Tahawolat
قد لا تعرف الأجيال الأحدث قصص وحكايا الارتقاءات العلمية، فقد وصلت إليها المنجزات العلمية بالإسالة العولمية، وربما لم تتعرف هذه الأجيال على الأسئلة الوجودية المستدامة، بسبب انشغالها بالمستجدات الباهرة للعلوم والتكنولوجيات، ولربما شكّلت هذه المسألة الركن الأساسي من الفصام المفضي إلى الانسداد بمعنييه الاجتماعي التفاعلي، والإبداعي الارتقائي، ومن أهمّ هذه الأسئلة سؤال "نحن والتراث"، وهو سؤال مترامٍ يولّد أسئلة تؤدي إلى مآلات مفاجئة وصادمة ناتجة عن الاطمئنان المعرفي الموهوم الذي ينتج عن المزاوجة غير التفاعلية/الجدلية، بين طوفان المعلومات المستجدة وبين واقعنا الثقافي المستلف والذي يؤدي الى عقم إنتاجي يئد الاستمرارية التي تحتاج إلى اكتشاف المعنى الحياتي للحقيقة العلمية في مفهومها الاجتماعي المتبدل، كي يتم استعمالها في التفاعل المعرفي، ولعلّ مثال مسألتي (التحديث والتغريب) التي نواجهها منذ عصر النهضة، والخلط المتوازي بينهما يقدمان تصوّراً عملياً عن الذهنية التي تحاول التعامل مع المنتجات المعرفية بوصفها مجرّد علم وخبر قابلين للقبول والرفض والتقسيم والمساومة، ولربما كان ما قدمه الرحالة المستشرقون عن منطقتنا (60000 كتاب ودراسة بين 1850 و1950) يقدّم صورة واضحة عن الموقف الحقيقي من المعلومات، بينما تمّ تثريب الرحالة المستشرقين بسبب نواياهم الاستعمارية "الحقيرة" مع أن استثمارهم معلوماتهم بتحويلها إلى معرفة استعمارية كان ناجحاً للغاية، بمعنى أن المعلومات كانت صحيحة، وبقي الموقف (موقفنا) منها الذي يعتمد على الاطمئنان المعرفي التاريخاني/الأخلاقي، هو الموقف السائد عرفاً، وبقيت الأنثروبولوجيا (مثالاً) وغيرها من المعارف خارج النقاش لدرجة القبول بالهزائم واقعياً وعملياً ورفضها لأنها لا تنتمي إلى المجال الثقافي الذي نعرف، لذلك لا نتوقع من العلوم أن تحدث فارقاً يخصنا في إعفاء ذاتي لإقامة تلك العلاقة الجدلية/التفاعلية مع العلوم ومرفقاتها، ربما كان هذا المثال المقارن أقرب إلى الرواية العمومية لرصد مفاعيل الارتقاءات المعلوماتية والمعرفية والاتعاظ بها، ولكننا وكي تصبح الصورة أقرب، يمكننا رصد أمثلة أخرى فأي مرض في القلب حتى سبعينيات القرن المنصرم كان يعتبر قاتلاً، وكانت الأبحاث التي تنشد تطوير طرائق معالجته كالحلم بالنسبة لنا كعالم ثالثيين، ومع نجاح التجارب العلمية تلقينا نتائجها من دون تثريب أخلاقي أو إدانة علمية، عند هذا الحدّ بدت منتجات العلوم وكذلك المعارف كحقائق ارتقائية لا يمكن دحضها ومقبولة على جميع المستويات، لا بل كانت هناك محاولات جاهدة لإثبات صحّتها وجودتها بإدعاء وجودها في التراث قبل اكتشافها، في محاولة لزيادة تثبيت الاطمئنان المعرفي والثقة به ، ولكن وفي المقابل الموازي والمستمرّ كان موقفنا تشكيكياً (ليس بالمعنى الديكارتي على أية حال) ورافضاً للمنتجات العلمية التي نحسّ أنها تؤثر في اطمئناننا المعرفي، وهنا يمكننا ذكر (سايكس بيكو) كمثال حيث تمّ وإلى غير رجعة عدم فهمه لأنه ناتج عن حرتقات استشراقية أو عواطف صليبية يمكنها أن تنسجم مع اطمئناننا المعرفي.
