Tahawolat
لم يكن انقلاب حسني الزعيم 1949، انقلاباً عسكرياً صرفاً، بقدر ما هو انقلاب ثقافي، أنهى حلم النهضة والتنوير معاً بحيث لا تبدو مقررات يالطا بعيدة عن الموضوع ليس من باب المؤامرة، بل من باب الخضوع للأكثرية وإمكانياتهم بعد فشل التنويريين في التأسيس لديمقراطية في مجتمع فشل النهضويون في تأسيسه أو التأسيس له، وعليه فقد تم استبدال التنوير بمشاريع ثقافية توعوية ليس إلا، وأصبحت الثقافة هي المبتغى على طريق التنوير ومن ثم النهضة، واعتباراً من 1949 اختلطت بعض معانٍ للثقافة، مع المعنى المعرفي لها؛ حتى كادت تصبح مجرد العلم بالشيء دون أي ميزة اجتماعية أخرى، وهكذا تحول بقية التنويريين الى حملة أقلام، وأصبحت الثقافة هي (وعي) بأي شيء، يتسامى أو يتهاوى، يتخلّف أو يتقدم، معاصر أو تراثي، عالماني أو غيبي، حداثي أم مموّه، الخ الخ، ومن مصادفات هذا الوعي (الملخبط) أنه اكتشف مشابهات يالطوية لسايكس بيكو، مثل مخطط داكار كابول لتغيير أنظمة الحكم (أي الثقافة)، ومن ثم مستنقع الجهاد الأفغاني برعاية بريجنسكي، حيث ظهرت النتائج النهائية لهذه الدوغما سنة 1967، لنرى ونلمس انفصام عرى الثقافة عمودياً، وليتحول المثقفون بعدها من بقايا التنويرية ومن المستجدين، الى باعة متجولين في عواصم العالم بعد أن سدت في وجوههم السبل (الحرب الأهلية اللبنانية – كامب ديفيد الخ)، تاركين الساحات الثقافية (على صغرها) لألوان جديدة من الثقافة انطلاقاً من عام 1967، الاستحقاق الأكثر وضوحا في الحاجة الى توليد المجتمع وبناء الإنسان، لقد انهزم الشرق أوسطيون اجتماعياً... والهزيمة العظمى أنهم سامحوا أنفسهم ولم يحاسبوها لأن المحاسبة تحتاج الى الوصفة نفسها التي تغافل عنها الآملون أنفسهم بحياة أفضل وعلى الأقل (طبعا الوصفة موجودة ومشهورة لا بل مجربة تحت أنظارهم وبالقرب منهم)، ولكن هؤلاء الآملون الشرق أوسطيون لم يشعروا بانسداهم الثقافي بعد، لا بل تصوره كجريان هائل كاسح، حتى ولو ظهرت بضع اشارات هنا وهناك تصفه بجريان هائل ولكنه معاكس، مرتد، طوفاني وكارثي، فاستحقاق تأسيس مجتمع، تمّت مواربته لغوياً فقط، وأصبحت هناك مجتمعات تارة ومجتمع واحد تارات أخرى، ولكن بناء على التفسير اللغوي فقط، تماماً مثل تعريف الثقافة بالعربية، على أنها ثقف الرمح، أي هذبه ودببه، على الرغم من المعنى العالمي لها، إلا أن التدبيب (من دب) والتجميع، هما معنيا الثقافة والمجتمع في الممارسة الثقافية، وهي مصطلحات لا تقبل لا المواربة ولا الاستبدال، ولا التعريف بدلالة التراث، فإما مجتمع وثقافة بالمعنى المعرفي المعاصر وإما لا، فليس من أشباه ثقافات ولا أشباه مجتمعات كالتي نعيش بقادرة على العيش والاستمرار فلا عاد ولا ثمود تصلحان كأمثلة على الفناء، بل العراق وأفغانستان والسودان ولبنان واليابان القديمة وماليزيا الخ، فالفناء المعاصر هو خيار بين أن تكون مجتمعاً ينتج عن حيويته وسائل وأدوات وعوامل البقاء والاستمرار المشروط بالارتقاء، أو تستمر عمليات الإفناء الداخلية قبل الخارجية بناء على استحقاقات الكفاية والمنعة والتنافس، فلا أحد على سطح الكرة الأرضية يمزح في مسألة فنائه.
