Tahawolat
يُعقد "مؤتمر الأمم المتحدة للتنمية المستدامة" (ريو+20) في 20-22 حزيران 2012، بعد عشرين عاماً على انعقاد "مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية" (قمة الارض) في ريو دي جانيرو عام 1992، الذي اعتُبِر حدثاً غير مسبوق من حيث الحجم وشمولية المسائل المطروحة، والذي أنتج "جدول أعمال القرن 21" و"الأهداف التنموية الألفية" التي تضع أهدافاً شاملة وطموحة لتحقيق التنمية المستدامة ومعالجة المسائل البيئية والإنمائية والإجتماعية بطريقة متكاملة.
   في الإجتماع التحضيري الأول لقمة ريو+20، الذي انعقد في نيويورك في أيار من العام الماضي، عبّرت "مجموعة الدول الـ 77" (G77) والصين والعديد من الدول النامية عن خيبتها من الفشل في تحقيق "الأهداف التنموية الألفية" وسائر الإلتزامات التي أُعلِنت في قمة ريو 1992، وطالبت المجموعة بأن تكون أولوية قمة ريو+20 تحديد أسباب الفشل هذا، وتحديد العقبات، ليصار إلى إعلان إلتزاماتٍ جديدة على ضوء البحث. بينما نجد غالبية الدول الصناعية، كما "منظمات المجتمع المدني"، تعبّر هي بدورها عن خيبة من تحقيق أهداف الألفية، وتعزو أسباب القصور أو الفشل إلى "ضعف الإلتزام" من طرف الحكومات في الدول النامية، وإلى "الأزمات" الإقتصادية التي أعاقت مسار تحقيق الأهداف المذكورة.
   الظاهرة الأبرز في النقاشات هذه هي الإنقسام الحاد في الرأي بين دول الشمال ودول الجنوب حول المسائل المطروحة، وخصوصاً مفهوم "الإقتصاد الأخضر" الجديد، الذي أيده الإتحاد الأوروبي والدول الصناعية عامةً، ورأت فيه الدول النامية هروباً إلى الأمام وتمويهاً لمشاريع الدول الصناعية لفرض حمائية تحت شعار "حواجز خضراء" أمام استيراد منتجات الدول النامية واختراق أكبر لأسواقها تحت ستار الإعفاءات الجمركية على "المنتجات الخضراء"، وكذلك تشريع دعمٍ حكوميٍ لـ"صناعاتٍ خضراء"، في حين تطالب الدول الصناعية الدول النامية بإلغاء دعم الإنتاج. أما المحور الثاني الأبرز في النقاشات، فكان "الإطار المؤسسي للتنمية المستدامة" الذي يتضمن سيلاً من الكلام العام المكرر والمستهلك والمتناقض في الكثير من الأحيان. على سبيل المثال، إلى جانب الكلام العام عن الأهداف الإجتماعية، نجد الدعاية النيوليبرالية لـ"الإصلاح الهيكلي" و"تحرير الأسواق"، المناقضة تماماً للأهداف الإجتماعية.
   واللافت أن الطروحات الجديدة، مثل "الإقتصاد الأخضر" والدعوات للبحث عن "مفاهيم تنموية جديدة" و"عقد إجتماعي جديد"، تقفز بخفةٍ مدهشة فوق بديهية إعادة النظر في طبيعة النظام العالمي القائم نفسه، وامتيازات القوى الصانعة له والمهيمنة عليه، ومظالم الدول والشعوب المغلوب على أمرها فيه، حيث يتضح أن "أهداف التنمية الألفية" سرابٌ يلهث وراءه المؤمنون بـ"المؤسسات الدولية" و"المجتمع الدولي" دون أملٍ حقيقي لإدراكه. وبدلاً من ذلك، نسمع دعوات متفرقة، ولكن عابرة وغير جدية، لإعادة النظر في النماذج الإقتصادية القائمة، تغرق في سيل الكلام عن مجرد "أزماتٍ" إقتصاديةٍ ظرفيةٍ عابرة. فنادراً ما نسمع كلاماً عن "تحرير" الأسواق عنوةً وفرض الوصفات الجاهزة للـ"مؤسسات الدولية" كصندوق النقد والبنك الدوليين، كوصفة "الإصلاح الهيكلي"، خاصةً على الدول التي تُغرَق في فخ المديونية عمداً وعن سابق تصوّر وتصميم، وآثار هذه الوصفات على القطاعات الإنتاجية، وبالتالي فرص العمل ومستوى الدخل وقدرة الدول على توفير الإنفاق التنموي والإجتماعي. والأغرب من كل ذلك هو الإصرار في تعليق الآمال على "المؤسسات الدولية" ذاتها المسؤولة إلى حدٍ كبير عن الواقع المأساوي الراهن. فكيف نتجاهل المكانة الراسخة والمتميزة لمنظمة التجارة العالمية ومؤسسات بريتون وودز في أعلى هيئات الأمم المتحدة، Chief Executive Board!؟ وكيف نرتجي حلولاً من الأطر نفسها التي هي جزء من منظومة الهيمنة والإستتباع والإستغلال، وغطاءً برّاقاً خدّاعاً لها؟
