Tahawolat
على أبواب مئوية لبنان الكبير، علت أصوات ترفض الاحتفال بهذه المناسبة باعتبار أن الدولة الوليدة هي صنيعة استعمارية ماذا تقول في ذلك؟
في العام 1920 أعلن قيام دولة لبنان الكبير، وهذا التاريخ هو مفصل سياسي في حياة لبنان. فالدولة اللبنانية لم تفصل عن سوريا كما يعتقد البعض. إنها انبثاق للذاتية التاريخية اللبنانية، التي تعود على الأقل إلى القرن السادس عشر. ولدت وتجسدت هذه الذاتية في الإمارة المعنية ثم الشهابية وفي القائممقامتين والمتصرفية. إن إعلان دولة لبنان الكبير جاء ردًّا على الظلم الذي حصر أهل الجبل وفصل عنهم سهل البقاع وموانئ الساحل. كما أنه جاء ردًّا على أهوال المجاعة التي أودت بقسم كبير من اللبنانيين إلى الهلاك. وإذا كانت غالبية النخب المسيحية قد ناضلت لتحقيق هذا الإنجاز قبل وخلال وبعد العام 1920، وتلاقت معها نخب من السنة والشيعة والدروز. إلا أن غالبية النخب الإسلامية اتّحدت مع النخب المسيحية في العام 1938 من خلال الميثاق الوطني الذي أعلن من منزل الزعيم الوطني "يوسف السودا"، وقد تبلور ذلك في انتفاضة عام 1943 التي حصلت تحت راية العروبة والاستقلال. باعتبارهما الركنين الأساسين للدولة اللبنانية المعاصرة. إن الدولة اللبنانية التي تضم بالتساوي مسلمين ومسيحيين هي تجربة فذة ونموذج قلّ نظيره على المستوى العالمي.
لماذا كان البطريرك حويك متخوفًا من فكرة لبنان الكبير؟
مطلب لبنان الكبير يعود إلى فترة البطريرك "بولس مسعد" الذي أكد عام 1863 في كتابه "الدر المنظوم" أن جبل لبنان كما يشهد علم الجغرافية يبتدئ من جهة الشمال من حدود جبال "النصيرية" الفاصل بينه وبينها النهر الكبير وينتهي لجهة الجنوب عند مرج ابن عامر في شرق عكا، كما يدخل جبل الشيخ وحاصبيا ووادي البقاع في تحديده للبنان من جهة الشرق. لقد استمرت البطركية المارونية في الدفاع عن مشروع لبنان الكبير مع البطريرك الحويك. ومن يطّلع على أرشيف بكركي يعرف جيدًا الدور المحوري الذي اضطلع به هذا البطريرك العظيم في قيام الدولة اللبنانية. البطريرك حويك وزّع المساعدات على المسلمين خلال المجاعة التي ضربت لبنان في الحرب العالمية الأولى. وحاولوا إغراءه بمنع المطالبة بضم الجنوب إلى دولة لبنان الكبير. لم يكن مشروع البطريرك حويك مشروعًا مسيحيًّا، بل مشروع حرية في منطقة عربية تعاني من نقص في الحرية. ودستورنا يحترم الأديان كلها.

ماذا يعني إحجام فئة من اللبنانيين عن صياغة الدستور عام 1926، ألا يعني ذلك أن هذا الكيان لم يتشكل بإرادة جميع بنيه؟

المسلمون شاركوا في صياغة الدستور عام 1926، والواقع التاريخي ومحاضر مجلس النواب في العام 1926 تبين أن اللجنة التي انتخبها المجلس لوضع الدستور ضمت أسماء عمر الداعوق، فؤاد أرسلان، صبحي حيدر، عبود عبد الرزاق ويوسف الزين. وإذا كان بعض النواب المسلمين القلائل قد تحفظوا على بعض المواد في الدستور، فإن الدكتور إدمون رباط يؤكد أن مناقشات كانت تدور حول كل مادة بجد وحرية. مع الإقرار من جانب جميع النواب بمبدأ الانتداب، والحقيقة أن مشروع المعاهدة اللبنانية الفرنسية نال شبه إجماع من نواب المجلس ولم يتحفظ عليها إلا النائب خير الدين الأحدب. المسلمون لم يرفضوا كلهم صيغة دولة لبنان الكبير.
