Tahawolat
  كان الاعتقاد السائد حتى وقت قريب ان التوراة تشكل تاريخ العالم القديم بما حوت من اسماء ووقائع وحكايات شكلت ما يمكن ان نسميه وجدانية التاريخ، غير ان الاكتشافات الاركيولوجية التي تدفقت امام الباحثين منذ العقد الثالث من القرن الماضي، وخاصة منذ اكتشاف حجر الرشيد الذي كان المفتاح في فك رموز اللغة الهيروغليفية، قد اثارت الكثير من التساؤلات حول صحة ان تكون حكايات التوراة تاريخاً بالمعنى العلمي للكلمة. وبدأ العلماء اعادة النظر في كل التصورات التي اعتبرت تاريخاً للبشرية في القديم.
كان سفر الخروج الذي يصف خروج اليهود من مصر بقيادة موسى يشكل الاساس الذي بنيت عليه في ما بعد الأساطير حول كينونة الشعب اليهودي ومن ثم التوجهات السياسية التي قادت في الاخير الى خلق الحركة الصهيونية. واذا كان المبنى الديني قد ترسخ على مدى خمسة وثلاثين قرناً حتى اواسط القرن العشرين المنصرم، فقد جاءت البحوث والحفريات واعادة قراءة التاريخ على ضوء تلك الاكتشافات لتبرزا الكثير من الحقائق العلمية وتسلط الضوء من جديد على ذلك التاريخ القديم، اعتمادا على الحفريات وقراءة النقوش في المعابد المصرية القديمة ومن ثم اعتماد اسس البحث العلمي والمنطقي في تلك الحكايات.
كل المهتمين بتشكل التاريخ اليهودي على ضوء ما ورد في التوراة وفي سفر الخروج بشكل خاص، كانوا يتجاوزون او يتجاهلون مسألتين أساسيتين في ذلك التاريخ. الاولى هي كيفية او صحة انتقال العبرانيين من السيادة والسيطرة عن طريق يوسف الذي تبوأ اعظم المراتب وامتلك القدرة ليكون مسستشار الفرعون في امور الدولة كافة، الى مرحلة العبودية التي يتحدث عنها سفر الخروج. والثانية كانت في تفسير ظروف الخروج وكيف امكن – حسب الرواية التوراتية – تجميع كل اليهود المنتشرين في انحاء مصر وقيادتهم لعبور الصحراء من دون ان يتنبه الفرعون او احد من رجاله او حتى من اعداء يوسف الذين كانوا يتربصون به حسداً وغيره مما وصل اليه من نفوذ. وهناك نقطة اخرى لا يتقبلها العقل اطلاقاً. تقول المعلومات التاريخية ان ما بين وصول يوسف الى مصر  بعد أن عثروا عليه في الصحراء، وخروج اليهود من مصر قرابة الثلاثمئة وخمسين سنة او اقل قليلا.. واذا افترضنا ان اخوة يوسف التسعة او العشرة قد عاشوا جميعا في مصر وتزوجوا وانجب كل واحد منهم عشرة اولاد وان كل واحد من اولئك الابناء قد انجب ايضا عشرة اولاد وهكذا، واذا انقصنا اعداد الموتى طول تلك السنوات، فهل يمكن لعقل ان يصدق ان الذين خرجوا مع موسى من اليهود العبرانيين بلغ عديدهم ستمئة الف رجل، عدا النساء والاطفال! هذه ليست اسطورة بل خرافة.
ترسّخ في الذهن العام للبشرية ان يوسف الذي بيع كعبد بعد ان عثرت عليه احدى القوافل في جب في صحراء، وبعد سلسلة من السجن والتنقل وتفسير الاحلام للفرعون، استقر مستشارا لفرعون وتولى اقتصاد مصر بنجاح واستدعى اخوته وأنعم عليهم. من الاكيد ان اخوة يوسف المكرم وابناءهم واحفادهم قد لاقوا كل تكريم من الشعب المصري ومن الكهنة بشكل خاص.
كيف انقلب الامر فصاروا عبيدا في حاجة لمخلص ينقذهم من ظلم فرعون؟ مثل ذلك الوهم لا يحدث بين ليلة وضحاها بل ربما يمتد لاجيال، فاين تفسير ذلك الانتقال؟ هذا اذا تقبلنا ما تقوله التوراة كحقيقة واقعة. التوراة تصمت عند هذه المسألة وكتبة التوراة يتجاهلون كل ما حدث في تلك المرحلة من تاريخ مصر لأن الاشارة الى المؤامرات والدسائس في بلاط فرعون وفي صفوف الكهنة، والنزاع الدامي بين أنصار الاله أمون وأتباع الاله أتون يكشفان ولا شك ضعف حكاية سفر الخروج وهزالها.
