Tahawolat

     بدايةً تعدّ مجموعة رسائل النور -ومؤلفها هو العلامة المشهور ببديع الزمان سعيد النورسي (1873- 1980)- مجموعةً نموذجيةً في عالم الكلام المعاصر. وقد نشأ العلامة النورسي في بلاد الكرد شرق الأناضول، وعاش معظم حياته في القرن الماضي، وعاصر فترة الحربين العالميتين وما بعدهما وهاله ما حدث فيهما من انتهاكاتٍ جسيمةٍ لحقّ الحياة وكرامة الإنسانية، فشرع يؤصّل معنى الحياة، وقيمتها الرمزية، ويشرح لمحيطه من الطلبة والمحبين والمسؤولين معانيها السامية ومقاصدها الراقية. عرف النورسي بغزارة إنتاجه، وعمق كتاباته، وكثافة معانيها، ورقيّ مضامينها، حتى أطلق عليه ثلةً من الباحثين لقب "متكلم العصر الحديث" . 

نبذةٌ عن أهمية الحياة في نظر النورسي:
تميّز النورسي بتقديره البالغ لمعنى الحياة والوجود، وظهر ذلك في معظم كتاباته، حتى إنه سأل نفسه في صباه فقال:
"حدثت خيالي في عهد صباي: 
أيّ الأمرين تفضل؟ قضاء عمر سعيد يدوم ألف ألف سنة مع سلطنة الدنيا وأبّهتها على أن ينتهي ذلك إلى العدم، أم وجودًا باقيًا مع حياة اعتيادية شاقة؟ 
فرأيته يرغب في الثانية ويضجر من الأولى، قائلًا: إنني لا أريد العدم، بل أريد البقاء ولو كان في جهنم." 
    كان إحساس سعيد الصغير بالوجود مرهفًا وكان يحمل تساؤلات عميقة تجاه الحياة والخلود، وكان يدقق في حكم الكائنات وغاياتها، ولم يكن من الذين لا يعبؤون بما يحيط بهم من مخلوقات ولا بما يمر بهم من أحداث، فما إن أدرك العاشرة من عمره حتى فارق منزله، وغادر مألوفاته، في رحلة البحث عن حقيقة الحياة واستكشاف كنه الوجود، تلك الرحلة التي ساقته الأقدار فيها إلى أماكن بعيدة، أغلب الظن أنه لم يكن يتصور في تلك الأيام أنه سيصل إليها أو سيحل فيها. كما أنه لم يقدر لسعيد بعدها أن يستقر في بلده مع أهله، بل وجد نفسه في ارتحال دائم، وانتقال مستمر، مؤديًا بذلك ثمن معرفة أسرار الحياة، والتماس مفاتيح الأبد والخلود.
إن المطّلع على رسائل النور يلاحظ الاهتمام البالغ بالتدقيق في مغزى الحياة والتركيز على غاياتها، وشرح خصائصها مع تقدير المخلوقات الحية والشفقة عليها بشكل مميز وعلى نحو مثير، مما يدفعنا إلى القول بأنه يمكن وصفه بحق بأنه مفكر الحياة. وتعرف مجموعة رسائل النور الموجودات بأنها مكتوبات صمدانية ورسائل ربانية وكلمات إلهية مفيدة للمعاني، ناطقة بالتسبيح والتحميد والتقديس. يقول النورسي: "فالدنيا في نظر المؤمن دار ذكرٍ رحماني وساحة تعليم وتدريب للبشر والحيوان، وميدان ابتلاء واختبار للإنس والجان، والموجودات كلها في نظره خدام مؤنسون وموظفون أخلاء وكتب حلوة لسيده الكريم ومالكه الرحيم."  
    والدرجة الأولى لارتقاء الوجود يتجه نحو الحياة النباتية والحيوانية التي يظهر فيها أثر التناسق والانسجام بشكل مصغّر وواضح وهادف، وتبدأ مرحلة الاكتمال مع الجمع والضم والاختصار والارتباط بأكثر الموجودات وأكبرها معها، يقول في ذلك: 
"إن كمال الوجود مع الحياة بل إن الوجود الحقيقي كائن مع الحياة."  
