Tahawolat

التنوير هو استبدال إجباري للحراك الذي وضع غايته النهضة في زمن لم يكن هناك من عيب أو اثم من العمل لها، لكن هذا العمل تحوّل الى حراك تحضيري لحراك نهضة قادمة او مؤجلة او محلوم بها او استراتيجية بالمعنى الشرق الأوسطي للاستراتيجية (المؤجل من الاشياء)، فظهر عصر التنوير الذي يمكن اعتباره جزءاً (او شقفة) منها وسابقاً لها وكان هناك ثمة خطأ حصل بسبب التفكير بالنهضة مباشرة دون التحضير الاجتماعي لها، وكانت غايته (أي التنوير) التبشير بالخطة الكونية لإنتاج المجتمعات، لان التنوير ذاته لا يعيش ولا يفعل الا في مجتمع.. الذي يستطيع استقبال المفاهيم المعرفية وممارستها، وهنا بدت الطامة الكبرى، ليس عند قوى التخلف فحسب بل في البنية الثقافية لأصحاب التنوير ذاتهم، حيث تنازعوا على قيم التنوير نفسها، وافتعلوا بها تنجيراً وتاويلاً وتصليحاً وتضبيطاً، منهم تحت شعارات التكتيك وتخفيف الصدمات، وهو مشروع طويل المدى وغير واعد، ومنهم من كان فكرهم في عمقه فكراً معاكساً للتنوير، ولكنه يريد نهضة (كي يساوي البلاد الناهضة ويهزمها) يكون ممرها الإجباري هو التنوير فمارسه ظاهرياً من جهة، ولم يقبل التنوير ككتلة واحدة لا تكنولوجياً ولا قيمياً من جهة اخرى، حيث بدت العملية برمتها وكأنها اعتداء على فكر تمامي يراد استبدال بعض القطع منه، وهكذا اعتذر طه حسين (مثلاً وكإنذار مبكر) عن كتابه "في الشعر الجاهلي"، معتبراً ان الأوان لم يحن للتفكير العلمي المحايد او ممارسة المعرفة كممر اجباري الى الحقيقة التي يمكن البناء عليها، وان الحقائق العلمية المؤقتة بطبيعتها لا تتناسب مع الثقافة التمامية للحشود البشرية وصناع رأيها، ولكنها وفي يوم من الايام سوف تكتشف (وتتعلم)، وهذا ما حصل مع تلك الحشود البشرية الشرق اوسطية اذ اكتشفت وعلمت، ولكنها لم تعرف، أي أنها لم تمارس العلم، لأن هذا العلم وببساطة غير مندرج في طبقات الثقافة التمامية، اذ هو خارج حدود تفكير هذه الثقافة التي سوف تخضع خضوعاً استسلامياً واستهلاكياً لمنتجات المعرفة المشخّصة، معرضة عن منجزاتها المجردة التي هي جزء لا يتجزأ منها وبالضرورة ـ السيارة وقانون المرور مثالاً تبسيطياً) ما يقسم العلم والمعرفة ومنتجاتهما الى فسطاطين، واحد موافق عليه ومحمود ويقبل به كمواد استهلاكية قابلة للتداول العياني الملموس، وآخر مُعرَض عنه في احسن الاحوال ومذموم ومؤثم في الاحوال العادية، في انقسام فاحش للقيم نفسها يؤدي الى تعاكس مصلحي لا يعطي للتفاعل (الديالكتيك) اية فرصة للعمل، وهكذا مر عصر التنوير منتظراً انفجار المجتمعات المتقدمة وانمحاقها أكثر منه منذراً وحتى مهدداً بالوقوع في الهزيمة والفناء اذا لم نمارس المعرفة بكليتها القيمية والعيانية في تغيراتها الارتقائية التي يجب الا تتوقف.