مع ثورة 1952 تم إلغاء التنوير عمليا ومطاردة فلوله، فلا لزوم له بعد أن جاء المثقفون (العسكر) وهم سوف يولدون مجتمعاً وعادلاً ذا منعة وكفاية، وهنا لا يؤسف على التنوير ما دام حلم النهضة الذي سبقه نفسه قد ألغي وأصبحت الثقافة (بوزاراتها على سبيل المثال) هي النبع الموحد للمعلومات التي هي نفسها الثقافة (برأيهم) والمعترف بها تراثياً (تدبيباً)، بحيث اصبحت الثقافة (التدبيب) إجبارياً، عبر وسائل الإعلام، والتعليم (كميات هائلة من المدارس ذات التعليم السيىئ) وعبر وسائل التوصيل للمنتجات الثقافية (مسرح، سينما، شعر، موسيقا، طباعة كتب وأخيراً وليس آخراً التلفزة) لتبدو المسألة كهجوم كاسح على بقايا منتجات التنويريين، الرجعيون منهم تارة والتقدميون جداً تارة أخرى، حيث تم ترويض الثقافة (الفاشلة أساسا) لتصبح صالحة وبتأييد الأكثرية البشرية، لبدء تنفيذ مشروع داكار كابول المعروف في أروقة السياسة آنذاك، لإن الانشقاق العمودي في ثقافة هذه التجمعات البشرية تجعلها قابلة للانصياع فالمجتمع لم يؤسس بعد ولا ضير من الاختلاف (تحت مظلة الانقسام العمودي) حول "الدولة" أو "شكل الحكم أو السلطة" وهو نفسه ما تريده الأكثرية ذات الثقافة (التدبيبية) التي احتقرت النهضويين وأدانتهم و...، وكذا التنيريون، والآن المثقفون الذين وضعوا الوعي هدفاً لهم.... ولكن الوعي بماذا؟؟ وهو السؤال الذي دوّخ هذه التجمعات البشرية، وبدأت الأولويات بالظهور، في تناقضات كوميدية ذات نتائج استراتيجية واضحة وفاضحة، فالإصلاح الزراعي وكمثال سوف يفتت الأرض الزراعية بالواراثة وبعد جيل واحد، وسوف تبدأ الهجرة من الريف الى المدينة نتيجة إنصاف الفلاح وإهماله، وسوف تتراكم العشوائيات السكنية في فوضى إنسانية عارمة يقف التعليم البائس فيها في المركز، حيث يعود هو نفسه الى العثمنة من حيث تأمين موظفين للإدارات، في تناقض فظيع بين ما هو كائن وما بين ما سوف يكون من جهة وبين ما يجب أن يكون من جهة أخرى، وهنا وداخل هذا التناقض وجد المثقفون المنقسمون عمودياً أرضهم التي أقاموا عليها صرحهم الثقافي المتين ولكن الذي لا يضرّ، مما أدى بمصطلح الأمية الى التمدد والسيطرة على جموع مالكي المعلومات من المتحسرين على الماضي ومن المحتفلين بالحاضر، ومن المجروحين في قلبهم (في قلبهم فقط ولا يملكون أدنى حيلة)، فالقضية واضحة وضوح الشمس وليس لإحد أن يغير في الواقع شيئا.
