Tahawolat

  في اوائل ربيع العام 1972، وبينما كنت أتناول طعام الغداء مع زملاء لي في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي – مركز الدورة، في مطعم الـ"تورينو"، في جديدة المتن، الذي كان يقدم أشهى أطباق الدجاج حينذاك، دخل شخص كان قد مضت أكثر من ثماني سنوات على عدم رؤيته له، او معرفة مكان وجوده. إنه الصديق العزيز ميشال عازار، زميلي في مدرسة برمانا العالية الغالية. بعد التحية والتقبيل والاطمئنان عن أخباره، سألته متعجّباً: من يكون هذا اللبناني القادم من أفريقيا الذي هو مرشّح عن مقعد ماروني في الانتخابات النيابية في دائرة المتن الشمالي، يُدعى منصور عازار، ويقيم ولائم كبيرة في مطاعم كثيرة؟ هل سيقترع له هؤلاء بعد أن تفرغ أمعاؤهم في اليوم التالي؟ فأجابني بكل هدوء وتهذيب ومحبة، كما عهدته ايام المدرسة: إنّه والدي. أحسست بالذنب، لأن نبرة سؤالي تضمنت بعض الغموض، وأجبته: طالما أنه والدك، وانت تربيت على يديه، فإنني أتشرف ان نعمل سوية في حملته الانتخابية.  تودّعنا بعد أن تواعدنا على اللقاء تلك الليلة في منزل الاهل في بلدة بيت الشعّار. أودّ الاشارة في البدء أنني لم أتشرّف لاحقاً، بحضور أية وليمة من ولائم الحملة الانتخابية، أو ان أكون "مفتاحاً انتخابياً"، كما هو حال معظم المقرّبين من المرشّحين أو من أحد أقربائهم. كانت علاقتي مع العزيز الدائم، ميشال منصور عازار علاقة الأخ مع أخيه. في لقائي الاول مع الاستاذ منصور عازار في منزله، ومع حضور لفيف نخبوي من المتضامنين معه، تعرّفت إلى الانسان الواثق من ضرورة دوره القيادي الهادف الى نقل الدور السياسي السائد في لبنان من الاقطاع الى الشعب، ومن الامتيازات الى الانجازات، ومن القول الى الفعل، ومحاربة ادوات الفتن الطائفية، والدعوة الى الفكر المدرحي، حيث يتماهى الفعل المادي مع سموّ روحية الانسان وقيمتها الوجودية. تعرّفت إلى الصناعي العالم في حرفته، وكيف أنّه يطمح الى نشر المصانع والمشاغل في كل المناطق، لإيجاد انسان منتج ومستقل، لا يكون بحاجة الى رضى مفسد في الارض. وان تترسّخ جذور الناس عميقا في هذا الوطن، الذي يهجره أهله على مدى الازمان من أجل توفير لقمة عيش مغمّسة بالشوق الى الاهل والابناء، وبمعاناة لامتناهية من الغربة وقسوة الحياة. لم نألُ جهدا، انا والاخ ميشال، طوال أكثر من شهرين، في تنسيق لقاءات مع زملاء الدراسة، ومع معارفهم الكرام الكثر، حيناً بحضور الاستاذ منصور عازار الذي كان يذكي مشاعر محاوريه بالحجة والإقناع والمنطق، وحيناً آخر مع ألاخ ميشال الذي له محبة واحترام عند كل زملاء الدراسة، وكذلك الذين تعرّفوا إليه في تلك اللقاءات العفوية. أذكر خطبة حماسية للاستاذ منصور في مركز حملته الانتخابية، في منطقة الراعي الصالح، في سن الفيل، عشيّة اليوم الانتخابي، حيث قال لحشد من المناصرين، إن فوزه سوف يتحقق، وسيكون "نجاح واكيم" المتن. لكن يبدو أنه سها عن باله أنّه ليس ناصرياً، ولا شبيه ابن الزعيم التاريخي جمال عبد الناصر، أو أن ناخبيه هم من أمثال "أبو العبد" و"أم العبد". بل إنه محبوب ومطلوب من كثيرين من أهل المتن، ولكن للأسف، ليس من "أهل بيته" الذين وقف الى جانبهم في أصعب أيام محنتهم، وخاصة العام 1961 المشؤوم، وضحّى بالغالي والنفيس من أجلهم، ولا يزال، وهو الآن في سن التسعين – أعطاه الله طول العمر والصحة. كانت النتيجة مشرّفة حقاً، وقد تجاوز عدد ناخبيه الستة آلاف شخص، معظمهم لم يحضر ولائم المطاعم. انتهت