ويقول أيضًا: "إن الذي خلق عين البعوضة هو الذي خلق الشمس أيضًا والذي نظم معدة البرغوث هو الذي نظم المنظومة الشمسية أيضًا". 
 والسبب في ذلك أنه بالحياة  -ولو في أولى درجاتها- تظهر قيمة الوجود وتستبين الحكمة من خلقه والأهداف المبتغاة من إيجاده واختراعه في إظهار الإبداع الإلهي، كما تتضح معالمه وخصائصه ومميزاته. 
    وتشتمل الحياة على سر خفي دقيق منطوٍ عن أنظار البشر وإدراكه، مع أنها يظهر معها من الأوصاف الظاهرية ما لا يعبر عن حقيقة كنهها، مع مهارة فائقة ما ظهرت إلا بسببه، وبقيت الأسباب الساترة ليد القدرة الإلهية بعيدة عنها، لأنها جميلة ونزيهة لا يعترض عليها ولا يظهر فيها إلا ما فيه خير. إذًا إن ما يظهر منها من الخفاء والغموض يعبّر عن قدرة الله المعجزة، يقول في توضيح هذا المعنى: 
    "نعم إنها -أسرار الحياة- خفية ودقيقة، لأن تنبه العقدة الحيوية -أي تفتحها ونموها في البذرة التي هي أولى مراتب الحياة في النبات الذي يمثل أدنى أنواع الحياة- بقي مستورًا عن أنظار البشر حتى الآن منذ زمن آدم عليه السلام رغم شدة ظهوره وكثرته والألفة به ولم تنكشف حقيقته الصائبة لعقل البشر حتى الآن."   
    ولولا الحياة لبقي الوجود بلا غاية ولا نتيجة، فالحياة رأس كل شيء وأساسه. وذلك لأن للكائن الحي ارتباطات عديدة وعلاقات منتشرة في أكثر الأكوان، حيث تصبح الحياة كاشفة للأشياء ومظهرة لها وسببًا في إحيائها بعد موتها وازدهارها بعد ذبولها. قال الله تعالى: "وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًا فمنه يأكلون" . ويقول أيضًا: "وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج" . 
يقول بديع الزمان موضحًا هذا المعنى: "كما أن الضوء سبب لرؤية الأجسام وسبب لظهور الألوان، على رأيي كذلك الحياة هي كشاف للموجودات وسبب لظهورها وسبب لتحقق النوعيات، فهي التي تجعل الجزء الجزئي بحكم الكل والكلي وسبب لحصر الأشياء الكلية في الجزء، وسبب لجميع كمالات الوجود كإشراكها وتوحيدها الأشياء الوفيرة وجعلها مدارًا لوحدة واحدة ومظهرًا لروح واحدة حتى إن الحياة نوع من تجلي الوحدة في طبقات الكثرة من المخلوقات فهي مرآة للأحدية في الكثرة" . 
  ويرى النورسي أن القرآن الكريم يظهر أن هناك ارتباطًا عامًا بين المخلوقات من حيث الخلق والتدبير وأنها تحكم بنواميس ذات وحدة مترابطة، حيث يستحيل أن يحصل هذا التناغم من قوانين مختلفة ونواميس متباعدة، فالكل يتعاون لخدمة كل فرد وكل فرد منسجم بقانون ينفع الكل، يقول الله تعالى: "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" . 
    وتظهر وحدة هذه القوانين السارية في الموجودات من خلال الحياة، إذ يجتمع الكل الكبير في وحدة ظاهرة ويبرز الجمع الضخم في بوتقة مركزة على شكل كون صغير يخدمه ذلك الكل الكبير ويمده ويرفده ويكون ملكًا له، فـ"هي التي تجعل كل شيء ملكًا لكل كائن حي فتجعل شيئًا واحدًا بحكم المالك لجميع الأشياء" . 
