Tahawolat
(ردٌّ على مداخلة حول كتاب "المسيح المعلم الثائر. هكذا تكلم يسوع"، تأليف د.عاطف خليل الحكيم).

  وهل يتساوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ وهل يتساوى الذين يعملون والذين لا يعملون؟ وهل يتساوى من علم شيئاً وغابت عنه أشياء مع العالم المتبحّر في لجج العلوم وأعماق الفكر؟ هل يتساوى المتطفل، الطارئ على الفكر والفلسفة مع صاحب أو محب أو أخِ الفلسفة وهذا تعريفها؟ وبمعنى أدق، هل يتساوى من لا يفقه معنى كلمة علم وتعاليم وعلوم ومعلّم وعلَّم مع الذي فنّد المعاني والمعاجم والقواميس والمنجد و"لسان العرب" والموسوعات بمعظمها حتى لا نقول، مبالغةً، كلها، بالإضافة الى قواميس الفيلولوجيا والإيتيمولوجيا بحثاً وتقميشاً في المفردات ومعانيها حتى وضع هو نفسه معجماً لغوياً فريداً، عنيت عملي الأونسيكلوبدي الطابع "آلهة وأماكن. المعجم الجغرافي الميثولوجي"، في عشرة أجزاء؟
وهل له اعتبار من لا يفقه الأبعاد الفكرية لكلمات مثل علم وفكر وفلسفة وعقل ومنطق  ولا يعي تعريفها الصحيح  حتى لا زال يربطها بالمعنى المبتزل الذي انسحب عليها من تعريفات مغلوطة أدرجتها المدارس اللاهوتية القرطوسية المتحجِّرة، معتبرة العلوم زندقة والفلسفة إلحاداً وكفراً، نافية عنها كونها أمّاً للعلوم وقاعدة للإيمان الصحيح المؤيّد بصحة العقل والمنطق، فنصبت المشانق والمصاقل لكل من يتكلم باسم العلم، متهمة العقل أنه عدو الدين؟ وهل يتساوى من اتخذ من العبودية ممشاً له وناموساً ودستوراً وخضع لكل ما أملي عليه وما تلقنه من أنه تعاليم مقدسة لا تمس، وعلى المرء أن لا يتزحزح أدنى شعرة عن ما قيل له عنها وأن يسلِّم لمشيئتها تسليماً أعمى، مع الذي اتخذ من الحرية المؤيّدة بالحقيقة العلمية البحتة قانوناً ومنهجاً ونهجاً وسلوكاً؟
   وفي كل الأحوال، وفي ردّنا من خلال هذه التساؤلات الاستهجانية كونه ما زال مثل هؤلاء الأشخاص المتزمّتين موجودين، لا يغيب عن بالنا أن نضع نصب أعيننا في نقدهم ونقضهم قانون النسبية، فهو ميزان العدل وهو الذي يفصل بين الطرفين ويعدل بين الفريق الأول والفريق الثاني، أي بين الذي له أجر واحد والذي له أجران، فمن اجتهد وأصاب فله أجران ومن اجتهد وأخطأ فله أجر، والحديث الشريف هذا ينصف الفريقين معاً وهو يمثل قانون النسبية بامتياز، ونحن لسنا ممن يقيس بمقياسين ولا نكيل بمكيالين، بل ننطلق من أسس العلم ومبادئه وقانون المنطق العلمي، لذا فإن أجر الذي أخطأ، برأينا، أنه أعطى للمفكر فرصة للاجتهاد. وهذا قول الإمام عليّ بن أبي طالب (صلى الله عليه وسلم) يؤكد ذلك: "ما حاججني عالم إلا وغلبته وما حاججني جاهل إلا وغلبني"، والأحرى غلّبني أي كلّفني عناء ومشقة البحث.
ولكن هل يدخل التلميذ قاعة الامتحان دون تحضير ودرس؟ هكذا  المتحجّرون الذي عصبوا أعينهم عن الأسطر وما وراءها، فراحوا يعتلون المنبر ويتصدّرون المحافل ويجالسون العلماء دون قراءة  معمّقة، أقله للكتاب الذين خوِّلوا دراسته للمناقشة.