الانتخابات ولم يشكُ أحد ممن شاركوا في هذه الحملة ألانتخابية من أي تقصير أو استغلال، بل كانت تجربة وطنية رائعة، في خضم صراعات اقليمية وتسابق طائفي، أدى بعد عامين الى حرب أهلية طويلة قذرة وبغيضة، ما زال أمراؤها يتحكمون بمن بقي على قيد حياة ذليلة ومقيتة. بعد عامين على تلك الانتخابات، طرق  باب منزل الاهل في نابيه، رسول قال على عجل: ميشال منصور عازار يطلب من سعد نسيب عطاالله أن يأتي الى نيجيريا ويعمل معه، ويريد منه الموافقة فوراً. راودني والاهل شعور بالتقدير والامتنان، ممزوجاً بالحيرة والتردد. طلبت من الرسول الكريم - ولا يزال كريماً عندي- أن يمهلني أسبوعاً حتى أدرس الأمر، وأحصل على إجازة بدون راتب من عملي. لاحقا، أعلمت الرسول برغبتي في السفر. وبعد أيام قليلة، ودّعت الاهل دون تقبيلهم، لأن تقبيلهم كان سيثنيني عن السفر، وهذا شعور ما زلت أحتاطه كلّما غادرتهم، حتى من اجل سياحة لفترة قصيرة. استغرقت الرحلة على متن طيران الشرق الاوسط، من مطار بيروت الى مطار لاغوس، قرابة ثماني ساعات، حسبتها رحلة اللاعودة. حطّت الطائرة حوالي منتصف الليل، وأوصلني السائق الى منزل الأستاذ منصور عازار، الذي كان لا يزال صاحياً لاستقبالي. حتى أن سفرة الطعام كانت ممدودة، رغم أن العشّي كان في اجازة اسبوعية. أحسست منذ اللحظة الاولى أنني بين أهلي، وألقى الرعاية التي كنت على ثقة كبيرة من وجودها، عند رجل كبير القلب، وغيور على الآخرين. منصور عازار ليس بحاجة الى مديح، لأن من يعرفه خبر خصاله الطيبة، ويكفيه شرفاً أنّه لم يتملّق يوماً لعباءة نفط، ولا عمل مع أمراء بيوت الحريم، بل أسس مملكة صناعية، تدعى"ميتالوبالستيكا"، امتدّت فروعها الى كل دول أفريقيا الغربية، ووفّرت لمواطني تلك البلدان السلع الضرورية والاساسية لحياتهم اليومية. ناهيك عن مملكة استيراد واعادة تصدير المواد الأوّلية لصناعة البلاستيك في كثير من دول العالم. خلال اقامتي الوجيزة في نيجيريا، تعرّفت إلى اسطورة الاغتراب اللبناني في أفريقيا، الصناعي والمفكّر والانسان الاستاذ منصور مخايل عازار. عشت معه ومع الأخ ميشال في بيت واحد، وشاهدت رجالات دولة نيجيريا الكبار يتوافدون اليه للاستشارة أكثر الاحيان، والتزاور احياناً اخرى. وفي احدى الليالي، حينما كنّت جالسا مع الاستاذ منصور، نترقّب وصول الأخ ميشال من رحلة عمل في اوروبا، طرحت عليه السؤال الآتي: أنت صاحب هذا المجد الصناعي والتجاري وحتى النفوذ الرسمي هنا في نيجيريا، هل بالامكان معرفة سبب ترشّحك على مقعد نيابي في لبنان؟ ارتسمت على وجهه ابتسامة يشوبها القلق وقال: نيجيريا ليست وطني، ولا المكان الذي ولدت فيه، أو سيتربى فيه أبنائي واحفادي. وتوقّف عن الكلام، ثمّ أكمل موجزاً: نحن أبناء الزعيم، ودمنا يجري ويدفق اقداماً ونضالاً من أجل سوريا، دولة في كيان موحّد، قويّ، ثابت، مستمر، وضّاء، واعد.
اربعة عقود مرّت على ما ذكرت, ولم تتوقف زياراتي الى الاب الصديق منصور عازار، الامين على علاقاته الطيبة مع كل من التقاه او عمل معه، الملتزم والناشط أبداً لزرع العنفوان والعزيمة والارادة القوية في نفوس الاجيال الجديدة من خلال اطلالات مقالاته الشهرية الذاخرة بالمعرفة والخبرة والرؤيا البعيدة، في مجلة "تحولات"، وصاحب منبر أدبي حر وعريض، لتكريم نخبة من المفكرين والمبدعين في مجالات الادب والفكر السياسي والفلسفة.
نابيه، 24 تشرين الثاني 2012


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net