Tahawolat
في كتابه "في المنهج: المعصوم والنّص" وهو كتاب عن عقل الإيمان، يتناول سماحة العلامة الشيخ حسين كوراني أسئلة الجدل بين العقل والدّين، مؤسساً إجاباته على قاعدة منطقية يرصدها في أعماق التمايزات الحادة الناجمة عن اختلاف مناهج التفكير والقراءة في تفسير الإنسان والواقع.
وعنده، تكاد تنحصر أزمة العقل الديني والعلماني في أزمة المنهج المعرفي، تأزماً يحرم الفقيه أحياناً من مقاربة روح النّص بفعل الخلل الكامن في أدوات تلك المقاربة، كما يحرم العلماني أحياناً من ملامسة روح الواقع بفعل الخلل المستشري في منطلقات تلك الملامسة، ثم سرعان ما يسقط الطرفان في منعرجات هذا الخلل لتنشأ فجوة عميقةبين نص أغلقته بعض القراءات الإسلامية عن الواقع فلم تكتشف حلقة الوصل بين نص الحق ونصوص الحقيقة.. وبين واقع أغلقته بعض الفلسفات العلمانية عن النّص السماوي فلم تهتد إلىحقائق الدّين وأثره الحيوي في معتركات السجال الدائر بين نظام المصالح ونظام القيم، في زمن يشهد أخطر عمليات التزوير للإنسان والدّين والحضارة.
ولا يسعك وأنت تقرأ هذا الكتاب إلاّ أن تقف مع طريقته في البحث على طريقة الإمام الغزالي في كتابه "المنقذ من الضلال" لترى شبهاً شديداً في منطق اللغة الدّينية التي تنطلق من داخل النّص ذاته لتغذي العقل بحقائق لا تحتمل الشكّ فتأتي مرجعية العقل مطابقة لمرجعية النّص لأنهما ينهلان معاً من نفس أدلة الإثبات.
وكما ذهب الإمام الغزالي بعيداً في كتابه محل النظر لبلورة مفهوم أدلةالإثبات في ضوء منهجه من اليقين إلى اليقين، فإنّ الشيخ كوراني يذهب بعيداً في بحوث كتابه على ضوء منهجه من النّص إلى النّص، بوصفه الركن الأساس للإجابة الموضوعية عن سؤال الدّين والوجود والإنسان.
ولقد برع الشيخ الكاتب في توليد النتائج التي تترتب على مبدأ الاعتماد على إضاءة النّص من الداخل قبل إضاءته على أرض الواقع، مستلهماً من ثقافته الإمامية ذلك الترابط الوثيق بين المعصوم والنّص، لينهج من وراء ذلك نهج الإمامة في القراءة والتطبيق، دون أن يلغي هوامش الزمن المتحرك الذي يسمح لمزيد من تعدد الرؤى والأفهام التي لا تمس جوهر الاستقامة على نهج النبي(ص) أو الإمام.
وحقيقة الإسلام في جوهر معناه هي التسليم لإرادة الله تسليماً واعياً لخيارات الحرية المتصلة بمنطقة العقل والنظر والتفكير. فلا سلطة للنّص على العقل، إلا أن يستجيب العقل بكامل حريته لإبرام عقد الإيمان بالنّص إيماناً بكل مايترتب عليه من حقوق وواجبات. غير أنّ مشكلات المؤمن مع النّص تبدأ من تفصيلات الاختلاف على قراءته وتفسيره وتأويله. وهنا، يصبح الحديث عن المنهج ضرورة عقلية وإيمانية لحسم ظاهرة الفوضى المذهبية والفوضى الاجتهادية. يتمّ ذلك بالوقوف على معيارية المنهج في ضبط علاقة المسلم بدينه، وهكذا يتقدم علم المنهج على سائر العلوم.وبذلك نرى الشيخ في مقدمة كتابه محذّراً من إهمال هذا العلم بقوله:
"لقد أدى التخبط في المنهج، ومنه اعتماده في مجالات دون غيرها، إلى تكوّن اتجاهات ومشارب متباينة هشة البنية سريعة الاستجابة للتطويع، مما جعلنا في المدى المعرفي أمام واجب جهادي فكري لا ترقى إليه كل أعباء الواجب الجهادي السياسي والعسكري، لإعادة توحيد العالم الإسلامي... إنّه واجب يتداخل مع جهاد النفس وسلامة بنيتها، لذلك كان طبيعياً أن تلامس قداسته قداسة الجهاد الأكبر وتتشابك معها، بل أن تكونها".
