Tahawolat
 
سحر خليفة تطلق «أرض وسماء» اتجاه نحو لنبع «حلم سعاده»
حاورها منير الحايك
توجت الكتبة الفلسطينية سحر خليفة مسيرة عطاء بسلسلة ذهبية تربط بين عالمين علوي وأرضي فكانت «أرض وسماء» علاقة بين واقع قائم معيش وحلم منشود غير متحقق لحد اللحظة إلا في وجدان مؤمنين.
تعود خليفة الى حياة أنطون سعاده وسيرته نستلهمهما نموذجاً محللة مفككة وجامعة من فسيفساء عبر نسيج قصة حلم.
بمناسبة صدور «أرض وسماء» كان ل«تحولات»حديث مع خليفه .هنا نصه س
سأبدأ معك د. سحر خليفة من حيث أنهيت حواري في العام 2010، في أثناء جولاتك التي قمت بها وأنتِ تحضرين لروايتك الأخيرة "أرض وسماء"، والتي تحدثت فيها عن أن هذه الرواية ستكون الشخصية التاريخية فيها أنطون سعاده. سألتكِ:
1-  هل استطعتِ أن تعطي سعاده المفكر النهضوي الكبير حقه الكامل في نص روائي واحد؟
  لا أدعي أني استطعت، ولا أعتقد أن بإمكان أي روائي أو كاتب سيرة أن يفعل ذلك. هذا رجل كبير جدًّا اجتمعت فيه صفات كثيرة متنوعة، وكانت حياته مليئة بالإنجازات والمنعطفات والتحديات. حاولت قدر الإمكان أن أستخلص وأوجز، فركزت على النقاط المحورية، سواء من حيث بناء شخصيته أو تجربته وإنجازاته، وربما يكون ما فعلته مقدمة لأعمال أكثر وأشمل، سواء من قبلي أو من قبل آخرين.
2-  بدأتِ صفحة الرواية الأولى بقول الزعيم الذي اقتبستِ منه عنوان الرواية "اقتتالنا على السماء أفقدنا الأرض". لماذا هذا القول من دون غيره من أقوال سعاده وأفكاره؟
  لأن هذا القول هو محور هذا الزمن الرديء. نحن ما زلنا نعاني من لعنة الطائفية، بل من مضاعفاتها. بالأمس كانت الصراعات بين الأديان وأصبحت الآن بين تفرعات الأديان. وأنطون سعاده كان من أوائل من نبهوا لخطورة الطائفية وضرورة التصدي لها. لهذا اخترت الكتابة عنه في هذا الظرف. في هذا الوقت بالذات، نحن أشد ما نكون بحاجة لمراجعة فكر سعاده ونضالاته.
3-  "أرض وسماء" هي الجزء الثالث والأخير من الثلاثية التي ضمّت أيضًا "أصل وفصل" و"حبي الأول". ما الذي أردت إيصاله من خلال الشخصيات التي نجدها في الروايات الثلاث مثل: ربيع، أمين، ليزا ونضال...؟
  فنيًّا، الشخصيات هي عماد الرواية. فلا رواية بدون شخصيات أساسية وثانوية. ولولا وجود الشخصيات التي أشرت اليها لاعتبرنا أرض وسماء سيرة حياتية لشخصية تاريخية. لكن وجودها، وتفاعلاتها مع الشخصية الرئيسية، أي سعاده، هي ما نقل العمل من السيرة إلى الرواية. فهذه شخصيات مختلقة، غير حقيقية، لكنها فعلت مفعول الكومبارس، أو المختبر والمحك لتأثير أفكار سعاده وفعاله وتفاعلاته. من خلالها، وبعيونها المختلفة نرى سعاده، كل من وجهة نظره، وبذلك نحصل على منظور بنورامي شبه موضوعي للفكر والفعل والأحداث. باختصار، هذه لعبة أدبية معروفة لم أخترعها، لكني استفدت منها وطبقتها، وآمل أن أكون قد نجحت في ذلك.
4-  يقول ربيع عن الخال المريض أمين في بداية الرواية: "أخلص للحب وللثورة، هذا ما كان. لو كل الرجال كانوا مثله هل كنا هنا؟" ما هي الـ "هُنا" التي تقصدينها؟
  أقصد ما كنا هنا في هذه الحال من الانحدار والتخبط والتبعثر. أهناك أسوأ مما نحن الآن فيه؟ فلسطين محتلة، العراق مدمرة، سوريا في وضع جهنمي شديد السواد، ومصر تعاني الأمرين من الإخوان والفقر والتشرذم والفوضى، واليمن والصومال والسعودية. أتريدني أن أشرح لك ما هي السعودية وما هو مفعول النظام السعودي والوهابية؟ شر البلية ما يُضحك...