فعبد الحليم الحجار كان عضوًا في الوفد اللبناني الأول الذي ذهب إلى مؤتمر الصلح. والشيخ عبد الحميد الجسر موقفه اللبناني معروف. وثمة قيادات شيعية كثيرة وعرائض قدمت إلى لجنة "كينغ- كراين". تؤكد المطالبة بلبنان الكبير. ولا مجال للتذكير بموقف النخب الدرزية فعلى امتداد فترة الإمارة والمتصرفية وصولًا إلى مرحلة الحرب العالمية الأولى كان للطائفة الدرزية الدور الطليعي في بلورة الذاتية اللبنانية. والأمير توفيق أرسلان كان عضوًا بارزًا في الوفد اللبناني الثالث الذي تمكن من انتزاع إقرار فرنسا بدولة لبنان الكبير.
مئة عام تقريبًا على ولادة لبنان الكبير، ماذا قدم هذا الكيان لبنيه غير الفتن والتناحر فيما بينهم؟
الانقسامات بين اللبنانيين تعود إلى الفترات السابقة للانتداب الفرنسي. وقد استمرت بعد رحيل الانتداب. اتهام الفرنسيين بإعلان دولة لبنان الكبير يستبطن تجاهلًا بأن المشروع الأساسي الذي كانت تعمل له وزارة الخارجية الفرنسية قبل مجيء حكومة ميللران كان قيام سوريا الموحدة الفيدرالية الفرنسية. ومن يطّلع جيدًا على أرشيف وزارة الخارجية الفرنسية وأرشيف البطركية المارونية وأرشيفات الاتحاد اللبناني والرابطة اللبنانية في باريس وحزب النهضة اللبنانية في نيويورك وغيرها من الأرشيفات الخاصة المختلفة، يعرف جيدًا أن القيادات اللبنانية الروحية والزمنية خاضت معركة دبلوماسية وشعبية كبرى بين 1918- 1920 لإجبار السياسة الفرنسية على الإقرار بقيام دولة لبنان الكبير، ولولا تراجع الأمير فيصل عن اتفاقه مع "كليمنصو"، حيث تم ضم البقاع إلى حكومة دمشق. ويكون لرئيس الدولة السورية وللمندوب الفرنسي مشتى في بيروت التي ستتمتع بإدارة بلدية مختارة كما نص الاتفاق. لولا تراجع فيصل عن هذا الاتفاق بضغط من المؤتمر السوري من جهة والتيارات اللبنانية الاستقلالية من جهة أخرى, لتغيرت أمور كثيرة.
لقد توصل آباء الاستقلال من كل الطوائف إلى صياغة نص مكتوب للميثاق الوطني في منزل الوطني الكبير "يوسف السودا" عام 1938. وقد تجسد هذا الميثاق في معركة الاستقلال عام 1943. لقد كافح اللبنانيون لقيام دولة لبنان الكبير كما كافحوا لتحقيق السيادة والاستقلال لهذه الدولة عام 1943. وكم يبدو ملحًّا في هذه المرحلة التي تعاد فيها صياغة خرائط المنطقة أن نتمسك بمرتكزات ميثاقنا الوطني. ووحدتنا الوطنية وسيادة دولتنا ضمن كامل حدودها الدولية. وأن نواجه مخططات إسرائيل بطبائعها المختلفة. وفي طليعتها التيارات الداعشية الإرهابية وأن نعمل لتعطيل مفاعيل النزوح السوري الخطير وإغراق مختلف مناطقنا بالنازحين، إن الاحتفال بقيام دولة لبنان الكبير هو يوم وطني كالاحتفال بعيد الاستقلال والجلاء، وكل تشكيك بعده بالأحداث التاريخية الكبرى في حياتنا المعاصرة يحمل معاني خطيرة هذه الأيام.