بعد انفضاض بقايا التنويريين وتحضير وتهيئة أصحاب الأقلام في مستهل الستينيات في القرن العشرين، بدأ عصر ترويض المثقفين مبكراً (وبالمصادفة البحتة!!!) مع عصر البترودولار الصحراوي (وهو مختلف عن البترودولار العادي) بدأ المثقفون ينشئون دروبهم الأكثر ربحية. مادام الأمر يحتاج إلى نهضويين واندثروا، ولم يبق من التنويريين إلا من هم في المنافي الاختيارية والإجبارية والقبور، فلما لا ينضوون تحت مظلة أحد الشقين العموديين العميقين بصورة حداثويين أو تراثويين مموهين، وما دام ليس للمثقف أكثر من استعراض معلوماته كمواقف من الحياة والكون والفن، تاركين للذكريات مهمة التلذذ بالزمن (الجميل) واستحضاره على أساس "ليس بالإمكان أحسن مما كان"، معتبرين أن الثورة العربية الكبرى هي بداية عصر (الوعي) من دون أن ينتبّهوا، لا لسايكس بيكو ولا لما أتى بعدها ولا (وهنا البيت القصيد) للصراع الحاد بين البترودولار الصحراوي، واللورانسية الثورية الناكثة بوعودها الهبلاء بالأساس، ولكن وبما أن رياح البترودولار قد هبّت منذ الخمسينيات وما قبلها على مثقفي الشرق الأوسط، فأين العيب بأن تهبّ على مثقفي السبعينيات من حكام ومحكومين، ومن مهاجرين وساكنين، من تراثويين ونهضويين، أين المشكلة في ذلك والمجتمع لم يؤسس بعد وهذا ينفي المسؤولية عن أي وجدان هش أو حتى متين، فالمعلومات التي يقدّمها حملة الأقلام صحيحة مئة بالمئة ولكن استخدامها مقنن مئة بالمئة، (تماماً مثل الشوربة نظيفة ولكن الصحن متسخ) فلا تعليم يمكنه وضع الحصان أمام العربة، ولا مصالح جمعية واضحة تدفع بأحد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وصورة الهجرة كمثال هنا توضح مدى البون الشاسع بين أبناء المجتمعات وأبناء التجمعات البشرية من خلال الأداء الاجتماعي، وهذا الفارق كان واضحاً بين العراق ويوغوسلافيا السابقة اللتين تعرضتا للاحتلال نفسه، حيث ظهر بعيد الاحتلالين تصرّف مختلف ومتباعد في كلا المجتمعين من حيث التخلف والتقدم، حيث أن كليهما تمظهر حقوقياً إن كان من خلال المجتمع أو من خلال التجمع البشري.
قبيل ما سُمّي "بالربيع العربي" بسنوات طويلة ظهر المثقفون بكثافة داعين الى الديمقراطية والحرية، والجزء الأساسي منها كان وللأسف، هو الدعوة الى الحق بـالتخلف واللامنطق واللاعقلانية والحق باختيار الفشل والحق بالخصوصيات القومية (قبل تحقيق المجتمع ومن ثم الوعي به) المدمرة، كل هذا تحت سمع وبصر المعرفة الإنسانية الهائلة، التي اختطت قوانين تنافسية يجب الولوج اليها بغض النظر عن الرأي بها أخلاقياً، وكانت أم المعارك التي "حضرت" لهذا الربيع هي معركة العولمة (طبعا وهي مناسبة لشتم العالمانية)، فالشرق أوسطيون خلقهم الله بخصوصية خاصة، صحيح أنه لا يمكن تعريفها (خجلا أو تمنعا أو امتناعا) إلا أنهم (نيقة عن الخليقة) لهم خصوصياتهم التي قد لا يتفهمها العالم، وعلى العالم أن يغير من نظرياته ومنجزاته كرمى لهم وإلا سوف يكون العالم عنصريا ولا ديمقراطيا ويخلط بين حرية التعبير والوقاحة وإيذاء الآخرين، خصوصا المهاجرين منهم الى أصقاع الأرض حبا وهياما بأوطانهم الأصلية... وإلخ.. تفرغ المثقفون لهجاء العولمة، حيث التحم المنشقون عمودياً على هذا الهدف، وبدأوا بمعزوفة طالت ربع قرن على الأقل، وطالت جميع وسائل توصيل المنتجات الثقافية (التدبيبية)، بتمويل بترودولاري سخي، الذي يوازيه تماماً ويحالفه ويدعمه الدولار الخيري الذي صنع إمبراطوريات مالية عابرة للقارات، ليصبح حلم إسترداد الأندلس واجب ثقافي على كل عضو في