  سيدة الندوة وأخطاؤها
     ابتدأت مداخلتها وفي صوتها نبرة التحدي والتأنيب ومهّدت لطرحها بأن استعملت كلمة "لاهوت"، معيّبة على المؤلف عاطف خليل الحكيم الذي أوكلت مهمة نقد كتابه "المسيح المعلم الثائر. هكذا تكلم يسوع"، أنه يتعرض لشأن لا دخل له فيه: أي كيف لعلماني أن يتطرّق للأمور اللاهوتية الإلهية؟ متناسية أنه مطلوب منها النقد وليس الانتقاد، ولو أنها اكتفت بالنقض مثلاً، لكانت قالت كلمتها ومشت... غير أنها أبت إلا أن تظهر ضعفها العلمي وحسّها اللامجرد وكأنها أوكلت مهمة الدفاع عند اللاهوت واللاهوتيين وهي غير جديرة بذلك، فإذا كان الدكتور عاطف خليل الحكيم المتبحّر في علم الأديان والفلسفة الدينية المقارنة والفكر الديني وله أكثر من عشرين عمل في هذا المجال، وهو الذي خاض غمار المناقشات والجدل الدقيق مع كبار العلماء اللاهوتيين واستحوذ على إعجابهم حتى أنهم نصحوه بالانضمام الى محافلهم العلمية ومجامعهم الفقهية، لا يحق له، برأيها، أن يتطرّق للاهوت ويطرق أبوابه، فهل اكتسبت هي، تلك الأديبة ويقال عنها شاعرة هذا الحق، وممن؟ ومتى؟ وكيف؟ وما هي إنجزاتها الدراسية في هذا المجال؟ فليجبنا أحد!
كل فكر متحجّر يصبح ديناً
   والسؤال: من له الحق في التكلم عن اللاهوت؟ أنا عن نفسي، غير المتخصص بالفكر الديني وفلسفة الأديان، لا أخوّل أحداً آخراً! وما معنى لاهوت؟ هل هو علم لا يفقهه إلا العارفون به والراسخون بالعلم؟ وهو كذلك ولندعهم لعلمهم، لأن لا شأن لنا به هنا، فهو أصلاً لا يدخل في سياق بحث الكاتب الحكيم بتاتاً، وإن كان موضوع كتابه عن السيد المسيح، إلا أنه بعيد كل البعد عن ما ألفه الجميع باعتبارتهم، إذ لم يرَ في المسيح إلا رجل الثورة والوطن والأمة، فهو ثائر لبلاده سورية، وهذا ما غاب عن فهم المنتقِضة، سيدة المنبر تلك، والتي من عيوبها أيضاً أنها تعرّضت خطأ لجغرافيّة الهلال الخصيب وهي سورية، موطن يسوع، باعتراف الإنجيل نفسه. وكأنها لم تكتف بخطأ أول وثانٍ، فأردفته بثالث، إذ رمت المؤلفَ بالاتهام بالماركسية وبأن "الدين أفيون الشعوب"، وشعار كارل ماركس هذا الذي ردد ملايين المرات، حفظته شاعرتنا الوجدانية العتيدة وأرادت توظيفه لتظهر بمظهر المثقفة! ولكن السؤال: هل فقهتِ أيتها المحلِّلة ما معنى الماركسية وهل توغلّتِ بكل أبعادها  الفكرية، أم حفظتها كمصطلح وبوجهها السطحي فقط؟  في الواقع، إن تعريف تيار فكري أو سياسي ما لا يتمّ ببساطة وبمعزل عن كل الفكر والتيارات الأخرى، لذا لن نغوص في هذه المادة الشائكة لأنه، ومرة ثانية، لا دخل لكتاب المسيح، موضوع البحث به، فلا حديث في كتاب "المسيح المعلم الثائر. هكذا تكلم يسوع" عن الدين  أبداً، وبمجرد قراءة المقدمة، لو كلفت صاحبة الشعر المنقول نفسها عناء قراءتها بتمعن، لتبيّن لها أن المؤلِّف نفى بالمطلق أنه يتطرّق للدين أو للعقيدة أو للدوغمة، ومن هنا جاء تأييد الكنيسة له وإعجابها بكتابه والتنويه به في رسائل أدرج المؤلِّف بعضها في كتابه أحتراماً للكنيسة المتكلمة باسم المسيح. عجباً، الكنيسة بشخص رؤسائها تحبِّذ والناس الإعتياديون يرفضون. لقد أصبح المملوك أكثر ملكية من الملك نفسه! والدين يرفضه الحكيم بمعناه المتحجّر، أي بمعناه السلبي، فهو، وعلى حدّ تعبيره، كان فكراً بُلي وتحجّر وصار يعبد ويقدس لدرجة أنه أصبح مضرّاً أكثر منه نافعاً، ومن هنا تفسّر مقولة ماركس إن "الدين أفيون الشعوب"، فهو يؤكد أن التحجّر في العقيدة مسمٌّ ومضرٌّ، بينما الاجتهاد والتحليل المنطقي والعقلي في الأديان المنفتحة، وفي طليعتها المسيحية والإسلام، لا يضرّ بالعقيدة بل ينفعها أيما نفع. ولكن الأحكام المسبقة