Tahawolat
وألإنسداد  يا سادتي الكرام ليس مصطلحا علميا إجتماعيا أو ثقافيا مبرما ، فهو قد لا ( ينزل في ميزان أو قبان )، ولكننا مضطرون لنحته لتبيان الرؤية والرأي  ، ما يحصل  ـ وهو في الأصح  لما يزل يحصل ـ بين ظهرانينا،مع أن الإنسداد بطبيعته  يحصل مرة واحدة موقفا الجريان  الطبيعي  للإمور التي  تتراكم خلفه حتى إنفتاحه، فناء المجرى برمته ،ولكن الذي جرى ويجري في شرق أوسطنا الحبيب هذا هو قدرة إستثنائية  بين شعوب العالم على إختراع الإنسدادات وإجترارها ومراكمتها، حتى يبدو المنظر للمدقق العارف أنه عديم الحل، حتى في حالة المحاولة لفتح هذه الإنسدادات أولا بأول ، حيث يبقى الإنسداد الأول آخرا ، وهذا من الناحية النظرية في حال أستطاعت هذه  التجمعات البشرية رؤية هذه الإنسدادات والموافقة على تشخيصها كما هي دون تفاؤل أو تشاؤم ، وعقد النية  والهم بإزالتها ، ومن ثم  النظر الى الإمكانيات وتوظيفها ، وتحويلها إلى فعل عملي لا يعرف الإنحياز إلا للمصلحة، ومن هنا يبدو الإنسداد تعريفا، هو معرفة الهدف  ووجود النية ، ولكن لا وجود لهمة  من أجل معرفة الأساليب والأدوات التي توصل الى هذا الهدف، لهذا تتحول حياة هؤلاء الشرق أوسطيين الى لغو(من لغة*) يعرف العلة  لكنه يسلك طريقا آخر لإزالتها، وهو إجبار العلة على الإعتراف بأنها مخطئة  في حقه، وهي ليست علة حقيقية بل وراء الأكمة ما وراءها،ويقبع منتظرا أن تعترف العلة بنواياها الخبيثة والإعتذار عنها  صانعا في إنتظاره هذا عللا جديدة أسميناها إنسدادات.
منذ الحرب العالمية الأولى، بدت منطقة الشرق الأوسط  ( مصطلح الشرق الأوسط والأدنى لما يزل مصطلحا يشكل إنسدادا ثقافيا ما ) ، مهيأة  بطريقة أولية لتجاوز الإنسداد العثماني ، حيث عبرت النخبة التي يفترض أن تكون قائدة وصانعة للرأي حسب إمكانيات ذاك الزمن أي بدءاً من عام 1850 ، عبرت هذه النخبة عن خريطة الطريق التي تقود الى هدفين لا ثالث لها(ولما يزالان صالحين للتداول ) وهما التنمية والتحرر ، وكانت الحلول  النظرية العملية جاهزة في كتب فرنسيس مراش ، والكواكبي  ، وطاهر الجزائري ، والطهطاوي  وعلي عبد الرازق ، وسلامة  موسى و ابو خليل القباني  ورعيل كامل من هؤلاء ( ومثلهم في البلاد المغاربية ) ، وبدت تأثيراتهم الأولية على الشارع  الشرق اوسطي  ، في تغيير ثقافي شكلاني واعد تبدى في الإتساق مع المنجز التكنولوجي  العالمي ( المشخص منه والمجرد ) ، بحيث تأكد أن الثقافة بمعناها المجتمعي ، هي الأسلوب والأدوات اللازمة  لتوليد  المجتمع اللازم للقيام بنهضة توصل أعضاءه الى التنمية والتحرر ، كهدف واضح يحقق مصلحة هؤلاء الأعضاء ، ولكن وفجأة حصل إنسداد !!! من أين أتى ؟ ولماذا ؟  وكيف السبيل الى فتحه ؟.... لم يكن أحد معنيا بالأمر ، بل أنعكس الأمر  للبحث عن الأصالة والتأصيل ( بدلا عن الأصلي ، والإبداعي ) ، خوفا من التهجين ، طالما هناك ( سايكس بيكو ) والتي كشفها لنا الروس متأخرين  بعض الشيىء ، يمكنها تحمل وزر  الإنسداد القادم  ، كما لوعد بلفور ومؤتمر بال أن يساعدا في تخفيف أعباء مسؤولية الإنسداد .

