في معظم الأحيان، فضلاً عن اعتناق نماذج فنّية من خارج مجتمعنا تُعدّ أدنى نضجاً على المستوى الفنّيّ من تلك التي تكمن في تراثنا. لذا، لا بدّ من قيام تجربةٍ فنيّةٍ صادرةٍ عن رؤيةٍ عميقةٍ إلى الحياة والكون والفنّ، وتعيد العمل الغنائيّ إلى طبيعته الإبداعيّة بعيداً عن الأهداف الاستهلاكيّة. دون إغفال أنّ هذا الفنّ يشمل أبعاداً أخرى تتعلّق بالموسيقى الصّرف ومجالاتها المتنوّعة التي ما تزال محدودةً في بلادنا. علماً بأنّ أمّتنا حملت للبشريّة النّوتة الموسيقيّة الأولى، والمقطوعة الأولى.
6-  فنّ التّمثيل: ما لا شكّ فيه أنّ بلادنا شهدت تقدّماً ملحوظاً في مجال الإنتاجات الدّراميّة التّلفزيونيّة، إلى جانب محاولات واعية وواعدة في المستوى السينمائيّ، عدا ما تحقّق من أداءٍ متمكّنٍ وناضجٍ على الصّعيد المسرحيّ. وعند الأخذ في الحسبان خطورة هذا الفنّ من ناحية التّأثير في المتلقّي، نرى أنّه يجب أن يرتبط على نحوٍ أوثق بواقع مجتمعنا وإلقاء الضّوء على قيمنا العليا التي ينبغي أن تستمرّ عبر الأجيال. كذلك يجب أن يقوم القيّمون على هذا الفنّ باستنباط العناصر الفنّيّة الخاصّة التي تؤهّل إنتاجاته حتّى تكون بمستوى الأعمال الوافدة، سواء على صعيد حيويّة الأداء التّمثيليّ أو على صعيد الأدوات والتّقنيات المعتمَدة في إنجاحه، وتسخير ذلك في الهدف المتمثّل بالتّأثير الإيجابيّ في المتلقّين.
7-  الفنّ التّشكيليّ والنّحت: مع الغنى الذي اتّسمت به الأعمال الفنّيّة المرسومة أو المنحوتة، ومع التّقدّم الذي شهده على صعيد التّجريب المتنوّع للمدارس المرتبطة بهذا الفنّ، والتّطوّر في التّعامل الدّقيق مع المادّة الفنّيّة، إلاّ أنّه ما يزال يعاني من قلّة التّفاعل معه إلاّ بوصفه فنّاً تزيينيّاً، إلى جانب كون الأعمال الفنّية لا ترتبط في معظم الأحيان بسياقٍ رؤيويٍّ متّصلٍ ومتنامٍ، فضلاً عن تعميم إطار الوعي بتفاصيل هذا الفنّ، وجعله أكثر استيحاءً لتراث الأمّة ورموزها.
8-  الإعلام والتّطوّر التّكنولوجيّ: في ظلّ ما بلغه الاتّصال من تطوّر في جوانبه الإعلاميّة الواضحة: مكتوبةً ومسموعةً ومرئيّة، وفي جوانبه التّكنولوجيّة المتعلّقة بشبكة الانترنت ومواقع التّواصل؛ لم يكن هناك من تخطيطٍ أو منهجٍ يتعامل مع الجمهور بشكلٍ مدروسٍ منظّم. وبنتيجة ذلك ينبغي الخوض في منهجٍ محدّد المعالم وموزّعٍ بشكلٍ شبكيٍّ على المجالات المذكورة، يهدف إلى إعادة النّظر في المفاهيم والمصطلحات المتداولة وبيان جوانب ضعفها، لا سيّما في ما يتعلّق بصراعنا الفكريّ والوجوديّ. هذا دون إغفال ما لأساليب الجذب من أهميّةٍ في الوصول إلى أكبر شريحة ممكنة من الجمهور، وبالتّالي التّأثير فيه.
9-  النّقد: تنوّعت النّماذج والمناهج النّقديّة التي انتشرت في بلادنا، وجلّها مُستمَدّ من الثّقافة الغربيّة، إلى حدّ أنّها كانت معياراً من معايير التّطوّر الثّقافيّ في الكثير من الأحيان. على أنّ ذلك لا يشكّل إطاراً نهائيّاً يجب الرّكون له في التّعامل مع النّصوص، وهذا ما يحثّ على القيام بجهودٍ تهدف إلى إقامة منهج نقديٍّ خاصٍّ يشكّل مفتاحاً في التّعامل مع النّصوص الأدبيّة وغير الأدبيّة، دون أن يشكّل قالباً مسبقاً يهدف إلى فرض أفكارٍ جاهزةٍ على القرّاء، بل يعمل على استخراج علامات النّصّ الدّلاليّة وربطها بهواجس المتلقيّن ومطامحهم.
10-  على المستوى الأكاديميّ: في ظلّ الضّياع السّائد على صعيد الوسط الأكاديميّ، والتّخبّط الذي يعاني منه الطّلبة وحتّى الأكاديميّين، ينبغي العمل داخل هذا المستوى على تأسيس أجيال واعية بهموم أمّتها من خلال إيضاح المفاهيم المتبلبلة في المجالات كافّة، وإلقاء الضّوء على الدّور الذي يجب أن يحمله الفرد في موقعه، دون إغفال مسألة جلاء الهويّة والتّراث في أذهانهم، والتّوجيه نحو تبنّي فكرٍ خاصٍّ مرتبطٍ بشخصيّتنا الاجتماعيّة والحضاريّة، وبالتّالي إبعاد الفرد عن الارتهان للثّقافة الغربيّة الممنهجة ضدّ أمّتنا، وربطه بثقافةٍ خاصّة تؤمن بالعلم سبيلاً وحيداً للتقّدم، وبالعقل شرعاً وحيداً من أجل توجيه المنجز العلميّ.
في الخلاصة، الحركة الثّقافيّة الجديدة تشكّل مساراً أساسيّاً لتحريك حال الرّكود على المستوى الثّقافيّ والعلميّ، ودعوةً لتحقيق مجتمعٍ واعٍ بحقيقته من خلال نهضةٍ متواصلةٍ نحو الأرقى، نحو قيم الحرية والواجب والنّظام والقوّة.
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net