  وهذا القانون الذي يسخر كل الوجود لخدمة ذوي الحياة ومقاصد الحياة لا بد أنه قانون تسخير منظم قاهر يسوق إلى الأحياء حاجاتها بكرم إلهي يصح أن يطلق عليه "قانون الكرم". يقول بديع الزمان: "نشاهد في الموجودات جميعها ولاسيما الأحياء منها افتقارًا إلى حاجات مختلفة ومطالب متنوعة لا تحصى، وإن تلك الحاجات تساق إليها من حيث لا تحتسب وتلك المطالب تترى عليها كل في وقته المناسب، علمًا بأن أيدي ذوي الحاجة تقصر عن بلوغ أدنى حاجاتها فضلًا عن أوسع غاياتها ومقاصدها، فكل كائن منها يشهد بفقره وحاجاته المقضية من غير حول منه ولا قوة على الواجب الوجود ويشير بها إلى وحدانيته سبحانه" .
    إذًا، إن سوق حاجات ذوي الحياة إليها يبين أشياء عديدة، منها أن الحياة محكومة بقانون الكرم لا بتسخير ذاتي أو طبيعي، وهذا الأمر هو الذي يعطي الحياة قيمتها، من حيث كليتها وارتباطها بالوجود بأسره، ومن دون هذا الارتباط لا يظهر للحياة قيمة، ولا لاستفادتها من الأشياء معنى.
    ومن أثر ذلك الكرم أن تتميز قوانين تكوينها عن بقية أنواع الوجود، إذ يظهر لنا أنه تتوحد الأشياء الكثيرة بها، كما يتكثر الأمر الواحد معها، وذلك مثل "تحويل الأطعمة المتنوعة -سواء الحيوانية أو النباتية- إلى جسم خاص بنظام كامل دقيق، ونسج جلد خاص بذلك الكائن وأجهزة متنوعة من تلك المواد المتعددة" .
    وبذلك يتبين أن ذات الحياة ليس منفصلًا عن الوجود ولا مستقلًا عنه في تكوينه، كما أنه لا يمكن أن يكون مستغنيًا بذاته عن خالقه، إذ تتبدد قيمة الحياة بهذا الاستقلال، ولا يبقى لها أي معنى. 
  والنظرة القرآنية تحدد لكل ذرة من ذرات الوجود ولكل خلية من خلايا الحياة أهدافًا تسعى إليها ونقاط كمال ترنو للبلوغ إليها بشغف وعنفوان، فتساق إلى تلك الأهداف بدافع الحاجة الملحة والانجذاب الشديد، مما يجعل من السعي والحركة قانونًا عامًا وبرنامجًا مغروسًا في كل موجود ومن العمل والخدمة ناموسًا كونيًا ينتظم حركة الكائنات بدلًا من مبادئ الحرص واللذة والمنفعة والمصلحة التي تلحظها الفلسفات المادية في تفسيرها لحركة الأشياء. 
    "إن الخالق الحكيم قد عيّن لكل شيء نقطة كمالٍ يناسب ذلك الشيء وحدد نور وجود يليق به فيسوق ذلك الشيء إلى نقطة الكمال تلك باستعداد يمنحه إياه" . إن هذا الشوق المغروز في كل ذرة وحجيرة وخلية وصولًا إلى النجوم والمجرات والذي يفسر حركة الكائنات بأسرها نجد له أدلة ونماذج عديدة تظهره وتثبت صحته في كل شيء حتى في الجمادات. 
     إن الماء اللطيف الرقراق ما إن يتسلم أمرًا بالانجماد حتى يمتثل ذلك الأمر بشدة وشوق إلى حد أنه يكسر الحديد ويحطمه، فإذًا عندما تبلغ البرودة ودرجات الانجماد أمرًا ربانيًا بالتوسع إلى الماء الموجود داخل كرة حديد مقفلة فإن الماء يمتثل الأمر بشدة وشوق بحيث يحطم كرة الحديد تلك ويتجمد. 