5-  نلاحظ في "أرض وسماء" حيازة حياة أنطون سعاده على المساحة الأكبر من العمل، حتى أصبحت أقرب إلى السيرة. ما السبب؟
  لأن سعاده هو البطل الرئيسي. وكما قلت سابقًا، أنا اخترت الكتابة عنه الآن، لأنّ فكره ونضاله الأنسب لهذا الوقت. الطائفية الآن تحيط بنا في كل قطر ومن كل جانب. انظر الى العراق، وسوريا ومصر ولبنان وكل بقعة في العالم العربي، ماذا ترى؟ وأين هو الربيع العربي؟ ماذا حل به؟ لعنة الطائفية أصابته وجعلت منه خريفًا، بل شتاء موغلاً بالبرد والجمود والتصحر. وما لم نقاومها، كما فعل سعاده، فمصيرنا مظلم شديد السواد، وهذا ما حذر منه سعاده، واستشهد أثناء مقاومته.
6-  قلتِ في حوارنا السابق إنك قرأت "سعاده" حديثًا. بعد ما قرأتِ وما كتبتِ. من هو أنطون سعاده حسب رؤيتك؟
  سعاده أكبر وأغنى من أن يلخّص في بضع كلمات أو أسطر. حتى روايتي التي تزيد عن 400 صفحة لا تستطيع أن تلخصه أو تجمله. لا بد من قراءة الرواية حتى تُعرف وجهة نظري وماذا وجدتُ في شخصية سعاده وكيف رسمته. أنا أدعو الجميع لقراءتها. هذه دعوة، بل تحدٍّ.
7-  تقول نضال لربيع معاتبةً: "استبدلتني بغربة كندا... وقبل كندا بحلم سعاده". ما هو حلم سعاده برأيك؟
  حلم سعاده هو مشروع نهضوي تحرري حداثي متكامل. كان سعاده مفكرًا، لا سياسيًّا فقط، بمعنى أنه نظر إلى تفاصيل الحياة والجزئيات. وبمعنى أن حلمه لم ينحصر في التحرر السياسي فقط. ثورته ضمت السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي. حلم سعاده كان أن ينقل مجتمعنا إلى طور حداثي متقدم فنتحرر من الشعاراتية الفارغة والغيبية الضبابية والعشوائية المتخبطة. على كل حال، سعاده مات، لكن حلمه لم يمت لأنه أورثه لأجيال. وقديـمًا قيل: مَن خلّف ما مات.
8-  ماذا أرادت سحر خليفة أن تقول في "أرض وسماء"؟
  أردت أن أقول: فلنتعلم من التاريخ وأخطائه. نحن ما زلنا نلفّ وندور في حلقات مفرغة من حيث هيمنة السياسيين التسلطيين النفعيين عديمي الكفاءة والنزاهة، ومن حيث الانقسام الطائفي وصراعاته، وتراجعنا الاجتماعي وانهياراته، والخضوع لإرادة الغرب وشيوخ العشائر والقبائل. كانت لدينا ثورات عظيمة، وثوار عظام جاءوا بأرقى الأفكار والنظريات والممارسات. لكن الجو المتخلف، بحكامه الخاضعين لإرادة الأجنبي ومصالحهم، وإرادات المؤسسات الدينية الموغلة في التخلف والرجعية والأنانية، وقصور معظم الشرائح الاجتماعية عن اللحاق بركب التحديث والتقدم، هزمنا كما هزم سعاده. لو أن سعاده لم يُهزم، ولم يمت قبل أوانه، ولو عاش ليحقق أحلامه في الدولة المدنية الحديثة، هل كان لبنان كما هو الآن؟ هل كانت سوريا في هذا الدمار والرعب والعبثية؟ هل كنا أضعنا فلسطين؟ هل كنا خسرنا العراق؟ كل هذه الأسئلة وأكثر تدور في ذهني الآن، ولا بد أنها تدور في ذهن الكثيرين أمثالي. أنا أحاول البحث عن أجوبة مدفونة في التاريخ، حتى أعرف ويعرف الكثيرون أمثالي لماذا نحن في هذه الحال، ماذا فعلنا؟ أو بالأحرى، ماذا لم نفعل حتى الآن. بماذا قصرنا؟ لماذا تعثرنا. ما هي الأسباب والنتائج؟
