Tahawolat

قد يرى البعض بأن العولمة (بالمعنيين التجاري والاقتصادي) حديثة العهد نسبياً، ولكن عند النظر الى التاريخ البعيد يتضح لنا أنها ضاربة في التاريخ منذ القدم، وإن كانت غير معروفة الملامح كما هي عليه اليوم. فعلى سبيل المثال، وصل الفنيقيون الى اقاصي افريقيا الشمالية عبر التجارة، واسسوا مملكة قرطاج في تونس التي بقيت مهيمنة على العالم القديم وشواطئ المتوسط وصولاً الى شواطئ المحيط الاطلسي، ناهيك عن تجارة الصين، والهند وما يعرف بـ"طريق الحرير".
1.  أبرز منظمات وأدوات العولمة الاقتصادية:
يرى الكسندر دوغين في كتابه اسس الجيوبوليتيكا ـ مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ان ابرز منظمات العولمة الاقتصادية يمكن اختصارها بثلاث "وتتمتع بحرية كبيرة نسبياً في التخطيط والبحوث اذ انها كانت معفاة من الاجراءات المحدَّدة والشكلية التي ترافق نشاطات منظمة الامم المتحدة، وما اليها".
وهذه المنظمات هي:
-  مجلس العلاقات الدولية Council of Foreign Relations (C.F.R): لقد عملت هذه المنظمة على صياغة الاستراتيجية الاميركية على الصعيد العالمي، حيث عدَّ من أهم أهدافها توحيد الكرة الارضية وإقامة الحكومة العالمية. ويذكر دوغين ان اعضاء هذه المنظمة كانوا "في الوقت نفسه من المبجّلين الرفيعي المستوى في الماسونية الاسكوتلندية".
-  نادي يبلديربيرغ: اسس العام 1954 وانتسب اليه بعض من اعضاء مجلس العلاقات الدولية (C.F.R) الاميركيين. وقد تأسس النادي بمبادرة من عدد من أثرياء العالم ومن أصحاب النفوذ والسلطة. ويعود اسمه إلى فندق بلدربيغ في قرية أوستيربيك بهولندا حيث عقد فيه أول اجتماع. ويمثل الأوروبيون ثلثي أعضاء المجموعة والبقية من الولايات المتحدة. وتعقد اجتماعات المجموعة بشكل سنوي في اوروبا، ومرة كل أربع سنوات في الولايات المتحدة الاميركية أو في كندا. حيث يتمّ حجز فندق الاجتماع كاملاً ويضرب حوله نطاق كامل من السرية وتمنع وسائل الإعلام من الاقتراب، ولا يتم تقديم بيانات للصحافة حول الاجتماعات. كما أن على أعضاء المجموعة أن يقوموا بأداء قسم السرية.
-  اللجنة الثلاثية (Trilateral): اسسها ناشطو نادي يبلديربيرغ العام 1973 ولها مقر رئيس في الولايات المتحدة الاميركية ومكتبان آخران في كل من اوروبا واليابان. وسميت كذلك نسبة الى الاسس الجيوبوليتيكية المؤسسة وهي:
·  المجال (القاري) الاميركي بشقيه الشمالي والجنوبي؛
·  المجال الاوروبي؛
·  مجال المحيط الهادي الذي تسيطر عليه اليابان.
وعلى رأس هذه المجموعة يقف المصرفي الكبير ديفيد روكفلر صاحب تشيز مانهاتن بانك، وكل من زبيغيف بريجنسكي (مستشار وكالة الامن القومي السابق) وهنري كسينجر (وزير خارجية سابق).
  ويرى دوغين ان الهدف الاساس من هذه المنظمات "يتمثل في الانتقال الى النظام العولمي الواحد تحت السيطرة الاستراتيجية الغربية... وصيغت من اجل تحقيق ذلك نظم موازية تتكون من السياسيين، والصحافيين والمثقفين والماليين والمحللين وما الى ذلك، والذي كان عليهم ان يمهدوا التربة قبل ان يتم الاعلان بصورة واسعة عن هذا النظام العالمي للحكومة العالمية، أن يمكنه بدون هذا الإعداد ان يصطدم بمقاومة نفسية قوية من طرف الشعوب والدول التي لا ترغب في تذويب خصوصيتها في البوتقة العالمية".