كان هدف التخلص من العثمنة واضحاً الى حد بعيد في أذهان النخبة  ، ليس بسبب عصر القوميات فقط ، بل للتهافت التكنولوجي في البنية الثقافية للدولة العثمانية ، وهو أمر فككها برمتها ، لتستبدل بعد وهلة بالنموذج الأتاتوركي اللاحق بإخلاص بعصر القوميات  والقيم الثقافية  الأصلية ( وليس الأصيلة ) وأيضا (ليس البراغماتية الواهمة) كقيم العمل والإنتاج والإندماج الإجتماعي ، والتي تعيد صياغة  وصناعة المجتمع بمعناه الحديث ( أنذاك على الأقل ) ، كمنتوج معرفي إرادي وقصدي ، ولم يستطع الشرق أوسطيون إكتشاف أهمية الحدث " التركي " فيما بعد ،لكنهم ثربوه وأدانوه ، واقفين نظريا ،ـ ومتوقفين عمليا ـ  عند الحالة العثمانية كحالة أطلال من الأصالة " الثقافية " الوقوف عندها ، وهكذا ولد  مشروع التخلص من العثمنة  ميتاً سريريا ، فالبحث عن انموذج قومي  تحرري تنموي و( أصالي ) !!، حتى ولو تناقض مع مشروع النخبة ، وحتى لو أدى إلى إنسداد كانت نذره واضحة للنخبة أنذاك ولنا الآن ، كان ضرورة ملحة ، فالأصالة شرط أساسي ، والبحث في الأصالة ومن ثم الخصوصية ، يقتضي  جمع ما هو غير قومي  مع ماهو قومي ، وجمع ما هو غير تكنولوجي أو تكنولوجي بائد  مع ما هو تكنولوجي ، أو تكنولوجي  محدث ، كان المهمة الأصلية لهاتيك الثقافة الإجتماعية ، طالما كانت هناك إنكلترا بباحثيها ومستشرقيها  تستطيع تحمل الوزر، في حال كان هناك خطأ ما ، وفي حال أكتشفنا هذا الخطأ ، وفي حال أعترفنا به !!!، فالإستعمار ( ظهره شيال ) ويمكن تمسيح ( .... ) به ، حيث  احتمل فيما بعد كل الرزايا من وعد بلفور حتى غزو العراق (بما فيها ألأحتلالين السوفييتي والأمريكي لأفغانستان !!! )، في هذه المغامرةالثقافية  تمت محاولة إيجاد ( وليس صنع ) مجتمع يصلح لإعلانه أمة  تصلح بدورها لإقامة دولة ، إنها وصفة تكنولوجية واضحة وفعالة  (اعتمدها أتاتور ك ، وفيما بعد مهاتير محمد ونجحت  )، ولكن البوصلة الثقافية انحرفت مرة أخرى ، وفشلت في توليد مجتمع واضح يصلح للحياة  بالمعنى التحرري والتنموي ، وقادر على التفاعل مع الوصفة التكنولوجية  المحدثة أنذاك ، وأخترع لنفسه أولويات وهمية ، أوهمته بوجود طريقة أخرى  غير تلك المعمول بها في أصقاع الأرض لإشهار مجتمع قائم على المؤسسات الواقعية ، بل ذهبت به الى إشهار ثورة عربية ( كبرى) تؤمن العيش ( وليس الحياة ) لقرون طويلة  على أمل  إنتهائها وتحقق أهدافها ، لإنها تتطابق مع المعطى الثقافي لهذه التجمعات البشرية ، التي لم تستطع ورغم المحاولات الدامية ، من إنتاج دولتها المقامة  على مجتمعها  ألأصلي .
بعد قليل ، وحتى وصول قوات الإنتداب / الإستعمار / الإستثمار ، لم يكن الشرق أوسطيون  إلا لحوم نيئة بحاجة الى طبخ كي يستسيغها هؤلاء القادمون من وراء البحار ، وهنا صار الخلاف معهم والنضال ضدهم  حسب الثقافة المجتمعية الضاغطة ، على نوعية الطبخ وليس على إستخدام اللحم ، فهم أيضا يريدون أن يكون لهم حصة من الطعام المطبوخ من لحمهم ، وأصبح عندها  أية مطالبة للعودة الى تصحيح الخطأ الثقافي / الإجتماعي ، هو مساواة بين الضحية والجلاد ، في ممارسة  ثقافية غير منطقية  يحميها التراثويون  الذين بدأوا أنذاك يستسيغون نكهة الطبخ طالما الغرب سيحمل الوزر ، وبدأوا في الآن ذاته يقسمون بقطع أكفهم قبل أن تمتد لمصافحة هذا ألأجنبي الآبق ، ومع كل هذا نجح بلفور الوعد ، ونجحت سايكس بيكو الإستثمار ، والأخطر من هذا كله أجهضت  الخطوة الضرورية ( الأصلية ) للتحرر والتنمية ، لتحل محلها كيانات سايكس بيكو  وما يشبهها ، وحلم الأمة ( الأصيلة ) التي تستنسخ ذاتها ( الأصيلة ) تحت ظلال المنجز التكنولوجي المشخص  الذي عليهم شراؤه  ... بدماء القلوب ....