السؤال الذي يطرحه علماء الاركيولوجيا الجدد هو التالي: هل صحيح ان الذين خرجوا مع موسى من ارض مصر كانوا من اليهود؟ وقبل ذلك: هل صحيح ان موسى نفسه كان عبرانياً؟
هنا نعود الى اثنين من الباحثين اليهود وقد امضيا اكثر من عشرين سنة في دراسة الآثار والنقوش المصرية القديمة وكل ما يتعلق بحكاية الخروج، والظروف المضطربة التي كانت سائدة يومذاك في مصر، ووضعا خلاصة بحوثهم في كتاب عنوانه: "أسرار الخروج". كان ذلك قبل اكثر من عشر سنين وقلة من المؤرخين العرب والمعنيين بكل هذا الموضوع وتداعياته من اهتمّ بدراسة او حتى مطالعة الكتاب، ولو من باب العلم بالشيء ولا الجهل به.
"ميسود صبّاح"، و"روجيه صبّاح" وضعا نتائح بحوثهما واكتشافاتهما الاركيولوجية في هذا الكتاب الذي يستحق ليس القراءة فحسب بل الدراسة والتعمق والاستدلال للوصول الى النتائج المترتبة على تلك الاكتشافات، واولى تلك النتائج المحتمة هي اعادة النظر في التاريخ اليهودي كله، وكذلك اعادة النظر في القيمة التاريخية لسفر الخروج من الاساس. النتيجة هي ان التوراة لا تصح أبداً ان تكون تاريخ العالم ولا تاريخ اليهود ايضاً.
القصة كما توصل اليها هذان الباحثان تروي بكثير من التفاصيل النزاع الذي استشرى بين الكهنة من اتباع الإله أمون والكهنة من اتباع الإله أتون، الذي توصل اليه الفرعون اخناتون - أخن أتون - ودعا الى ما يشبه التوحيد من حيث قوة وسيطرة الإله أتون - واستطاع السيطرة على مقدرات مصر وعلى المعابد هناك، فاختفت ولو ظاهرياً معالم الاله أمون وضعف مركز كهنته فتقدّم كهنة أتون – اله الواحد – القوي. ولكن مؤامرات كهنة امون لم تتوقف، وادت في الأخير الى اغتيال اخناتون وهو في الخامسة والثلاثين من العمر ونشبت معارك ونزاعات دموية بين الفريقين ودبت الفوضى في البلاد كلها، ولكن اتباع اتون كانوا يملكون الذهب والثروات الطائلة.
الكتاب يروي بكثير من الدقة والتفصيل الكثير من تلك الاحداث الى ان يقول انه تمت تسوية – او صفقة بمفهوم هذا العصر – بين الفريقين، يغادر اتباع اتون – التوحيديون –  بموجبها مقارهم ومدنهم ومزارعهم على أن يحملوا معهم كل الذهب والثروات والاموال والماشية التي يملكون، وان يغادروا الى ما يشبه المنفى – الى ارض فلسطين التي كانت يومذاك تحت الحكم المصري – أي ولاية مصرية، وكانوا يعرفون انها ارض خير تدر لبناً وعسلاً. لم يكن الخروج هرباً بل نتيجة اتفاق، وكل ما في الامر ان يغادر اتباع الاله أتون ارض مصر الى ارض كانت تعتبر ولاية مصرية خاضعة لفرعون مصر.
الذين خرجوا مع الفرعون تحتموس - وتحت قيادته هم مصريون من أتباع الاله اتون – وكان خروجهم باتفاق، وقد رافقتهم فرق من الجيش المصري للتأكد من مغادرتهم حدود مصر. هنا يمكن ان نفهم القول ان عدد الخارجين بلغ ستمئة الف رجل عدا النساء والاطفال. كانوا من اتباع اخناتون وديانة اخناتون ومن اتباع الاله أتون.
ماذا يعني كل ذلك؟ الجيش المصري لم يطارد الخارجين بل تتبعهم للتأكد من مغادرتهم تلك المناطق. وتاريخ مصر بكل الآثار والحفريات وورق البردى وبكل النقوش يعتبر أكمل تاريخ قديم من حيث تسلسل الأحداث والسلالات الحاكمة ليس فيه اي اشارة الى فرعون او جيش مصري يغرق في البحر او النهر. تاريخ كل فرعون من فراعنة مصر القديمة كامل من حيث الأحداث والولادة والزواج والموت والتحنيط وما الى ذلك، كما هو كامل من حيث الحروب والانتصارات والانكسارات وغيرها لكل فرد من تلك السلالات او العائلة الحاكمة. فلا فرعون مات غرقاً ولا جيش مصر أطبقت عليه امواج البحر فهلك.