في مستهل القرن العشرين، وعلى الرغم من النجاح في التخلص من العثمنة بمعناها الكولنيالي، الا ان العثمنة بالمعنى المعرفي لما تزل مستمرة في ثنايا وحشايا وفي اعماق بنيتها التفكيرية (التي تخلصت منها تركيا نفسها)، مع تغيير حاسم في النصف الثاني من ذاك القرن وهو تغير الممول، الذي يمكن اعتباره احد منتجات مؤتمر يالطا، حيث بدت المسألة هنا ليست مشكلة مع العلم الصافي الذي يمكن استرداده كسلعة بل مع المعرفة نفسها أي ما يمكن تسميته مرحلة ما بعد العلم، فالعلم في البنية الثقافية العثمانية هو تأمين موظفين للدولة العلية فقط، دون البحث (لا بل قمع) تأثيراته الارتقائية، وهي سنة سارت عليها هذه التجمعات البشرية التي ارتضت ودافعت عن استهلاك العلم كسلع مستوردة ورفضت كافة تاثيراته الجانبية، وهذا ما خضع له التنوير تحديداً الذي أنتج تنويريين اما شهداء او مواربين يلعبون بالبيضة والحجر والذين قامروا (تحت ذريعة حرية التجريب) بالنهضة ذاتها على اساس انها شأن مؤجل (استراتيجي) يأتي بعد تنوير الاغلبية الساحقة ومن بعده يتم التغيير "المناسب" لقيام نهضة تقبل بها الاغلبية، وهكذا تحولت الاغلبية الى شرط من شروط النهضة حتى ولو كانت هذ الاغلبية ليست على عقل او معرفة او مجتمع، وأصبح تنويريو هذا النوع تحت سلطة الاغلبية هذه ورويداً بدأوا بالخضوع لها، مفترقين تماماً وعدائياً عن فكرة النهضة التي تقتضي بتغيير الواقع وعلى الاقل، واصبح شعارهم اذا كانت الاغلبية تريد ذلك فلم لا او هذا هو الحق ديموقراطيا اولسنا نريد الديمقراطية؟!
وقع التنوير في فخ (الأكثرية)، وهو الامر الواهي الذي وقعت فيه أغلبية التجمعات البشرية الشرق او سطية منذ العام 1952 (ثورة يولية)، صحيح ان كل العسكريتاريا التي تناوشت السلطة منذ 1949 (انقلاب حسني الزعيم) تنتمي الى الطبقة المتعلمة/ المثقفة، لكنها كانت (ولما تزل) تنتمي إلى العثمنة المعرفية، حيث استطاعت عبر (قيادتها!!) للرأي فبركة أغلبية ظاهرية، تتضمن اتفاقاً ضمنياً على العثمنة المعرفية شرط تغيير المموّل الذي تبدل من الدولة العلية الى البترودولار الصحراوي، وهكذا تحول التنوير بمعناه النهضوي الى تنوير مشروط، ولعل شعارات المرحلة تشير الى ذلك بوضوح في عودة براغماتية الى تنويريي الـ"بين بين" كمرجع للثقافة، فاصبحت (وكلها امثلة) الديمقراطية "شعبية" و"الحرية" العاقلة اخلاقياً والتعبير "كلمة طيبة"، والعدالة الاجتماعية "اشتراكية" وحرية الاعتقاد "مكفولة" الخ، كل ذلك تحت سمع وبصر التنويريين عدا قلة قليلة من الذين لم يستشهدوا بعد والتي رأت في اوروبا واميركا ملاذاً لها، ومع هذا لم تسلم من محاولات الترويض فاذا لم تنجح فالتأثيم، واذا لم ينجح فالتكفير او الخيانة العظمى ومن ثم القتل المادي او المعنوي.
كانت محاولة التنويريين هو إثبات ضرورة وجود مجتمع بالمعنى الحديث للكلمة بغض النظر عن توصيف الدولة المنبثقة عنه (عسكرية كانت ام مدنية ام دينية راسمالية ام اشتراكية)، المهم أن تكون حديثة ومرتقية ومنبثقة من مجتمع يحمل في ثقافته الشروط الحديثة للوجود في الكرة الأرضية فقط وبالذات، كشروط ترقى الى مستوى الضرورة، بمعنى ان المجتمع الذي تنبثق عنه دولة يجب ان يصنع صناعة بالتربية والتربية الحقوقية تحديداً التي تستطيع أن تغير في لوائح القيم كي تستجيب او كي تستطيع الاستجابة لضرورات البقاء، قبل أن تتغير شروط البقاء ذاته (والتي نتلمسها فيما بعد أي الآن ولكن كما تلمسنا سايكس بيكو ويالطا سابقاً)، ولكن السؤال هل استطاع الشرق اوسطيون من نهضويين وتنويريين وشعوب، توليد مجتمعات مكتملة ومتمايزة وذات هيئة واضحة وتستطيع اقامة دولة حديثة؟، ربما الجواب واضح في سجل الهزائم الحضارية والانتكاسات المعرفية التي تنفضح بين الفينة والاخرى كفشل كلوي يساعد الغسيل الكلوي كسلعة حديثة مقدور على ثمنها بالهروب الى الامام، هذا الهروب الذي يدمر البنية الثقافية (المجربة والناجحة في مختلف اصقاع الارض) التي تقضي بوجود مجتمع بالضرورة كي تطبق وتمارس فيه كل منجزات البشرية الحضارية كشرط اساسي من شروط البقاء. لتصبح جميع المنجزات التكنولوجية (المجردة والمشخصة) عبارة عن ممارسات معرفية داخل المجتمع ومن خصوصياته ومميزاته التي تشهر هويته، حيث لم تعد الهوية عبارة عن وراثة بالاسالة، وانما تعريف المجتمع أمام الآخرين بحيويته وإنتاجه، وعلى هذا تحاسب النهضة اذا كانت قد حصلت ام انها لم تحصل!!