  -2- 
ماذا يعني  تتويج عصر النهضة بحضور  المثقف ( لورانس العرب ) في العشرية الثانية من الفرن العشرين ، ولورانس هذا سبقه كثيرون وتبعه كثيرون من الدارسين وواضعي الخطط والتصورات ، عنا في هذا الشرق الأوسط المترامي  بين محيط وخليج ، لم تفشل نصائحة وتوصياته التي قد لا نعرف عنها الكثير  ، ولم نستفد من القليل ، حيث  بدت الثقافة  هي المحور التي دارت به الدوائر ، فكل ما قدمه رواد عصر النهضة  ( حتى عام 1920  على الأقل ) تم تأجيله  ريثما تصحو الشعوب ، أو تم القضاء عليه رويدا أو بسرعة  ، ليثبت محله  ما أقترحه  المرتحلون الجائبون أرجاء جنوب المتوسط ، وصحت "توقعاتهم " و هي في الحقيقة دراسات وأبحاث لما تزل الإستفادة منها ومن تراكماتها خريطة طريق  معاكسة  تهدف الى الحفاظ على التخلف  ، الذي لا يوصل ، لا إلى مجتمع ،ولا إلى أمة، ولا إلى دولة ، ألقانيم المؤسسة للوجود البشري في العصور الحديثة  ، والدليل على ذلك كمية الهزائم الحضارية  التي تتعرض لها يوميا هذه التجمعات البشرية  ، التي لا تدعي  شرف الوصول الى المرحلة الإجتماعية  المسماة أمة ، كما أنها لاتريد الوصول الى ذلك  ولو على حساب الحقيقة ، والحقيقة معرفة وثقافة بالضرورة حتى ولو كانت متغيرة بمقتضى الإرتقاء .
ربما بطبيعتنا  ودائما نبحث عن متهم ... من الذي أوقف النهضة ؟؟؟  فطبيعة ( ثقافتنا ) عقلنا  التشخيصي يفرض  هكذا تساؤلات ، تودي بنا الى موارد بعيدة ، فنسارع إلى إتهام الإستعمار  ،  والذي يحتاج الى وعي كي  نقاومه ، والوعي  لا يمكن توفيره لإسباب موضوعية أهمها تعارضه مع قيمنا وتراثنا وخصوصيتنا ، لنفتتح صراعا داخليا وهميا حول الهوية ، متناسين تماما أن الهوية تأتي بالوعي ، فالهوية منتوج وليست مادة أولية أوشرط من شروط بناء مجتمع  ، فالمجتمع  والمجتمع فقط هو من يستطيع إعلان هويته ، عبر منتجاته الحضارية من صناعة وغلال وفكر ، وأضيف إليها هذه الأيام الرياضة والإتصالات والبرمجيات  وأقتصاديات المعرفة ، حيث لما يزل  هذا الشرق الأوسط يتأرجح  بين إعلان هوية  تاريخانية  وصلت إليه بالإسالة التناسلية ، وهي لا تصلح للمنافسة على أساس المعايير الأرضية ، فليس  شأنا كبيرا أن يكون هناك عنترة وحمورابي ، وهناك من يقطع المئة متر بتسع ثوان أو من يضع دستورا  حديثا لثلاثمئة مليون بني آدم !!! هذه الإنجازات  التاريخوية لا يمكن معايرتها حديثا كي تصبح من المقومات الأساسية للهوية  ، ومع هذا  أخذت معركة الهوية  الوهمية  جل وقت وأهتمام  وفعالية الناطقين بالعربية ، ولم يحصلوا عليها ، لا بل  قاوموها على الرغم من ( وعيهم ) ، ولا ننسى في هذا السياق كيف يدافع الجميع  عمليا عن سايكس بيكو في كل المناسبات ، وكيف يرضخ الجميع لتوصيات لورانس العرب ، ومع هذا  يتم شتمهم في إنتظار تبلور الهوية .