التجمعات البشرية الشرق أوسطية، أن يقوم بواجبه ودوره من أجل استرداد الأندلس كجزء من زمن جميل، وبدأ المثقفون الحديثون (عابد الجابري مثالاً) ينهلون من هذا العلم (البترو دولار الصحراوي الخيري) ،ويتبعون بوصلته من قريب ومن بعيد، في محاولة باهتة بل ومدلسة لرأب الصدع العمودي الذي ذكرناه، عبر الاحتواء من جهة، وعبر الترغيب والترهيب (فرج فودة مثالاً) من جهة أخرى، كحاملي أقلام و(أختام) متفرغين لتأسيس ثقافة تعد باحتمال تقبل التنوير خلال ثلاثة قرون آتية على الأقل ومن ثم نحلم بنهضة أساسها المجتمع!!! هكذا بدأت الحرب على العولمة، وهي بالطبع حرب وهمية جزافية لا طائل منها، فقد قولبها "التقدميون" على شكل استعمار، وقولبها التراثيون على شكل معركة عنصرية ضد الدين لا تفسير لها سوى الحقد والتكاره والغيرة والخ، وتعالت أصوات المقدامبن من النوعين شتماً ولعناً وتثريباً واكتشاف الوحشية والخ أو غزوات منهاتن ومدريد ولندن وأمثاله، ولكن العولمة نفسها في مكان آخر تماماً، ومستمرة في تعولمها لدرجة أنها لا تذب عنها هؤلاء، لأنها وببساطة موضوع آخر غير الذي فهمه التجمع البشري الشرق أوسطي (وكذلك العالمانية، والدولة، والأحزاب والخ)، فالعولمة هي محاولة لتوسيع الأسواق، أصبحت واقعاً اسمه التنافس، ولا يحق لغير المنتجين دخوله من هذا الباب، بل من باب الانصياع لشروط الاستهلاك... من هنا بدت العولمة مسألة معقدة لا يمكن فهمها، لأنها تحتاج الى مجتمع ومستحقاته (إنتاج) ليحق له الفهم ومن ثم المشاركة.
 
 
المــــرايا
الانسداد الثقافي 6
لا يعطي الكثيرون أهمية للثقافة بمعناها الاجتماعي، على اعتبار أن الثقافة هي مجموعة المعلومات التي يتحلى بها من يريد ما صنع تفهماً أشوه للنخبة (طبعاً يجب أن لا ننسى الخلط بين المنتجات الثقافية والثقافة المولدة للمجتمع أي الثقافة الحقوقية حصراً)، والذين اتخذوا شكل القبائل بدلاً من البحث عن مجتمع يتمثل الثقافة ومنتجاتها وأدواتها ومنجزاتها في طياته، ليصبح برمته نخبة مثقفة، في ضياع فوضوي عن المفاهيم والقبول بها عشوائياً كحالة عملانية لا مشاحة من الخضوع لها (أحزاب، سفارات، وزارات الخ)، لكنهم حقيقة تفرغوا لأسئلة وهمية، ومعارك متخيلة، ومواقع بعيدة عن المطلوب، وبدأوا في إنجاز صرحهم الثقافي الموهوم (منتجات ثقافية هامة)، محملين العمل في الإنتاج الثقافي على محمل الفعل الخيري، في ضياع واضح للبوصلة، ينصب أبناء الصدفة بصفة أبطال وقادة للرأي وذلك عبر التركيز واجترار وإعادة اجترار (يسمونها إعادة إنتاج) لما أسقطت فائدته بالتقادم، ما يعني عدم صلاحيته للوصل مع الحاضر (وهذه النقطة هي إحدى المعارك الوهمية الكبرى)، ومع ذلك يظل سيزيف صنماً مأثوراً لا يعطي العبرة لأحد، لأنه سيزيف الشرق أوسطي وهمي ومزيف، وصخرته لا تتحرك من مكانها، مع أن المشهد هنا يتعلق بواد، وليس بجبل، فما أنجزته وجربته البشرية موجود وواضح لأصحاب الإرادة، وليس المطلوب أكثر من المشاركة كي تتم الإضافة وتظهر الهوية، التي يصر الشرق أوسطيون، أنها موجودة قبلاً وسلفاً و(هذا وهم) وواجبة التبجيل والاحترام (وهذا مع معركته وهم أيضاً)، وعلى الإنجاز الإنساني أن يعقل ويتصرف بعدالة وإنصاف وتفهم (ورحمة) مع منجزاته هو والتي أنجزها لمجتمعاته هو وجربها هو ونجحت معه هو، ومع هذا فإن هذه الشعوب تطالبه بالصدق مع نفسه!!!، وبالإخلاص لها وتقديم مساعدة لهذه التجمعات البشرية المهمشة، مع أنها رافضة منجزه وغير مقتنعة به ولا تعمل على إنجازه، ولكنها تطلب (شمال جنوب وحواره مثالاً)!!!