وقلة الدراية العلمية وعدم التمرس العقلي والرفض الخروجَ من التقوقع ومن العاطفة الى العقل، هو سيد الأحكام عند بعض المتطفلين ممن أعطي الفرصة للتكلم فوق المنابر، فيروح يرمي بالإتهامات العشوائية، مهملاً أن  العلوم والمبادئ الفكرية تتطور وتتلاقى وإن تعارضت، فهي بنّاءة في أكثر الأحيان وليست مهدمة. ونحن لسنا هنا بمعرض الدفاع عن ماركس أو غيره، ولكن، من باب التأويل والانفتاح، يهمّنا أن نفسِّر مقولته الشهيرة "الدين أفيون الشعوب" بأنها تصبح صحيحة مئة في المئة إذا ما تحجّر الدين وتزمّت أتباعه وأخذوا تعاليمه بالحرف وليس بالمعنى، فراحوا يتعبّدون للتعاليم ونسوا أنها  فكر وعلم وفلسفة، سالكين ممشى الفرسيّين الذين أنّبهم المسيح بقوله: "السبت من أجل الإنسان وليس الإنسان من أجل السبت" أي، وكما جاء تفسيره في كتاب عاطف الحكيم، أن القانون موضوع في خدمة الناس وليس العكس، وإذا لم يفهم المعنى الحقيقي لهذه المقولة،  فهذه مصيبة كبرى! وعلى سبيل المثال في التفسير الخاطئ لبعض الأقوال، نذكر قول نيتشه: "الله مات" وهو من أعظم ما قاله وعلى عكس ما يُفهم عادة من أنه أراد أن ينفي وجود الله، بل هو يريد القول إن الله مات في قلب الإنسان وهو يشعر بمرارة الموت هذه ويتألم. ألم يقتل الناس المسيح؟ ألا يقتلوه اليوم بالفعل وهم من دعاة الدفاع عن التعاليم وكأنها موحية ولا دخل للمعلم يسوع فيها، فيغدو وكأنه مجرد واسطة لنقلها؟ لماذا تنفون عن يسوع معلم الإنسانية علومه وفلسفته؟ وبماذا إذن تختلفون عن المتزمّت والمتطرّف ذاك الذي يدّعي أن لا مجال لتأويل الآيات كونها تعاليم منزلة؟ وكيف لا يؤول كلام المسيح والمسيح نفسه صرّح أنه يتكلم بأمثال؟ ألا يستحق المثل أن يفسّر؟ ومن قال إن المؤلف الحكيم يصرّ أن رأيه هو الصواب أو أنه مصمم على إقناع الناس به وفرضه فرضاً عليهم، فحتى الأستاذ يترك الحق كل الحق لطلابه أن يتبنّوا أو يرفضوا آراءه، فاسحاً  المجال لهم لطرق باب الإجتهاد!
أليست التعاليم فكراً وفلسفة أي سلوكاً؟
   والسؤال: لو أن الكاتب الحكيم عنّون كتابه  هكذا: "المسيح المعلم الثائر. هكذا كلّمني يسوع"، بدلاً من "هكذا تكلم يسوع"، هل كانت اتضحت الصورة أكثر للقارئين التقليديين المكبلين والمسلّمين والمؤمنين بالغيب؟ يا أصحابي، من حق كل مفكر متقدم في العلوم، أن يرى في تعاليم المسيح، أي في فلسفة المسيح، الوجهة التي يرتأيها شرط أن لا تمس بشخص المسيح سلباً، لأن ما من أحد يعلو ويسمو فوق فلسفة هذا المعلّم، وهذا ما قرأته سيدة المنبر خطأ في مقدمتي للكتاب والتي عنونتها "ضد البدع والهرطقات"، حيث أنتقدُ من يدّعي أنه مسيحي لأنه نشأ بالصدفة في عائلة مسيحية، فالمسيحي الحق هو سلوك وأعمال وليس مجرد أقوال، وعلى المسيحي أن ينهج نهج سيده بالفعل وليس بالإدعاء. وعاطف خليل الحكيم بيّن عند المسيح، ومن خلال أقواله التي جاءت في إنجيل متى تحديداً، نقطة طالما أهملت ألا وهي دور يسوع الريادي كقائد للأمة وهو الرافض للإحتلال والإستعمار والثائر على الخونة في الداخل وكذلك على الأعداء في الخارج، فأين المشكلة في ذلك؟ أهل يستهوي المتحجّرين أن يتقاعس المسيح عن دوره الوطني وهو الذي أرسل من أجل خلاص الإنسان أي تحريره؟ وهل من خلاص في ظل الذلّ والعار؟ هو يسوع سيد الحرية والأحرار، ومن ينفي عنه ذلك ويكتفي بعرض الصليب على صدره وترداد التعاليم غيباً كببغاء ويذهب بانتظام لتأدية الطقوس والمراسم، هو الكافر والملحد بعينه، فالكامل أي المسيح لا يُنتقص من أعماله وإنجازاته شيء، والمتعصب، المتعامي، بنفيه الدور القومي الوطني للمخلِّص، إنما ينتقص من كرامته، لا بل يهينه كزنديق تماماً.