كذلك ينتصر الشيخ كوراني للمنهج العقلي بوصفه المصدر الأساس للإيمان بالغيب الذي يمثل جوهر العقيدة الدينية، مستفيداً من أستاذه الشهيد السيد محمد باقر رحمه الله وكتبه الفلسفية. فإذا قادك المنهج التجريبي إلى الاعتراف بوجود "النّص الإلهي" مقروءاً ومسموعاً، رأيت المنهج العقليي أخذ بيديك إلى الإيمان بحقيقته الموصولة بالغيب الذي يكاشفك بجوهر معناه في كل قصد وتدبير ونظام تراه محسوساً وملموساً في الكون والكائنات. وبوسع المؤمن بالله سبحانه أن يحتكم مع غير المؤمن إلى عالم المشاهدة، ليغدو البحث عن فلسفة الحكمة عمّا وراء المادة المنظورة سؤالاً مشروعاً عن معنى الوجود الذي ينبض في داخلنا ومن حولنا بروح الحياة.
من هنا، كان لا بدّ من إقرار أنْ لا معنى للحديث عن الفكر بدون العقل الذي يضمن سلامة التفكير، عبر انتقال الفكر من المعلوم إلى المجهول، أو من المجهول إلى المعلوم. وبذلك يصبح مفهوم الاعتقاد بأصول الدّين مرادفاً لمفهوم الإدراك العقلي لحقيقة الإيمان، والسؤال هل تتوقف مهمات المنهج العقلي عند بلوغ الغاية من اكتشاف معنىالغيب ليصبح التسليم بنصوصه ومرجعياته تسليم طاعة لا مكان فيها لقواعد العقل وطرائقه!؟
بصدد الإجابة عن هذا السؤال، يرى الشيخ الكاتب بأنّ العقل والنبوة، بل والعصمة، وجهان لحقيقة واحدة هي الحجة والدليل والبرهان، حيث الدعوة في رسالة الأنبياء قائمة على تخليص العقل البشري من أسْر الهوى وتحريره من أغلال التقاليد الموروثة عن الآباء والأجداد. وبلغة الإمام علي(ر)، فإنّ الهدف من بعثة الأنبياء هو استنهاض العقل وتنوير دفائنه فيما يظهر منقوله(ر): "فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسين عمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول..".
وضمن هذه اللفتة المضيئة فإنّ "المعصوم" ليس مجرد حارس أو أمين على خزائن العقل، بل هو المجسد الإنساني لتجليات المنهج العقلي وتعبيراته وشواهده حاضراً وغائباً. وبحسب هذا التلازم بين العقل والمعصوم، فلا مسافة بين منطق الوحي ومنطق الرسول المؤتمن على إخراج الناس من الظلمات إلىالنور، فيما نستوحيه من مزاوجة القرآن الكريم بين مصطلح البرهان ومصطلح النور: "يَاأَيُّهَاالنَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً" (النساء: 174).
وإذن، فالمنهج العقلي يزهر أبداً في العقيدة والشريعة معاً. وتلك إضاءة يسرجها الشيخ كوراني بكلام صدر المتألّهين عن المطابقة بين الشرع والعقل إذ: "حاشا للشريعة الحقّة أن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية". وما من شكّ في أنّ الحديث عن الفطرة في الثقافة الإسلامية هو حديث عن مرجعية المنهج العقلي: "فمن تعوّد أن يصدق من غير دليل فقد انسلخ عن النصرة الإنسانية" على حد تعبير ابن سينا في إشاراته لعلم المنهج.
وعلى هذا الوعي، سنقف على التأسيس الفلسفي لمفهوم حرية الفكر وحرية المعتقد حرية مسؤولة لا تجافي ضرورة الاعتماد على منهج المعصوم للاستنارة بخبراته العقلية والمعرفية.