لا نريد في هذا المقام أن بخس الجهد الثقافي والإبداعي ومنتجاته حقها، كما لا نريد اتهام المثقفين بالجبن فمع أنهم خائفون (نجيب محفوظ، فرج فودة، أمثلة) إلا أنهم ليسوا جبناء لا لشيء فقط لأن الجبن والشجاعة قيم مجتمعية تظهر في سياق الأداء الإنجازي للمجتمع، لقد قدم المثقفون جهداً كبيراً في سياق الإنتاجات الإبداعية، وفي كلا التيارين المنشقين عمودياً (ولا مجال هنا للمقارنة بين الإنجاز العالمي وإنجازاتهم) ولكنهم وكهيئة ثقافية احتاجوا الى دعم المجتمع أو على الأقل دعم هذه التجمعات البشرية، وهنا كانت كارثة الثقافة والمثقفين المتجاهلين لسؤال تأسيس (المجتمع) وكأنه موجود وهم يعملون داخله كأفراد (يمكننا مراجعة إحصائيات القراءة والنشر في العالم العربي)، ولكنه ليس موجوداً (فالملك عار)، ولا يستطيعون التأثير في هذه الجموع البشرية إلا من خلال تجاهل وتناسي الإنجاز الإبداعي العالمي، للدخول في التبسيطية الشعبوية التشخيصية، ومن هنا كان للشق التبسيطي ـ الممول بشدة ـ هذا النجاح الباهر في تشكيل أكثرية (ثقافية) قطعانية تناولت إقبالا (عنيفا طبعا) أو إحجاما (إحباطيا)، ورويداً حصل المثقفون على خطيئتهم القاتلة وباركوها عبر اعترافهم بالأكثرية وحقها بالخطأ أو وتحديدا القول حتى لو كانت الأكثرية على خطأ فهو الصواب مخرجين العقل من النوافذ، مخترعين معركة مكلفة ينشغلون بها "وإن كانت وهمية"، معركة نكايات وتخاصم قبلي على "العزة" و"الفخر" و"المنتجات المنحطة" (حرب لبنان الأهلية مثالاً)، مشوهين معنى الديمقراطية قافزين فوق (الحاجة الى مجتمع يستخدم الديمقراطية) فيه أكثرية بمعنى محدد وأقلية بالمعنى المحدد نفسه، تقومان بتفاعل بقصد الإنتاج، تحت شعارات مراعاة "الثقافات!!!" المحلية، والعادات والتقاليد والخصوصيات، قائلين ومستغلين (ما أفعل... إذا كانت أكثرية المجتمع هكذا، أوليسوا بشراً ويجب الخضوع لرأيهم حسب مدونة حقوق الإنسان؟؟!! وهكذا صار من الممكن الحساب العددي وقسره كي يكون ثقافيا، كل عشرة حدادين يساوون نجاراً "مثلا"، أو كل مئة غبي يساوون ذكياً واحداً وأيضاً مثلا، وهكذا يسقط من الحسبان كل النهضويين والتنيويرين ليعبث المثقفون برمال المجد (!!!!).