  بالاضافة الى ما سبق، يرى الخبير الاقتصادي اللبناني غالب ابو مصلح ان هناك مؤسسات دولية (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومجلس الامن في اوقات معينة) تنفذ السياسات الاقتصادية لبعض الدول الكبرى، ومع تغير الواقع الدولي "أصبح من غير المقبول ان تمتلك اميركا وحدها حق النقض في البنك الدولي، وان تحتكر ارادته، ومن غير المقبول ان تحتكر اوروبا حاكمية صندوق النقد الدولي، ومن غير المقبول أن يتحول البنك والصندوق الدوليان اداتين لامبريالية اميركية، ولخدمة مصالح الهيمنة الاميركية في العالم".
تبقى اليد الاهم للعولمة الاقتصادية يتمثل فيما يعرف بـ"الشركات متعددة الجنسية او العابرة للقارات"، حيث قامت دول عدة بشن الحروب (مثال: حرب العراق الاخيرة 2003) لتمكين هذه الشركات من استغلال الموارد والسيطرة على المواد الاساسية (شركات النفط) وتصريف انتاجها (كارتلات السلاح) وتأمين وظائف (شركات الحماية التي دخلت الحروب بجانب الجيوش كشركة بلاك ووتر العالمية) في تلك الدول. اما بالنسبة لتعريف الشركات المتعددة الجنسية فقد ظهرت تعريفات كثيرة، منها أنها مؤسسة ذات فرع أو شركة منتسبة أو شركة تابعة أجنبية واحدة أو أكثر وتنخرط في الاستثمار في أصول إنتاجية أو مبيعات أو إنتاج أو تشغيل الفروع والتسهيلات الأجنبية. وتصوغ الشركات متعددة الجنسية "معظم خططها واستراتيجياتها وسياساتها في المركز الرئيسي لها ويكون ضمن مجال قومي معين (دولة معينة) تدعى بالدولة الأم. وبالرغم من ذلك فإن حجم نشاطات الشركة مثل: النشاط الصناعي أو التجاري أو المعلوماتي قد يتجاوز الحدود السياسية والوطنية والإقليمية لهذه الدولة التي تعمل على أرضها (الدولة الأم) ويتوسع هذا النشاط حتى يصل مداه إلى دولٍ أخرى تسمى بالدول المضيفة".
ويرى ابو مصلح ان هذه الشركات جندت حكومات عدة لخدمتها محلياً ودولياً، اذ "تم نقل سلطات عدة واتخاذ القرارات في مجال السياسة كما في الانتاج والاستهلاك، من الحكومات والجماهير، الى مجالس ادارة الشركات الكبرى، بحيث تم افراغ الدورة السياسية من محتواها الديمقراطي الى حد بعيد، وحول الديمقراطية التي تمارس فعلياً في البلدان الرأسمالية المركزية، ديمقراطية شكلانية".
2.  أثر العولمة الاقتصادية على الدول:
من خلال ما سبق، يمكن التوصل الى تأثيرات العولمة على صعيد المجتمع الدولي، او الدولة الام (مركز هذه الشركات والمنظمات)، أخيراً على بقية دول العالم الاقل نمواً اقتصادياً.
-   على الصعيد العالمي:
·  ترك السوق للتحكم في الاقتصاد (عرض وطلب) وعدم وجود قواعد حمائية تضبط ايقاع التأثيرات السلبية التي قد تنتج؛
·  قصور الطلب عن العرض يشكل قوة إنتاجية معطلة، بحيث سيؤدي الى تراكم الإنتاج وهبوط اسعاره مما يستتبع كساداً سيسبب اضراراً بالطبقات الكادحة؛
·  عدم توزيع الثروات والاستفادة منها بشكل عادل، بحيث تحتكر هذه الشركات الموارد والمداخيل بنسبة عالية ومرتفعة جداً؛
·  فشل الامم المتحدة لتكون حكومة عالمية بعد انشائها العام 1945، حيث كان من المراد لها ان تشكل صمام امان للدول التي عانت من الاستعمار والانتداب؛
-  على صعيد البلد الام:
·  المساهمة في تمويل الحملات الانتخابية للمرشحين، حيث يصبحون الادوات السياسية لتنفيذ المخططات والسياسات الاقتصادية لهذه الشركات لضمان استمرارهم في الحياة العامة؛
·  السيطرة على وسائل الاعلام وصناعة الرأي العام وتشكيله على اساس مصالحها الذاتية، فلقد طوّرت الشركات الصناعية الكبرى "استعمالها وسائل الإعلام، ليس لبيع منتجاتها فقط بل لبيع صورتها... اشترت وسائل اعلام رئيسة مثل (CNN) وغيرها... إن سيطرة الشركات على العملية السياسية في العالم اصبحت اكبر من اي وقت مضى، فالشركات بطبيعتها ليست مؤسسات ديمقراطية... ولكنها امسكت بالساحة السياسية التي اخلاها المواطنون، والاحزاب السياسية، والمؤسسات الوسيطة الاخرى... وان العملية الديمقراطية بحد ذاتها اصبحت تحت سيطرة المال"؛
·  افراغ الحياة السياسية من مضومنها الحقيقي المتمثل في تأمين حقوق المواطنين بكافة اشكالها والانتقال الى تحقيق ارباح مالية لهذه الشركات تضمن عودتهم مجدداً الى كرسي الحكم، ضاربين بقواعد ومبادئ الديمقراطية عرض الحائط؛
·  اضعاف مؤسسات الحماية الاجتماعية او حتى الاستغناء عنها فهي بحسب رأي الليبراليين الجدد تعتبر هدراً للمال العام، فالفقر هو مسؤولية الفقراء وليس المجتمع، وعدم توظيف الشخص مرده الى عدم كفاءته؛
·  رجوع الدولة الى منطق "الدولة الحارسة" ومبدأ عدم التدخل وابقاء اهتماماتها ضمن الامن والخارجية والدفاع (وكثيراً ما تتحكم فيهم او في بعضهم مجالس ادارة بعض من هذه الشركات ايضاً)؛
·  العودة الى كنف الدولة لإنقاذ او حمايتها عندما يهدد وجودها حتى ولو تم انقاذها على حساب المال العام، وهو ما حصل عندما قدمت حكومة الولايات المتحدة مبلغ ثمانين مليار دولار لشركة اميركان انترناشيونال غروب American International Group AIG  لمنعها من الافلاس والتأثير على الاقتصاد الاميركي؛
·  حماية هذه الشركات قانونياً من خلال العقود المبرمة مع الدول او الشركات الاخرى وانشاء مجالس التحكيم على غرار مركز التحكم التجاري الدولي في واشنطن ومراكز عديدة في باريس، حيث تلجأ الشركات عند ابرامها للعقود بوضع بند للتحكيم في العقود، واعطاء المراكز التحكيمية في بلدانها الحق في نظر الدعاوى والحكم بتعويضات قد تكون خيالية احياناً، وهو ما حصل مع جمهورية مصر العربية في كثير من الخلافات التي نشأت بين الدولة وبعض هذه الشركات الكبرى. ان هذا المنطق يفرض نتيجة مفادها عدم وجود آلية للقدرة على محاسبة هذه الشركات لكونها تحظى بدعم دولها القوية؛
·  توفير الغطاء الأمني لها عبر انتشار القواعد العسكرية في العالم لحمايتها، فنهاك "اكثر من 750 قاعدة عسكرية في العالم لحماية شركاتها وامتيازات هذه الشركات، وخطوط إمدادها والمواد الخام الاساسية المنتشرة في انحاء الكرة الارضية"؛
·  ضرب النقابات العمالية بصفتها قوة من قوى الضغط على السياسات الحكومية لتغييرها او تعديلها؛
·  تحرير سوق العمل وانتهاك حقوق العمال المتمثلة في نواح عدة ابرزها الضمان الصحي، والحد الادنى للاجور، وتوقيع عقود عمل تعتمد على مدة العمل فقط من دون ان يكون لها صفة الديمومة، وهذا ما يزيد من خوف العمال على مستقبلهم.