ولقد كان الشيخ كوراني موفقاً غاية التوفيق بالإشارة إلى أنّ مناط العصمة في شخصية المعصوم هو استضاءتها بمصباح العقل، بل هي العقل الذي يرى في عصمة سلوك المعصوم مرآة لعصمة منهجه العقلي نفسه. ومن نافلة القول أن نشير إلى أنّ اعتمادالمعصوم على المعاجز، هو اعتماد استثنائي فرضته ظروف الاستبداد المادي الذي لم يكن يعترف إلاّ بعقل الآذان وعقل العيون.
ويرى الشيخ المؤلف أنّ خطر استبداد السلطة الدينية لا يقلّ ابداً عن مخاطر استبداد السلطة السياسية. بل إنّ مصادرة السلطة الدينية لحقّ الإنسان في التفكير والحوار أشد خطراً من مصادرة السلطة السياسية لحقّ الإنسان في الحرية والكرامة والمصير، ليستنتج أنّ "العصمة" تولت في طول تاريخها ريادة خط مواجهة الظلم السياسي والاقتصادي والديني بهدف تأمين المناخ الأفضل للحرية التي أرادها الله تعالى للإنسان. فليس من ثقافة الإسلام اللجوء إلى أي مظهر من مظاهر الإرهاب الفكري بصريح القرآن:
"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ" (الغاشية: 21-22)".
ورغم ما ابتُليَ به الأنبياء من اضطهاد وتعذيب وقتل وامتهان لكراماتهم وحقوقهم في الحرية، فقد ظل شعارهم: "فَإِن تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْه ِمَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِنتُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ" (النور: 54). هذا هو الأصل والمحور في أفكارهم وأساليبهم انتصاراً لتثبيت مبدأ حرية الاختيارالإنساني، بوصفه المعادل العقلي لمبدأ الكرامةالتي تستمد اشراقاتها من جدليات العلاقة بين التوحيد والحرية،حيث يترفع رصيدالحرية بمقدار إشراق العقل بمعنى العبودية لله المنطوية في أعماق وعيها على إرادةالتحرر بالعقل من جميع أشكال العبوديات الزائفة، بل من جميع أشكال الخيانات العلمية والمعرفية وما يتصل بها من تمرّدعلى الحق أو جحود لنعمة الحقيقة. وعلى ذلك،كان لا بدّ من تطهير الفضاء الداخلي للإنسان، لأنّ تغيير ما بالأنفس من شوائب الغريزة والجهل والعماء لتحقيق أعلى درجات الوعي بمعرفة النفس والذات، هو النقطة المركزية لكشوفات "المنهج العقلي".
وعند هذا المفصل من حديث جدل العلاقة بين النّص والمعصوم والإنسان، يطلعنا الشيخ كوراني بمناداته المهمومة بقلق المعرفة إلى أمرين لا يجدر إغفالهما عند أي مقاربة لمصادر المعرفة.
أوّلهما: صياغة الرؤية الموضوعية لتفسير الإنسان قبل تفسير النّص.
ثانيهما:صياغة المفهوم الربّاني لنظريةاستخلاف الإنسان على الأرض وصلتها بوظيفة المعرفة التي لم تشأ تصنيم علاقة الإنسان بالتديّن تقديساً يجعل من النّص الدّيني هدفاً في مشهد يبدو فيه الإنسان مخلوقاً من أجل الدّين وليس العكس. ألم نقرأ في غررالحِكَم عن الإمام علي(ر): "غاية المعرفة أن يعرف المرء نفسه"، معرفة تنشد الله بالله فيما يظهر من حديث الإمام جعفربن محمدالصادق(ر): "إنما عرف الله من عرفه بالله فمن لم يعرفه به فليس يعرفه...".
ويوقد مصباح هذه المعرفة بمعرفة النفس: "فمن عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كل معرفة وعلم" ما يعني أن تزكية النفس: "قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا" (الشمس: 9) هي مفتاح المفاتيح لكنوز تلك المعرفة. وإذا كانت العبادة الصلاة لا تحتمل أي وسيط بين الخالق والمخلوق، فإنّ العبادة المعرفة لتبديد مساحات المجهول لا تستقيم بغير وسيط والمعصوم يقبض على الحلقة المفقودة بين كتاب العلم وكتاب المعرفة، يتماهيان في صورة الهداية والحكمة والاستقامة، وللمنهج العقلي أنيترتل ترتيب البحث عن الحقيقة:
"قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ" (الزمر: 9). "وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ" (فاطر: 19 ).