9-  "أمين" المناضل القومي الاجتماعي يموت في نهاية الرواية. ولكنّ ابنته تتخرّج من الجامعة ويجتمع الكلّ في حفل التخرّج. أنا شخصيًّا رأيتُك تعلنين وفاة المؤسسات الحزبية، وتحمّلين جيلنا الشاب مسؤولية حمل الشعلة والانطلاق من جديد. فهل أنا على حقّ؟
  لماذا تقول هذا؟ أنا لم أعلن وفاة المؤسسات الحزبية. تـقول هذا لأن أمين الحزبي مات في نهاية الرواية؟ لكنه مات كمناضل وفيّ لم يتخل في يوم ما عن مبادئه وإيمانه. رغم استشهاد سعاده، وتشتت الحزب بعد الضربات المتلاحقة التي مني بها، والهزائم، إلا أن أمين مات وفيًّا لحزبه وزعيمه. وإن أردت أن تعرف إن كنت أؤمن بأهمية الأحزاب، رغم أني لم أكن حزبية في يوم ما، فأنا أقول بملء الفم أن الأحزاب والتنظيمات الحزبية ضرورية جدًّا، خصوصًا الآن، في هذا الوقت حيث الانفلات والتشرذم هما السمة الغالبة على مجتمعاتنا العربية. وحين انفجر الربيع العربي في محاولة لتعديل المسار ماذا رأينا؟ رأينا التنظيمات الإسلاموية والسلفية هي التي تقطف ثمار ربيعنا المزعوم. الأحزاب المفتتة المتشرذمة للقوميين واليساريين واللبراليين، بتشتتهم، حين جاء وقت الفرز بواسطة الصندوق، هزموا أمام وحدة وتنظيم الإسلامويين. وأكبر وأبرز مثال على ذلك هو ما حدث في مصر حين وصل إلى الحكم رجل يفتقر لكل مقومات الزعامة والقيادة. لماذا؟ لأن من نزلوا لمنافسته، وكلهم أفضل منه بما لا يُقاس، نزلوا مشتتين متشرذمين ومنفلشين. أليس مثيرًا للسخرية والأسى أن ترى مرسي يفوز على الصبّاحي وعمر موسى والسيد البدوي وأبو العز وأكثر من عشرة آخرين كانوا كلهم أذكى وأثقف وأكثر خبرة من مرسي الغبي والقاصر؟ لماذا فاز وهم خسروا؟ لأنهم نزلوا مشتتين، أليس كذلك؟ بمعنى أن مرسي القاصر فاز لأنه يمثل حزبًا منظمًا متماسكًا في مقابل تشتتهم. هذه باختصار وجهة نظري. أنا مع التنظيم والتوحيد ولم الشمل. لا يمكن أن نفوز سواء في مواجهة الإسلامويين والسلفيين أو الإرادات الأجنبية ونحن منفلشون مشتتون ومتشرذمون بهذا الشكل. أما بالنسبة للشباب ودوره الريادي فهذا واقع. الشباب هم من فجروا الربيع العربي وأطاحوا بالأنظمة العتيقة، لكن أيضًا، هم بحاجة للتنظيم. الأحزاب والتنظيمات ضرورة ليست سياسية فقط، بل وجودية. الشعب بحاجة لقيادة تخطط وتبرمج وتوحد الصف. ومن أين تأتي القيادة؟ من الجيش؟ هذا مرفوض. من المؤسسات الدينية؟ طبعًا مرفوض. تنزل من السماء؟ انتهى عصر المعجزات. إذن من أين؟ قل لي من أين؟
10-  كلمة أخيرة:
في روايتي الأخيرة، أرض وسماء، آمل أن أكون قد وفيت بطلاً لبنانيًّا ومفكرًا عربيًّا فذًّا حقه، وأن أكون قد حكيت قصته وتجربته بتجرد وفهم واستيعاب. وإن قصرت، فليفعل غيري ما قصرت في فهمه أو رسمه. فهذا رجل بحاجة لأكثر من راوية ورواية. وبالنسبة لي، يكفيني فخرًا أني فتحت نافذة أدبية على رجل شبّهه البعض بجيفارا، وشبّهه البعض بأرسطو حين قتلوه لأفكاره، إذ قال لنا قبل رحيله، كأنه يعرف ما حلّ بنا، ويحل بنا، إن اقتتالنا على السماء يفقدنا الأرض، وبفضل الدين كما فُسر وكما استثمر، عدنا قبائل غلفها الجهل والتناحر.

 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net