لو كان لبنان كيانًا قائمًا بذاته كما تقول، ولو لم يجرِ فصله عن سوريا عام 1920 لما كانت هناك مشكلة اسمها ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا لم تجد لها حلًّا حتى الآن؟ 
مسألة ترسيم الحدود اللبنانية- السورية محسومة، وهي واضحة بين البلدين بموجب الوثائق العثمانية، إضافة إلى القرار 318 الصادر عن الجنرال غورو إبان فترة الانتداب وإنه لم يتبق سوى ترسيم الحدود ميدانيًا بين البلدين، الأمر الذي يحتاج إلى قرار استراتيجي سوري بالخروج من فكرة الهيمنة على لبنان واعتباره كيانًا يجب إلحاقه بسوريا، وإلا فإن الأمور لن تحل ولو بعد ألف سنة من المفاوضات. إن الحدود علم قائم في ذاته، سواء لجهة الطبوغرافيا أو النقاط الجغرافية المتعلمة، لكن المسألة الأهم "أن الحدود ما بين لبنان وسوريا هي مساحة صداقة وتفاهم وتفاعل ومن دون هذه الروحية لن يستطيع الجانبان اللبناني والسوري ترسيم الحدود بينهما". ومن أجل فهم الموضوع أكثر، يمكننا العودة إلى الوثائق التاريخية القديمة منها والحديثة، إضافة إلى محاضر اجتماعات لجان الحدود السورية- اللبنانية المشتركة منذ العام 1918، إن على الجانب اللبناني أن يبدأ البحث في هذا الملف من حيث انتهى إليه سابقًا، لا العودة إلى نقطة الصفر وكأن شيئًا لم يكن. هناك نقطة خلافية فقط بين الجانبين اللبناني والسوري، معروفة لدى كل المعنيين بالملف والمتابعين له، وتبدأ من بقعة حنيدر في أقصى شمال شرق لبنان وتنتهي في مزرعة هورا الواقعة في أقصى جنوب شرق لبنان قرب مزارع شبعا المحتلة. أما المسار البياني لتطور ملف ترسيم الحدود بين الجانبين فيمكن تلخيصه بالعودة إلى الوثائق العثمانية التي تظهر تحديدًا حدود الأقضية اللبنانية المتاخمة للأراضي السورية. كما تشمل هذه الوثائق مستندات الضرائب التي كان يسددها مالكوها اللبنانيون إلى الدوائر العثمانية عن أراضيهم الواقعة في تلك الأنحاء. والجزء الثاني من الإثباتات يشمل القرارات الصادرة عن سلطات الانتداب الفرنسي، بدءًا من القرار رقم 19 الصادر في 6 كانون الأول 1918 عن المفوض الفرنسي دي بيباب، والقرار رقم 299 الصادر في 3 آب 1920 عن الجنرال غورو. والقرار رقم 318 الصادر عن غورو أيضًا بتاريخ 31 آب 1920 والذي تضمن خريطة حدود لبنان الكبير، وفي العام 1935 اقترح مدير دائرة المساحة الفرنسي "دور افورد" تعيين قاضيين عقاريين سوري ولبناني لدرس وبت الإشكاليات الميدانية للترسيم النهائي في ضوء الوثائق والمستندات والصكوك المقدمة من أصحاب العلاقة، وعيّن القاضي رفيق الغزاوي مندوبًا عن لبنان في لجنة الحدود، في حين عينت سوريا القاضي العقاري عبد الرزاق الشمعة. وعقدت اللجنة المشتركة مئات الجلسات وتركت محاضر سميت محاضر التحديد والتحرير لمجمل القرى الحدودية بين لبنان وسوريا. واستمر عمل اللجان طيلة عقود الخمسينيات والستينيات والسبعينيات إلى أن اندلعت الحرب في لبنان عام 1975، وكان الأهالي على طرفي الحدود يجتمعون معًا ويناقشون المحاضر المعدة بواسطة القضاة العقاريين في اللجنة المشتركة، وهكذا تم تحديد الغالبية الساحقة من النقاط الحدودية والتي وصل عددها إلى ألف نقطة على امتداد الحدود الشرقية للبنان مع سوريا واستمر الخلاف على 36 نقطة فقط لا غير. وقد بلغت كلفة عملية ترسيم الحدود بين البلدين 249 ألف ليرة لبنانية، وهي كلفة باهظة في ذلك الوقت، ولكن وصول حزب البعث إلى السلطة في دمشق وانهيار الحكومة اللبنانية أدى إلى تخلي سوريا عن مبدأ ترسيم الحدود واعتمادها استراتيجية واضحة تتلخص بعدم الاعتراف بالدولة اللبنانية والعمل على إلغائها من الوجود. وهذا ما شكل استمرارية للمؤتمر السوري العام عام 1920 الذي رفض الاعتراف بقيام الدولة اللبنانية وتمسك بسوريا الكبرى.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net