==============================================

 
بعد اختصار حلم النهضة الى حلم التنوير في مستهل القرن العشرين الآفل، وهو قرن مؤسس للنهوض، ومن استفاد منه استفاد ومن لم يفعل (راحت عليه).. لان مجافاة التأسيس حتى ولو بالتنوير هو فقدان للحقائق الصلبة التي يمكن تأسيس نهضة عليها، خصوصاً في وضع تكاثرت فيه الاختصاصات وتفرعاتها وانجازاتها، كما ان الزمن الفاصل بين الناهضين والقاعدين لم يعد محل مواربة وتذرع وتسويف، ليصبح السؤال التنويري في القرن الواحد والعشرين هو: هل أسستم لنهضة او لوجود فاعل في مستهل الزمن المنصرم؟ وهنا لا يمكن ادخال جلد الذات في المنظومة التفكيرية ولا حتى في البنية الثقافية المفوتة هذه، فرؤية المرض وتسميته اولاً ليس اهانة لاي مريض، فالواقع هو الواقع، وقد تنهار الامم الناهضة كلها او بعضها لسبب خارج عن الارادة ليصبح الجميع متساوين (مثلاً) ولكن هذا ليس نصراً لنهضة او نهضة بحد ذاته وهو أحد التوقعات (التراثوية) (خصوصاً بسبب الامراض الجنسية او الاجتماعية الناتجة عن التحرر الجنسي)، وجلد الذات هي احدى التهم التي يطارد بسببها التنويريون على شتى مشاربهم ومآربهم.
وصورة شتى مشاربهم ومآربهم، تبدو واضحة في مثال العلمانية، البعبع الذي واجه الجميع من تنويريين وتعتيميين، من دون الانتباه الى شرطيتها او معرفتها، حيث تم التعامل معها كمعتقد (ربما بسبب ضيق لغة التعبير) وليس كأداة (تكنولوجيا)، وحتى يومنا هذا يتم الهجوم عليها كمعتقد، ويتم الدفاع عنها كمعتقد، صحيح ان هذه العملية تضعف المعتقدات نفسها وتفرغ من تحتها الاساس المنطقي لوجودها، ولكنها ايضا فرملت العلمانية كأداة في معركة وهمية لم تنته انشغل بها الجميع عن النهضة وعن التنوير فيما بعد، فأنتجت هذه المعركة الوهمية بنى ثقافية مجتمعية ذات تطبيقات (سياسة ـ اقتصاد ـ منتجات ثقافية ـ اخلاق ـ سياحة  الخ) مساوية لها، وكأن العلمانية ممارسة شعائرية لمعتقد مخالف بينما هي في الحقيقة مجرد اداة ووسيلة، لينبثق سؤال مؤسس جديد قديم (وجلد ذات ايضاً!!!)، هل تريد نهضة؟
.....اذاً... عليك باستخدام العلمانية. كي تستطيع معايرة وقبول وممارسة المفاهيم، التي هي معرفة لتوليد مجتمع حديث واضح المعالم تنبثق عنه دولة واضحة الثقافة الحقوقية، تستطيع إفراز منتجات معايرة تعبر عن الهوية وقادرة على تنافس البقاء بالمعيار الموجود للكلمة، لتتحول العلمانية الى ضرورة وشرط مؤسس للوجود المجتمعي بغض النظر عن رأي الاغلبية والاقلية، لان استخدامها كأداة يقصد منه تجنيد الامكانيات في مهمة الانتاج، وخارج الانتاج لا توجد مجتمعات او دول (الا بالاصطلاح) في المعايير الحديثة، وهذا تحديداً الذي لم يتم الانتباه له ممارساتياً فــ (دول) سايكس بيكو موجودة بالاصطلاح الخارجي، ولم توجد قط بالاحتدام الداخلي او بالاسالة من الماضي الى الحاضر، لأنها وباختصار بحاجة الى