والآن يواجه أحد فروع سؤال (نحن والتراث) المعضلة نفسها، تنتج ردود الفعل المتداولة نفسها، فارتقاء تقنيات الإحصاء والمقارنة والأرشفة واستعادة المعلومات، أوصل الباحثين والعلماء إلى تقنية جديدة تتعلق بما يمكن تسميته "البصمة الأسلوبية"، أي اكتشاف شخصية صاحب النص من أسلوبه، أو على الأقل نفي أو تأكيد نسبة النص لهذا أو ذاك، أو اكتشاف عدد مؤلفي النص أو النصوص المنسوبة إلى شخص واحد، ورصد الاختلافات ما بينها، ومع أن قصة أو حكاية هذا العلم تشبه إلى حد التطابق حكايات العلوم الأخرى، وعلى الرغم من أن هذه التقنية الجديدة لا تتعدى نسبة نجاحاتها الـ80% (حمزة حرقوص، جريدة الأخبار اللبنانية 17/3/2014)، إلا أنها أصبحت معتمدة في المحاكم البريطانية والأميركية، أي أنها اتخذت لها مرتسماً حقوقياً في الواقع، بما يعني أنها تشابكت مع البنية الثقافية الاجتماعية كحقيقة معرفية تجعل من الاطمئنان المعرفي خطراً على الحياة المجتمعية، إذ يكفي حاليا،ً وحسب باحثي (أي بي أم)، 6500 كلمة لتتشكل وتظهر وتثبت هذه البصمة الأسلوبية، ونسبها إلى صاحبها الحقيقي المغفَل أو نفيها عن صاحبها المعلن مسألة متداولة ومقبولة قانونياً، ونحن نعلم تماماً أنّ ما هذا إلا بدايةً واعدةً، وعلينا أن نأخذ موقفاً معرفياً منها، لأنها سوف تصل إلينا شئنا أم أبينا كمنجزات لا تقبل الرفض، إذ من يرفض أن تركّب له شبكة في شرايينه إذا أصابها تضيّق؟
يشكّل النص المنسوب والمنقول كتابة أو مشافهة العمود الفقري لثقافة الاطمئنان المعرفي والثقافات المتولّدة عنها، وتشكّل نسبة النص إلى شخص معين ضمانة وثقة عمياء تفضي (عبر التقليد والتأسّي) إلى مرتسم حقوقي يضاهي المرتسم الحقوقي المحدث بسبب البصمة الأسلوبية التي اعتمدته المحاكم الأميركية والبريطانية، ولكن بعد اكتشاف هذه التقنية من يستطيع الركون إلى أي نص تاريخي منقول ويضع الثقة (العمياء أو من الأنواع الأخرى) به والامتثال له أوالتأسي به؟ .. إنه سؤال محوري من الأسئلة المتولدة من (نحن والتراث)؟
كيف يتسنّى لنا أن ننسب بشكل مؤكد نصاً مسرحياً إلى لوقيانوس السميساطي، أو فلسفياً إلى زينون الرواقي، أو نصاً نثرياً لابن المقفع، أو شعرياً للمتنبي، طالما لم تكن وقتئذ تلك التقنيات المعترف بها علمياً على الأقل في التصنيف والأرشفة؟ وماذا لو تسنّى لنا ذلك الآن وفي هذه الكرة الأرضية بالذات بما لا يقبل الرفض معرفياً؟
إنه سؤال جوهري، ولكنه ملحّ ويحتاج إلى قرار سريع يواكب سرعة الإنجاز في التحليل الإلكتروني للنصوص من هذه الناحية، ويواكب أيضاً كل التقنيات المحدثة المرافقة لتقنية كشف البصمة الأسلوبية، هذا السؤال لا يحتمل التأجيل على صعيد الثقافة الجماهيرية، وإلا عدنا إلى مربعنا الأول في منظومة النيات والحقائق، مستشرقين/مستكشفين؟ أو تحديث/تغريب؟ إيمان/علم؟ وإرباكاتها المفضية إلى الصدمة من واقع جديد ليس لنا فيه خبرة كالعادة، وعلينا اكتشاف أسباب ما حصل.
اليوم لا مندوحة من وضع تراثنا بأكمله أمام عدسة العلم المكبرة والباردة حتى لا نقع في المحظور الإستشراقي (كمثال وعلى الأقل)، ولكي نغادر ذاك الاطمئنان المعرفي المرهق والمهترئ الذي لما يزل يستمهلنا لنأخذ الصفعة رقم مليون "على حين غرة"، ولكن من يجرؤ؟ ونحن أمام بنية ثقافية صماء تملأ انفراغها بالعنف، ومتلقٍّ منقاد، بسعادة وفرح أو بالقمع والاستبداد، من عقول باتت مغلقة على اكتمال معرفي مأثور لا يعترف إلا بما وصل إليه هو من معتقدات أو ما وصل إلى يده من تكنولوجيات مشخصة وملموسة؟ ولكن الأسئلة كطلقات البندقية، تطلق لمرة واحدة وأخيرة حتى ولو كانت على سبيل التحذير.
واليوم هل تشكّل تكنولوجيا البصمة الأسلوبية خطراً على تراثنا وتاريخنا المجيد (وجودنا برمته)؟ هنا لا يمكننا الارتكان إلى مفهوم الخطر المتداول وتعريفه الشفاهي بل علينا النظر إليه من بوابة الضرورة الوجودية تماماً كالنظر الى خطورة أيّة عملية جراحية مهما كانت بسيطة أو معقدة، فماذا لو اكتشفنا (وهذا مثال متطرف وغير واقعي) أن تراثنا برمته ليس منسوباً إلى أشخاصه الحقيقيين؟ عندها لن نختفي عن وجه الأرض وعلينا مواجهة الأمر بحقيقته وأدواته العلمية، إذاً ماذا نفعل؟ أننتحر؟ إذا كان اكتمالنا المعرفي المطمئن مخدوشاً أو غير دقيق أو غير صحيح! سؤال برسم الواقع لا يسعنا إلا عيشه، فالوجود واستمراره وحسب تجارب القرون القريبة الماضية ما هو إلا سباق بين العلم والكوارث.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net