في روايته ( غابة الحق ) ( صدرت في النصف الثاني للقرن التاسع عشر ) أكد النهضوي  فرنسيس مراش  الحلبي . على أن الثقافة الواحدة  والموحدة لإنتاج مجتمع ومن ثم أمة  ودولة ، هي الثقافة الحقوقية ، التي لا مجال لتجاهلها أو تأجيلها  كعامل مؤسس لمطلبنا في الوجود ، ( وهذا ما أتبعه الكواكبي بطبائع الإستبداد على الأقل ) ، ومن العبث هنا البحث عن متهم  ، ( كأبو الهدى الصيادي مثلا ) لنحمله مسؤولية إنتكاس النهضة أو الدعوة إليها على الأقل ، فالمسألة  هي مسألة إختيار الإنقياد ، وهي مسألة عميقة وموضوع شائك لا يبدأ برفاعة الطهطاوي  ولا ينتهي عند أدونيس ، فظاهرة الإنقياد والتي  فشل في تفسيرها كثر من نمط ( محمد عابد الجابري ) في عصرنا هذا ( فكيف  في زمان لورنس العرب .؟) ظاهرة  مارست الإرتباك (الفوضى ) في تلافيف هذه التجمعات البشرية  التي خضعت أو ما خضعت للشفاهية في تعاملها  مع المنتج الثقافي  ، الذي يحافظ بشراسة عن التبسيطية الثقافية ، ملغيا بشكل لا عودة عنه  ما يمكن تسميته الثقة المعرفية  التي لا يمكن الإستغناء عنها إلا بالإستغناء عن النهضة  ذاتها ، حيث  حلت  المقترحات اللورانسية كبديل عملي  عن كل ما تعد به النهضة وأي نهضة ، حيث قادت هذه الشفاهية التنظيرية إلى  إخصاء ومن ثم عقم  ، العقل الذي لم يستطع التجريد وهو عطب  آخر لا يقل كارثية عن الشفاهية  ، فكل التكنولوجيات المؤسسة للأمة ( من أحزاب ، ومؤسسات ، وبرلمانات ، وحكومات ، ودول إلخ ) هي تكنولوجيات  مجردة ، لم يستطع العقل الشرق أوسطي تداولها ناهيك عن التفاعل معها ، حيث بدت الإستراتيجيات الثقافية كشأن مؤجل أكثر منها  كخطط إجتماعية يتم العمل بها  دون لمس النتائج  المشخصة فورا ، ألأمر الذي نجحت فيه  اللورانسية الثقافية  مع الثورة العربية الكبرى ، التي نجحت في تشخيص سايكس بيكو ( مثلا ) التي تعامل معها الغرب مجردة وإستراتيجية ، بينما لمسها الشرق أوسطيون  ناجزة شاخصة وفاعلة ، عندها هرب الفعل الموضوعي الإنجازي  الى غير رجعة ( لحد الآن ) وحل محله الفعل الخيري  الذي خاصم أدوات النهضة وسبلها  عبر عقل  نظر إلى النهضة  ككتلة مجزأة يختار هو ما يناسبه منها ويترك الباقي ، وهنا تبدت كارثة أخرى سوف تحل ( حلت ) بالنهضة ، حيث أختار هذا العقل  الخيري العنصرية سبيلا  لإنجاز نهضة  أدواتها وسبلها  بما يقتضي الفعل الخيري بمعناه التراثي وقضى  أكثر أوقات القرن العشرين  محاولا إثبات  وجهة النظر هذه بينما النهضة نفسها مؤجلة ، حيث يقبل  بفضله  الثقافي على عصور سابقة  ولكنه لا يرضى  بفضل الآخرين (عليه ) على أساس أن الحضارة  البشرية كل متكامل متراكم  تقدم الشعوب ما لديها من جديد دنيوي من أجل إستمرارها ، ولكن للنهضة شأناً آخر وقوانين أخرى  معلنة وواضحة وتحتاج الى الحيوية والتجربة  وليس إلى النقاش حول خيريتها وصلاحيتها لهذه الخيرية ، وهنا تبدى أن التخلص من العثمنة  كوجود ثقافي بائد باء بالفشل الذاتي  فالثقافة البائدة حافظت على تكوينها  ومحاكماتها العقلية  مغيرة عنوانيها لتصبح أكثر إستيعابا من قبل هذا العقل  نظرا لتبسيطيتها الشفوية ، وعدم مقدرتها على التجريد ، وعدم قدرتها على ممارسة الثقة المعرفية  وأخيرا عنصريتها  التي وضعت شروطا معجزة  على  حاجتها  الضرورية في توليد مجتمع بالمعنى المعرفي الحديث للكلمة ، وبالتاي فقدانها الأهلية لوجود أمة ودولة  بنفس المعنى .
هنا ومع بداية العشرية الثالثة من القرن العشرين ، سقطت النهضة وحلمها والتحضير لها أو التبشير بها  ، لتتحول أشلاؤها الى حركة التنوير ، التي نرى بقاياها الحزينة في بدايات القرن الواحد والعشرون .
يتبع

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net