يهود الداخل يتكاثرون والردّ عليهم بمنطق العلم
   وهذا الآخر، المراقب والرائد في مجال التجسس والذي أتى الى الندوة متحمساً فقط ليقول إن كل ما قيل في المسيح إنما هو كذب وتدجيل وعارٍ عن الصحة ومقحم ومنسوب الى شخصية متقاعسة، منكسرة، منهزمة، متسائلاً: أين ثار المسيح وعلى من وهو الخانع؟ وأين قاوم وهو المستسلم أبداً، بحيث قال: "من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر"؟ فهل هذه ثورة؟ وردّاً على سؤالي لهذا المستنكر والمستهجن بأن يلصق عاطف الحكيم بيسوع صفة الثائر: كيف تحكم وأنت لم تقرأ الكتاب بعد؟ أجاب أن الإنجيل نفسه لا يذكر شيئاً عن ثورة المسيح وأن ما جاء فيه إنما هو إقحامات وأكاذيب. فيا صاحبي، لماذا تعترف بأشياء وتغيّب أشياء من هذا الإنجيل؟ لعلّك يهودي آخر يسرح ويمرح في بلادنا على كيفه ويسوّق ما يسوّقه! فلك ولهذا وذاك ولهذه وتلك نقول: إنما استنكاركم للتعرض لصورة المسيح التي ألفتموها من أنه الحمل الوضيع، البائس، المسكين والذي لا يمكن أن يكون إلا ضحية معدة للذبح، هو طبيعي وذلك لجهلكم بالعلم وماهية العلم. فالعلم يضع كل شيء تحت مجهر المنطق والمعادلة الرياضية ويخرج باستنتاج واضح وصريح: لدينا قول أو تعليم أو معطى معين يحضنه كتاب ما بين دفتيه، أكان إنجيلاً أم قرآناً أو أي وثيقة أخرى أتتنا على الحال الذي وصلت إلينا فيه من التاريخ، يأخذها الباحث كما هي ويقوم بتحليلها على ضوء ما تضمنته من أفكار ومضمون وألفاظ ورموز وأسلوب وما الى ذلك من مقاييس... ثم يخرج الباحث برأي مجرد عن كل الاعتبارات أكانت لاهوتية، إيمانية أو مذهبية أو عقائدية أو عرقية أو مناطقية أو قومية أو نفسية... ثم يدلي برأيه العلمي والمنطقي بها.
   وقد رأى المفكر عاطف الحكيم أن المسيح هو أعظم رجل وطني في التاريخ وهو أعظم ثائر في كل تاريخ، لا بل هو فيلسوف الثورة البنّاءة الهادفة على الإطلاق، وهذا ما بيّنه كلام المسيح نفسه للذي يعرف القراءة والذي بدوره وضعها بين أيدي المخلصين. فرسالة المسيح لها أهداف سامية وهي الحرية أولاً وأخيراً. فما ضرّكم أنتم؟ تحلّوا بشيء من العلمية من فضلكم خصوصاً اتجاه من يضيف على القيم قيماً أخرى وانبذوا التطرّف من نفوسكم والتسويق للمزورين والمتهودين، وحبذا لو اعترضتم هؤلاء وهكذا تهتدون. ونختم بالردّ إن المسيح ليس بحاجة لبطاقة دعوة ولا لمدعوين، فما أكثر المدعوين وما أقل المختارين!

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net