   ما مصداقية المبدأ الأول من إعلان ريو الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في آب 1992، والقائل بأن البشر هم في قلب أهداف التنمية المستدامة، وأن من حقهم الحياة الصحيحة والمنتجة والمتآلفة مع الطبيعة، في حين تغطي الأمم المتحدة إملاءات صندوق النقد والبنك الدوليين الذين يفرضان على الدول المدينة خاصةً سياسات "الإصلاح الهيكلي" التي تعطي الأولوية المطلقة لتخفيض العجز وخدمة الدين العام، على حساب الإنفاق التنموي والإجتماعي؟
   ما مصداقية المبدأ الثاني من الإعلان نفسه، والذي يؤكد الحق السيادي للدول باستخدام مواردها حسب سياساتها التنموية والبيئية الخاصة، في حين تغطي الأمم المتحدة الغزوات العسكرية الأطلسية على الدول لنهب مواردها؟ لا بل أي مصداقية بقيت للأمم المتحدة، بعدما فرضت معادلة الإبتزاز الأبشع في التاريخ على العراق المحاصَر، وهي "برنامج النفط مقابل الغذاء"!؟
   تناقش "أهداف التنمية للألفية" جزئيات هي فروع لأصل يتم تجاهله تجاهلاً شبه تام، وهو سيادة الدولة وأمنها الإستراتيجي، الذي تتفرع منه مسائل الأمن المائي والغذائي وأمن الطاقة و"الأمن الإنساني" و"حقوق المرأة والطفل"، إلخ... ففي عالمنا العربي، على سبيل المثال، تقع منابع معظم الأنهار الكبرى خارج الأراضي العربية، فكيف نتباحث في حصة الفرد من المياه ومساحة الأراضي المزروعة، دون أن نبحث قدرة الدول العربية على صون حقوقها في مياه الأنهار المذكورة، في حين تبني دول المنبع السدود بشكل يسبب جفافاً وتصحّراً لأراضٍِ عربية ينتج عنها نزوح سكان قرى ومناطق بكاملها؟ وكيف نتحدث عن أمن غذائي دون أن نبحث مسألة فرض "تحرير التجارة"، أي فتح الأسواق وإلغاء دعم الإنتاج، على الدول النامية في ظل إصرار الدول الصناعية على دعم إنتاجها الزراعي (ما أدى إلى انهيار الإجتماع الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في كانكون)، ما يسبب إغراقاً لأسواقنا المحلية وضموراً لقطاعات الإنتاج الزراعي لدينا واعتماداً على الإستيراد لسد حاجاتنا الغذائية؟ كيف نتحدث عن "أمن إنساني" بمعزل عن الأمن القومي!؟ إن تجزءة المسائل تعني تجزءة الصورة العامة، والوعي الجزئي هو بالضرورة مشوّه، كما يقول نيتشه؛ ففي قضايا شاملة كقضية التنمية المستدامة و"الأمن الإنساني"، تخدم التجزءة أغراض التشويه والتمويه والإشغال، أكثر ما تخدم "التخصصية" و"الدقة"!
   ختاماً، كي لا تكون مسألة "الأهداف التنموية للألفية" ملهاةً ولهاثاً وراءَ سرابٍ في الأطر غير المناسبة wild goose chase، نؤكد على الدعوة التي أطلقتها مجموعة الدول الـ77 والصين في الإجتماع التحضيري الأول لقمة ريو+20 لاحترام حرية قرار كل دولة بانتهاج دربها الخاص لتحقيق التنمية المستدامة في الإقتصاد والمجتمع، وذلك بحسب ظروفها وأولوياتها. وهذا يعني أولاً التحرر من إملاءات "المؤسسات الدولية" وتوابعها، وانتهاج سياسات محلية سيادية تخدم التنمية المستقلة المستدامة.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net