اذن، الاستنتاج المنطقي كما يدل تسلسل الاحداث وكما تكشف كل الدراسات، يشير الى ان الذين غادروا مصر في تلك الحقبة كانوا تحت قيادة فرعون مصر "تحتموس – تيحت موس" وانه اختصر اسمه بالجزء الأخير منه – موس - الذي اضيف اليه حسب الكتابات اليونانية حرف "س" فصار موسس ويلفظ موسز – Moses – موسى، كما يفعل ابناء هذا العصر في كل مكان ويصبح اسم دانيال – داني، واسم انطونيو – طوني، واسم محمد – حموده، وهلم جرا.
اول من شكك في القيمة التاريخية لرواية التوراة في سفر الخروج كان يهودياً ايضاً هو سيغموند فرويد الذي قال ان موسى لم يكن عبرانياً بل مصرياً. كان ذلك قبل اكثر من ثلاثين سنة. وجاء ميسود، وروجيه صبّاح في كتابهما الأخير ليثبتا ان الذين خرجوا من ارض مصر الى اقليم فلسطين، الذي كان ولاية مصرية، كانوا مصريين لا علاقة لهم بالعبرانيين، فقد كانوا من المؤمنين بديانة "اخناتون " التوحيدية - حسب مفهوم ذلك العصر، وبالاله "أتون".
يقول المؤلفان ان العبرانيين في مصر لم يكونوا عبيداً ولم يهربوا للنجاة بأرواحهم كما يقول سفر الخروج في التوراة. فئة منهم كانت من اتباع اخناتون فخرجت مع الخارجين – المنفيين، حسب الصفقة التي تمت بين الكهنة، وفئة اخرى من العبرانيين كانت من اتباع الاله أمون، بقيت في مصر ولم تغادر. وكلمة "شعب الله المختار التي كانت تطلق على سكان مدينة او اقليم "أخيت أتون" كانت تعني المصريين من سكان ذلك الاقليم.
الكتاب مليء بالمعلومات التاريخية الموثقة اما بالكتابات والنقوش القديمة في المعابد المصرية، أو بالتحليل المنطقي والاستنتاج العلمي الذي يفترض كل الاحتمالات.
يقول الكتاب – اسرار الخروج – ان التوراة لم تُدرس حتى اليوم كعنصر أساسي من علم المصريات، رغم ان القسم الاكبر من حكاية التوراة قد حدث في مصر القديمة، ومع ذلك، فلا أثر اطلاقاً في كل التاريخ الفرعوني القديم لابراهام او ليوسف او لموسى، كما يروى في سفر الخروج.  التاريخ المصري كله لا يحمل اي اشارة الى وجود اليهود هناك ولا الى موسى او ابراهام، وقصة الخروج التوراتية ليست سوى حكاية مقتبسة تصور اوهاماً وسرقة تاريخ.
اذا كان علينا ان نتقبل حكاية التوراة، فكيف نفسر ان جماعة عاشت في مصر اربعمئة سنة تقريباً، لم تترك اثراً ولا اشارة في كل التاريخ المصري والآثار المصرية والنقوش والكتابات القديمة؟
نعم، لماذا لا يوجد في كل التاريخ المصري القديم اي اشارة لـ"شعب" يقال انه عاش وعمل واندمج في المجتمع المصري طول اربعمئة عام؟
المؤلفان يختتمان دراستهما التي استمرت عشرين عاماً في هذا الكتاب بالقول ان ابراهام هو اخناتون وان موسى هو الفرعون رعمسيس او تحتموس ويؤكدان - نتيجة تلك الدراسة – ان الخروج لم يكن سوى صفقة او تسوية تمت بين الكهنة، يغادر بموجبها اتباع الاله "أتون" الارض المصرية الى اقليم خاضع لمصر هو فلسطين! فاعتبر اتباع الاله المنتصر أمون انهم تخلصوا من اتباع اخناتون المؤمنين بالإله أتون، واعتبر المغادرون انهم انتصروا اذ غادروا الى ارض تدر لبناً وعسلاً وحملوا ثرواتهم معهم التي اشار اليها سفر الخروج بالقول ان النساء العبرانيات استعرن اواني الذهب والفضة من المصريين وهربن بها، وهي حكاية مهلهلة لا اساس لها. 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net