ويطيب للشيخ كوراني في كتابه أن يربط بين المعرفة والسلام العالمي،أو بتعبير أدق: بين نظام الهداية الإلهية المستودعة في شخص المعصوم، وبين جنائن الأمن وفراديس الأمان. يفيد في ذلك بما أورده ابن حجر في "الصواعق المحرقة". ويظهر من كلامه تنبيه لقول من نصّ على ضرورة وجود أحد من أهل البيت(ر) في كل عصر مؤهل للتمسك به. ويرتبط بقاء الدنيا بوجوده كما كان وجودها ودوامها مرتبطاً بوجود خاتم الأنبياء(ص)، فقد استند في ذلك أي ابن حجر، إلىحديث: "النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأهل الأرض". وعلى هذه الرؤية، فإن يوم الخلاص الموعود، هو التتويج العالمي ليوم السلام العالمي الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بظهورات الإمام المهدي(ر)، والسيد المسيح(ع)، لتحقيق العدالة على أرض امتلأت ظُلماً وجَوراً وتسفيهاً لكرامة الإنسان،حيث أزمة الحضارة أزمة مركبة تبدأ من إفلاس المعرفة وتنتهي بإفلاس الأخلاق.
إنّ الوقوف على بعد اكتمال العقل العملي في العقل النظري سيضيء للقارئ معنى اتحاد المعصوم بالنّص لتصبح طاعته طاعة لله، بوعي يرى في هذه الطاعة استجابة للاقتداء بمحاسن الجمال والكمال: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، دون أي مساس بعقيدة التوحيد. وبقراءة ثانية لمفهوم المثل الأعلى الذي يقترحه القرآن الكريم،سنجد أن من الصعوبةبمكان اكتناه تجلياته وصيرورته في الخلود الزمني والخلود المعرفي إلا في ضوءاقتناعنا العقلي بالحقائق التالية:
أولاً:إنّ التفاعل بين الرسول والرسالةلابدّأن يبلغ ذروته أي في قنوات الذوبان الكلي بين الرسالة والرسول.
ثانياً:إنّ تحول ذات المعصوم إلى الرسالة ذاتها في إطار استلهامنا لدلالة:
"وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى" (النجم: 3 - 4) سيمنح "المعصوم" امتيازات الخلود المعرفي.
ثالثاً:إنّ نظرية استحالة الفصل والتفكيك بين ذات المعصوم والنّص ستفضي إلى القول إن العارف هو المعرفة، وتالياً إلىالقول إن المعصوم هو القانون نفسه، فيصبح هو المثل الأعلى الذي اصطفاه الله مصباحاً وهادياً يفتح العقل الإنساني إلى نور الله ومعياراً وقانوناً ينظم تلك العلائق "اللامرئية" بين الكون والإنسان في صورةيبدو فيها السّلام الكوني مشروطاً بهذاالعقل الذي انيطت به مسؤوليات المعرفة: "وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَام ٍمُبِينٍ" (يس: 12) على قاعدة اجتراح الرؤية الكونية التوحيديةلتتبدّى مشهدية الحديث عن المعصوم والنّصمن داخل سؤال الوجود وفلسفة الوجود.
وفي مناقشته لمفهوم الثابت والمتحول، فإنّ الشيخ كوراني ينطلق من محوريّة الإنسان، موضحاً أنّ الحديث عن الثابت والمتحول في فهم النّص مغاير في جوهره للحديث عن الثابت والمتحول في النّص، أي في المعنى الذي يحمله النّص، يريد الثاني مقاربة المعاني، والأول يقارب الألفاظ، وهو لا يختص بالنّص الديني، وإنّما هو شامل لكل نص ولا ينبغي الخلط بين الموضوعين كما يتراءى بوضوح من بعض المقاربات.
غير أنّ الشيخ يضع فاصلة منهجية لقراءة النّص الديني. فما بين القراءة الحرفيّة والقراءة الباطنية يختار المنهج الذي يلتزم نظرياً أصالة اللفظ والظاهر ويحرص عملياً على الموازنة بين الظاهر والباطن تحت سلطة الظاهر، فلا يطمس شيئاً من المعنى الذي يحتمله اللفظ ولا يحمّل اللفظ ما لا يحتمل.