-  التأثيرات على الدول الأخرى:
·  انتهاك سيادة الدول وحقوقها؛
·  التأثير على الاقتصاد الوطني بغية تحقيق المصالح الخاصة للشركات، اذ يرى غالب ابو مصلح انها ستقل من القدرة الشرائية فيها، الامر الذي يقلل الطلب على السلع ورؤوس الاموال، مما يؤدي الى زيادة البطالة واتساع الفروق في المداخيل، ونمو للدينين العام والخاص، واخيراً الوصول الى ازمة مالية، على غرار ما تشهده بعض الدول التي مرت بمثل هذا السيناريو (لبنان مثلاً)؛
·  التأثير على النقد واسعار صرف العملات، وما يمكن ذكره هنا ما حدث في ستينيات القرن الماضي عندما وجدت الشركات الاميركية نفسها في موقع غير تنافسي مع الشركات الاوروبية واليابانية، "فلجأت الى الدولة لحمايتها من المنافسة الخارجية، واخذت الحماية الاميركية اشكالا عدة. منها الضغط على المانيا واليابان لرفع اسعار صرف عملتيها، وتخفيض سعر صرف الدولار لرفع القدرة التنافسية لانتاج الشركات الاميركية داخل السوق المحلية وخارجها"؛
·  رفع الحواجز الجمركية عن منتجاتها وإبقائها في دولها خصوصاً في فترات الركود، وهذا ما اوضحه مايكل تانزر اذا اعتبر انه "عندما يكون الاقتصاد الكوني كله راكداً او قيد التقليص، فإن بعض الشركات تعاني اكثر من المنافسة، وتلجأ بشكل متزايد الى استخدام سلطة الدولة لحماية اسواقها المحلية. وبصورة مشابهة فإن الدولة تعمل بجهد أكبر لترويج مصالح الشركات التابعة لبلدانها، وذلك بأن تتبع خط الحماية من الداخل، وان تدفع - في الوقت نفسه - باتجاه كسر نطاق الحماية في البلدان الاضعف وخاصة العالم الثالث". وغالباً ما يكون سبب الاقفال قانونياً (مثل عدم مطابقة السلع الواردة للمواصفات، اسباب صحية او بيئية، الاغراق) لمنع مساءلتها او إحراجها؛
·  عدم قدرة شركات الدول الاخرى من استثمار القطاعات نفسها (النفط، الاتصالات، مولدات الطاقة) او حتى الاقل من تلك التي تقوم بها تلك الشركات الكبرى. ويبرز هنا عدد من الامثلة كرفض الولايات المتحدة للتعاقد مع شركة اماراتية لصيانة وخدمة المرافئ فيها باعتبارها مناطق وقطاعات استراتيجية، ومنع بيع شركة "لاند روفر" البريطانية الى "بي ام دبليو" الالمانية باعتبارها رمزاً قومياً للصناعة الانجليزية؛
·  هجرة اليد العاملة من الدول الضعيفة اقتصادياً الى الدول الغنية وحرمانها من أهم موارد التطور وهو العنصر البشري.
3.  عودة الدول الى لعب دور قومي:
قد يكون من المهم ان تقوم الدول بلعب دور قومي بعد ان فقدت الكثير منه، يتمثل في:
-  الاشراف على المرافق المهمة استراتيجياً والحيوية من حيث حجم تأثيرها على الدولة (اقتصادياً، سياسياً، امنياً)؛
-  التشجيع على الاستثمار في قطاعات الانتاج وتحسين نوعيته كي تستطيع السلع من المنافسة؛
-  التركز على "صناعة" العنصر البشري المتخصص لرفع مستوى وتقنيات الانتاج؛
-  تقديم التسهيلات للمشاريع الجديدة والعمل على تشجيع الانتاج الفكري وعدم هجرة الادمغة؛
-  سن التشريعات والقوانين بغية تحقيق المصلحة العامة؛
-  تفعيل دور النقابات وتحسين شروط العمل (عقود العمل، تفعيل دور العامل في مجالس الادارة من خلال تشكيل لجان تتشارك في وضع سياسة العمل واطر تحسينه مما يدر نفعاً على العمال واصحاب العمل)؛
-  تأمين العامل في جميع المجالات كي يستطيع الانتاج (الصحة، الاجور، التعويضات، ...الخ)؛
-  اتباع سياسات التقشف لحل الازمات عبر ترشيد الانفاق والتخفيف من الهدر؛
-  فتح اسواق الدول عبر الاتفاقيات الثنائية العادلة للطرفين؛
-  حماية ومراقبة الدول للشركات التي تعمل في الخارج من الغبن والاستغلال، وايجاد آليه عادلة لمحاسبتها في حال خرقها للاتفاقيات والاعراف التجارية المتعارف عليها.
·  باحث في الشؤون الدولية
 
المراجع:
-  غالب ابو مصلح، النظام العالمي ورياح التغيير، دار الفارابي، بيروت – لبنان، 2011.
-  الكسندر دوغين، اسس الجيوبليتيكا - مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي، ترجمة وتقديم الدكتور عماد حاتم، دار الكتاب الجديدة، بيروت – لبنان، 2004.
-  أ.د محمد المجذوب، التنظيم الدولي- النظرية والمنظمات العالمية والاقليمية والمتخصصة، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت لبنان، 2002.
-  http://ar.wikipedia.org
-  علي حصين الاحبابي، الشركات عابرة القارات  http://www.siironline.org
 
 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net