اداة معروفة للجميع (خصوصا اليابان وماليزيا وتركيا كأمثلة) وهي العلمانية، التي ما زال الكثيرون (ومنهم تنويريون) ينسبونها الى العلم، وليس الى العالم كما هي في المصطلح المترجم. ما يعني بوضوح أن... لا علمانية (عالمانية ايضاً) يعني لا نهضة ولا تنوير بل انتكاس في مسيرة معاكسة نحو التخلف العميق بالمعيار المعاصر، وعدم استخدام العلمانية يستوجب البدء من اختراع الدولاب والنار الطنجرة، وبناء حضارة جديدة تستغني عن كل ما أنجزته البشرية، ولكن في المقابل على الشرق اوسطيين احتمال (غلاظة) الامم الناهضة واستغلالها لا بل حروبها وتحكمها بمصادر القوت، حيث يتحول غزو الفضاء (مثلا) وهو انتاج مجتمعي، الى مصدر للربح والرزق، ويبقى للاعلمانيين النقيق والشكوى من ظلم استعمار ما بعد الحداثة، عديم الاخلاق بالمعيار التراثوي. ليتحول النضال من اجل النهضة الى توسل ورجاء موجه الى الامم الناهضة ان تنتظرنا شرط ان تغير هي من اخلاقياتها.
لم ينظر الكثير من التنويريين (باستثناء الشهداء والمهجرين و"جالدي الذات" الخ ) الى القيم الكونية الجديدة بوضعها الحالي او اثناء تطورها، كقيم عمومية للبشر على سطح الكرة الارضية، ولم يتحسسوا مقارباتها "المشروطة بالانتاج" للحق والخير والجمال، حيث اعلن هؤلاء وبشكل نهائي عن قدسية المعلومات خالطين وبسبب العقلية اللغوية (من لغة ومن لغو ايضا) بين المعلومات والثقافة والمعرفة والعلم والابحاث والتجارب، بحيث لا يدري السامع ـ تنويرياً كان ام عادياً (سابلة) ـ ما الفارق بينها، كما انه لا يدري الفارق في القيمة والحاجة، بين كلام ثقافي عن الاواني في العصر الفاطمي، وبين كلام عن الدستور وفصل السلطات في العصر الحديث ، فكله في النهاية علم ومعرفة وثقافة ومعلومات، وهنا وليس على سبيل المثال نشأت كل المعارك الثقافية الوهمية، التي تقطع الطريق عن اي نهضة او تنوير خصوصاً مع مجيء العسكر الى السلطة كنسخة عن المثقف في العصر العثماني الذي يسدّد حاجة الدولة الى الموظفين متمثلا عقلية وثقافة التجمعات البشرية التي اصطلحت عليها سايكس بيكو ويالطا وغيرها بناء على ارشادات اللورانسية الفكرية التي خرجت منها فكرة العروبة كحل وسط بين الرابط الديني والرابط المصلحي الاجتماعي، يتناسب مع عصر القوميات بطريقة توفيقية وتلفيقية، هذا العصر الذي أفل دون تحقيق إي إنجاز قومي (سوى صياغة الشعارات والفخر بها) عليه القيمة، وهكذا خسرت الشعوب الشرق اوسطية كافة الحروب الاستراتيجية التي واجهتها داخليا وخارجية انطلاقا من حلم النهضة الاستراتيجي التحرر والتنمية.. وذلك بعد انتهاء العصر الناصري (الاول) التجريبي، ليبدأ زمن الهدر والافناء الاجتماعي كثقافة مجتمعية فاعلة سلباً في التأسيس الاجتماعي، تنتج ما يضرها جهلاً او نكاية في العالم المتحضر الذي اصبح اسمه غرباً.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net