وعلى هذا المنهج يستنبط الشيخ رؤيته الإسلامية عن معنى الحداثة ومفهومها بقوله: "وبما أنّ المحور في الكون كما أراد الله تعالى هو الإنسان، فالحداثة رهن ما يبلور جوهر الإنسانية، والتخلف هو ما يخدشها فضلاً عن أن يشوهها أويمسخها" ليعترف واقع ما بعد الحداثة باعتبار العقلانية الأصلية هي المعيار بدلاً من "العقلانية التقنية" التي استغلت الحداثة سياسيّاً لفرض الهيمنة الأميركية على العالم، التي تكشف عن قناعها المستبد بفنون حربها العدوانية الجديدة ضدّ الهويّة وضدّ الانتماءات الثقافيّة والدينيّة.
إذن، أليس استقلالنا الثقافي في معركة الهويّة هو المدخل لانتزاع استقلالنا السياسي؟
نعم، لقد ضاع استقلالنا السياسي يوم ضعف استقلالنا الفكري والثقافي.
نعم، إن حاجة البشرية الدائمة والمتجددة إلى من يأوي إلى ركن فكري شديد، حاجة حياتية تتفرع عليها كل حوائجها الأخرى بما فيها العدالة الاجتماعية، وليس بوسع الحضارة المنادية بتأليه الغرائز الإنسانية أن تحقق هذه العدالة التي لا معنى لسلام الأرض بدون إزدهاراتها في وضع الميزان معتدلاً بين عقل الحكمة وعقل الكتاب.
ومن بين كلّ المناهج المعرفية، ينبغي البحث عن المنهج الذي يولي الأخلاق أهمية رفيعة، لأنّ مقام العمل والسلوك شأن أخلاقي، وهذا مايضعنا من جديدأمام مبدأ تهذيب النفس كي تحافظ على التزام المعرفة بكلّ نقائها.
وإذن، هل نختصر أزمة العقل الدّيني بأنها أزمة وعي بالتديّن؟ يلفت إليها الشيخ بحديث الإمام الصادق(ر) في "أصول الكافي": (لا يقبل الله عملاً إلا بمعرفة ولا معرفة إلابعمل فمن عرف دلته المعرفة على العمل ومن لميعمل فلا معرفة له إن الإيمان بعضه من بعض..)، وهي جدلية أشار إليها القرآن الكريم بقوله تعالى: "وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا" (العنكبوت: 69).
والسؤال: هل الأزمة في غربة العقل الديني عن زمانه ومكانه هي أزمة معاصرة أم أنها أزمة صدق مع الذات؟ وهل الأزمة كامنة في مشكلات قراءة النّص أم أنها مستفحلة في مشكلات قراءة الواقع؟
ولئن كانت مهمتنا اليوم كفقهاء وعلماء ومفسرين معنية بضرورة تصفية النصوص اللفظية من شوائبها وما اندسّ فيها من موضوعات لا تمتّ إلى المعصوم أو النّص الإلهي بصِلة، فإن هذه التصفية ستظل مشروطة بتصفية منابع النفس بالتزكية التي ترقى بها إلى التماس صورتها في معاني الحق والخير والجمال. وبكلمة أخرى، فإنّ كتاب الشيخ كوراني دعوة رسالاتية للإمساك بحلقة التوازن المفقود بين مفسر للقرآن يدور داخل نصوصه وكأن النّص الإلهي جزيرة منفصلة عن العالم، وبين مفسر للإنسان يغالي في تأليه غرائزه وكأنّ هذا الإنسان جزيرة منفصلة عن الكون والوجود. وإلى أن يكتشف الإنسان الباحث عن معناه معنى الاتصال بين عالم الغيب وعالم الشهادة، سيظل العقل البشري عالقاً بين إفراط هنا وتفريط هناك.
ولنا في أمثولة اللقاء على مجمع البحرين بين موسى والخضر(ر) كشفاً بليغاً لمدارج المعرفة ومعارجها فيما نراه وفيما لانراه كذلك فوق كل ذي علم عليم:
"ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىعَالِم ِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَاكُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (التوبة: 94).
فهل ينهض العالمون بأمانة العلم؟ وهل يصدع الحكماء بأمانة الحكمة والعقل من مطالع أبجدية المنهج في القراءة والعمل والتفكير؟

آراء القراء

1
26 - 6 - 2012
The purchseas I make are entirely based on these articles.

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net