 ولعل الضحية الأولى لهذا التحول (بحكم التراكم الإعلامي)، كانت فلسطين، التي تغير معناها تماما، فمن مجتمع لا يكتمل ولا يحصل على خلاصه إلا بوجود كل أجزائه، بالمعنى التأسيسي للجماعة البشرية التي تنوي الإنتاج، إلى مجرد مكافأة ما ورائية، حيث كانت المقدسات جزءاً من المسألة فأصبحت بهمة المثقفين كل المسألة، ولا يمكن اعتبار هذا هجاء للمثقفين الشرق أوسطيين بقدر ما هو توصيف لحالة اليأس والحصار والازدواجية التي عاشوها لمدة قرن على الأقل، وكانت الحل أو المهرب من حال العثمنة واللورنسة والبرجينسكية، التي صبغت هذا القرن حسب الحاجة والمطلوب.
لم ينجح المثقفون الشرق أوسطيون بالإشارة الى حاجة "الأمة" الى مجتمع مؤسس لها، واعتقدوا أنهم يعيشون في مجتمع أو مجتمعات كتحصيل حاصل لهذا الحشد البشري، ينتقدون (نقداً بناء) بعض العثرات، وينتحبون لبعض الإساءات، ويهللون لبعض المكافآت والرشاوى، مخترعين سلماً من قش للارتقاء الشخصي أو الاجتماعي، ولم يصل نقدهم للكيانات السياسية الى أصل وجودها (وهو بالاصطلاح الخارجي على أية حال) بل توهّموا دائماً بأن السلطات دول!، والإدارات تنظيم اجتماعي ينظم حقوق الجماعات!، والتناقضات الدستورية العميقة هي حفاظ على هوية الأمة، وتصنم القوانين هو حل إسعافي للعقد الطارئة!، كما توهّموا أن أية مشكلة اجتماعية عضوية وكارثية هي عبارة عن مشاكل تحدث الارتقاء!، وكل هذا لم ينفع ولم يدفع بأية انطلاقة الى أي ارتقاء بل على العكس تماماً (ولم يلاحظ أحد ذلك!! إلا قليلاً من أجل كسر التعميم) فالدستور اللبناني صار مجرد طائف والفن المصري صار مجرد (محتشم أو خارج الإحتشام) (إعادة تمثال نهضة مصر من الأمور الشائكة جدا)، والإصلاح الديني صار مجرد (عودة الى الأصول)، وفلسطين صارت (أقصى وقيامة فقط)، والعراق مجرد (سنة وشيعة) والخ... والكل ينتج كتابة ومسرحاً وسينما وتلفزيوناً والخ على هذا الأساس، معتبرين أن ذلك معجزة وأنهم من الشعوب العبقرية، التي لا تدري أين هي ولا ما هي، ومع هذا تحصد الاعتراف والجوائز دون أن تؤثر فعليا أو إيجابيا في الجماعة البشرية المقيمة حولها، ذات الأكثرية الغالبة على أمرهم والمغلوبة على أمرها.
هل ما زلنا نتكلم عن انسداد ثقافي؟ الواضح هنا أننا نتكلم عن انسدادات ثقافية متراكمة ومتوحشة وانفجارها فرادى أو مجموعات لا يعني بتاتاً التخلص منها، فالمسألة بحاجة الى أدوات، وقد ضيع الشرق أوسطيون (بالأحرى لم يوافقوا بالأكثرية) لا على الأدوات ولا على استخدامها، وحشروا أنفسهم في قبور الماضي عبر إرهاصات عملية تطبيقية زادت من (عصة) القبر عليهم، وهذه الإرهاصات هي مجموعات الفشل الحيوي الذي تمظهر بصيغ تربوية غير قابلة للحل أو التطويع، حيث أصبح سلم الارتقاء نازلاً، فالجموع (الأكثرية) لا تفرق بين الاتجاهات، فكيف إذا كان الاتجاه نزولاً هو اتجاه إجباري بحكم الإمكانيات المتوفرة والحل الوحيد هو الثقافة الجديدة التي حلم بها النهضويون، ورتب لها التنويريون، وتعثر بها مجموع المثقفين المحدثين الذين أنتجوا وباركوا الانسداد الثقافي بكل معانيه الحيوية.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net