Tahawolat
كل أمة، كشخص معنوي عام، تكوّن خبرة نفسية ميثولوجية روحية تشكل لها نسقاً قيمياً من تفاعلها مع ذاتها ومكوناتها البشرية الإنسانية ومن استجابتها وكيفية هذه الاستجابة لتحديات حياتها وطريقة تفسيرها لتلك التحديات، فتشكل سلم قيمها بما يعني تصنيفها المحمود من السلوك فيكون المعروف بذاته بالنسبة لها، وتقصي السيئ والرذيل منه، فيكون المنكر بذاته، بالنسبة لها.
وشهير المبدأ المعروف في فلسفة الأخلاق وعلمها "فضائل البيرو رذائل البكاديلي"، أي ما تراه الأمة البريطانية رذيلة تراه الأمة البيروفية فضيلة، للدلالة على مبلغ التمايز بين قيم الأمم والشعوب، بسبب اختلاف التجارب الحية خلال تفاعلها التاريخي مع تحديات حياتها وجغرافيتها وديمغرافيتها.
خبرة أمتنا قامت على الجدل الصراعي، بين الوعي والصراع، لا شيء يأتي من لا شيء، وكل شيء في تحول دائم، والمتحول هو المتحقق، وهذا التحول عصبه الصراع. الصراع من اجل ما هو أفضل ليكون ما هو أفضل للأفضل بذاته.
فالإله بعل ذو المكانة البارزة في مجمع البانتيون الإلهي الكنعاني في مدينة أوغاريت (رأس شمرة)، الذي كانت أكثر الأضاحي والنذور مخصصة له، لأنه رب الخصب والمطر والتجدد والعطاء وحامي البلاد من الأخطار وهو الإله الذي يظهر في أماكن عديدة حملت اسمه وكان يرد اسمه في بداية نهاية كل طقوس الأضاحي والصلوات والتضرعات، كأهم إله لدى الكنعانيين. كانوا يعتبرونه الإله المحارب، لهذا صوّروه مسلحاً. وكان الفينيقيون يعتبرونه إله الشمس، وفي الأساطير الأوغاريتية هو الرزّاق واهب المطر وصوته الرعد واعد الخصب، وهو المخلص الذي يحكم من جبل صافون... ويرد اسمه بصيغ عدة. بعل في أساطير أوغاريت السورية، من أهم وظائفه الدفاع عن البشر والآلهة، فهو في الملحمة الموسومة باسمه، بطل الآلهة وقاتل "التنين" يم.
والعبرة نفسها في أسطورته باسم الإله عشتر، حيث شاخ كبير الآلهة إيل عند مشارفته على العجز قرر استخلاف أحد الآلهة، فكان يم إله البحر هو من يخلفه على العرش إلا أن الإله عشتر إله السقي والري اعترض على ذلك وظهر امتعاضه فتدخلت الإلهة شمس منذرة عشتر من نتائج اعتراضه على قرار أبو الآلهة، الذي لا مردّ لقضائه، فعشتر لا يستطيع أن يملك لأن ليس له زوجة ولا أولاد.
حذرت شمس الاله عشتر من تطاوله على قرار أبي السنين إيل بقولها: "إن ثور إيل أبيك يؤثر رفع الامير يم". فالثور رمز الاله يم يرمز في الحضارة الى الفحولة الذكرية والانسال وقيمة الحياة والاستمرارية وبسبب قوته تمّ اقترانه بكبير الآلهة لما له من قيمة لدى المجتمع الكنعاني. بعد صراع بعل مع يم يوافق ايل على تتويج بعل ويسمح له ببناء الهيكل.
لكن فرح الظافر بعل لم يكن نهائياً فكان امامه صراع أعظم، هو الصراع مع الإله موت، رمز الموت، وان الموت نهاية كل حي، مهما ظفر وارتفع وعلا وقوي وساد، ولو كان إله الخير والحرب كبعل. فتظهر اسطورة بعل سرمدية الصراع بين الخير والشر، بين الموت والحياة، الذي لا يزول،  فبعد الموت ينتصر الخير بالبعث انتصاراً روحياً بفضل صراع من إلهة حية هي رمز الخصب وأمومة المجتمع تحمل الراية بعد الإله الشهيد، كما ينتصر الحق في المجتمع الإنساني في نفوس المؤمنين به والمقبلين عليه ومريدينه أن يسود في حياتهم ومجتمعهم.
أسطورة بعل ليست خرافة، بل هي حقيقة اجتماعية تعبر عن حقيقة الصراع الاجتماعي للتطور والتسامي النفسي والروحي والفكري عبر الأجيال، نراها في فداء المسيح في مواجهته حراس الهياكل وأصنام المجتمع القديم وتكالبهم الطبقي على امتيازتهم الفئوية فحمل السوط ضدهم بغضب: بالسوط أطردكم من بيت أبي، لقد حوّلتموه مغارة لصوص. فحكموا عليهم بالصلب مؤثرين عليه المجرم القاتل ليعيث في المجتمع قتلاً جسدياً وروحياً فيرده غاباً وحشياً على ان يستنيروا. صارع المسيح آلام الصليب ومات جسده. لكنه قام في اليوم الثالث قيامة لا موت بعدها، قيامة بعل يستمر باستمرار الأجيال باستمرار خصوبة الحياة المولدة فينا كل حق وكل خير وكل جمال في العالم.
مَن يذكر الفقيه محمد بن داود، قاضي بغداد الذي حكم على الحسين بن منصور بن محمى، الملقب بالحلاج، بالموت شنقاً، فلقي الحلاج مصرعه مصلوباً بباب خراسان المطل على دجلة على يدي الوزير حامد ابن العباس، تنفيذاً لأمر الخليفة المقتدر في القرن الرابع الهجري، شرقي بغداد، لأن فلسفة الحلاج التي عبّر عنها بالممارسة لم ترضه فقد رآها الفقيه المتحرج متعارضة مع رؤيته لتعاليم الإسلام؟ وبقي الحلاج رمزاً لقيمة الفكرة وقيمة كرامة التفكير وحرية التعبير ولم يتنازل عما قاله ورفض اعتباره زندقة، ولم يكذب ولم يتوسل أحداً، ولم يتخلف عن جلسة الحكم، ولم يعتذر من احد، لأنه حسب إرادته هو، لم يخطئ عندما فكر، بل يخطئ من لا يفكر!!
وفي فداء أنطون سعاده، في 8 تموز 1949، عندما اوثق إلى عمود الإعدام كان قمة البطولة والشجاعة والرجولة في أمتنا، فيه انتصار الحياة والفكر والمبدأ على الموت والحقد والذل والانحطاط. هو قيامة وبعث لأمة بكاملها لا قدر لها سوى الانتصار. مَن يذكر قتلته، من رؤساء ووزراء وقضاة وضباط وبطاركة ومطارنة؟ وللعلم قبل تسليم السلطة السورية سعاده للأمن العام اللبناني زار دمشق سراً الوزير الصهيوني موشي شاريت للتشديد على تنفيذ مؤامرة إعدام سعاده.
صارع سعاده، خلال حياته طوال 45 سنة، صراعَ أبطالٍ، أعداءَ الحياة في الداخل وأعداء وجودنا في الخارج. مات جسداً لكنه انتصر في نفوس شعبه وتأخرت النهضة لكنها آتية لا محالة كخلاص وحيد من دواعش الطوائف والدول والحروب السرية والنارية والإعلامية والسياسية والفكرية والاقتصادية علينا.
وكل حق منتصر لا محالة، بعد انتصاره في نفوس المؤمنين به انتصاراً نهائياً لا رجعة عنه.  

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net