    فهذا القانون العام ينسحب على ذوي الحياة، حيث تكون الكائنات الحية مضيفًا لتلك الذرات ترقى عبره من نقطة كمال إلى أخرى وصولًا إلى الكمال الأتم يوم القيامة، يقول الله تعالى: "يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات" . ويقول أيضًا: "وإن الدار الآخرة لهي الحيوان" . ويفسر النورسي هذه الآية بأن الذرات التي تدربت وتنورت وتلطفت في الأجسام في الدنيا كسبت لياقة وجدارة لتصبح ذرات لعالم البقاء ولدار الآخرة ولتكون حية في دار تشمل الحياة جميع أجزائها.  
     وفي ذلك توافق مع الرأي القائل في تفسير كيفية تبديل الأرض بأنه تغيير لأوصافها لا لذاتها، يقول الإمام النسفي: "واختلف في تبديل الأرض والسماوات فقيل تبدل أوصافها وتسير عن الأرض جبالها وتفجر بحارها وتسوى فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: هي تلك الأرض وإنما تغير، وتبدل بانتثار كواكبها وكسوف شمسها وخسوف قمرها وانشقاقها وكونها أبوابًا" . ويستدل بديع الزمان على قوله ذلك بالحكمة الإلهية المنافية للإسراف والتبذير في حالة إعدامها وإفنائها. وعلى كل حال فهناك إجماع على أنها تصبح على غير الصفة المألوفة .  
    وهذا المعنى منسجم مع المعنى المتبادر من الآية التي تصف أحوال بعض الحجارة: "وإن منها لما يهبط من خشية الله" ، إذ ورد في تفسيرها: "قيل هو مجاز عن انقيادها لأمر الله، وأنها لا تمتنع على فعل ما يريد فيها، وقلوب هؤلاء (أي اليهود) لا تنقاد ولا تفعل ما أمرت به، وقيل المراد به حقيقة الخشية، على معنى أنه يخلق فيها الحياة والتمييز، وليس شرط خلق الحياة والتمييز في الجسم أن يكون على بنية مخصوصة عند أهل السنة، وعلى هذا قوله: لو أنزلنا هذا القرآن على جبل، الآية، يعني وقلوبهم لا تخشى" .
    فإذا كان الوعي بالخضوع لأمر الله يوهب لبعض أفراد الجمادات والصخور، فإن ذلك  يرفعها إلى درجة أعلى، ويمنحها حياة ما لا نعلم حقيقتها ولا نفقه كيفية تسبيحها ويرشحها للخلود. وهذا يذكر بتسبيح الحصى في كف النبي الأكرم عليه السلام، وابتدار الحجر والشجر بالسلام عليه. ومما يؤكد ذلك أن وعي بعض أفراد النباتات والحيوانات بالعبادة والخضوع لأمر الله تعالى، وبعلاقات ما مع من حولهم أكسبهم الخلود بأعيانهم، كما ورد في خبر حنين الجذع إلى النبي عليه الصلاة والسلام ، وفيما روي عن مقاتل من دخول عشرة حيوانات الجنة مع المؤمنين، وهي: ناقة صالح وعجل إبراهيم وكبش إسماعيل وبقرة موسى وحوت يونس وحمار عزير ونملة سليمان وهدهد بلقيس وكلب أصحاب الكهف وناقة محمد صلى الله عليه وسلم.  ولكل ذلك يستنتج النورسي من الأحاديث الشريفة أن أرواح الحيوانات باقية ومؤبدة ولهذا القول ما يبرره في هذا السياق.
    إذًا ينطوي قانون سعي الذرات والكائنات والمخلوقات النباتية والحيوانية بشوق وشغف على دلالتين مهمتين هما:،
        الأولى: قيام كل كائن مهما كان كبيرًا أو صغيرًا بوظائف ومهام تفوق طاقته المحدودة للأحياء وذوي الحياة .  
        الثانية: توافق حركته مع دساتير نظام العالم وانسجام عمله مع توازن الموجودات.  
     وإذا انتقلنا إلى عالم الحياة عند الحيوان فإننا نرى أنها تتميز عن حياة النبات بانكشاف الشعور الذي هو ضياء الحياة ونورها، إذ به يدرك الحي ذاته ويدرك خارجه إدراكًا حسيًا مباشرًا وتقوم الحياة بأعمالها وتنظم علاقاتها عبره مع ما حولها من الوجود عن طريق إدراك خارجي آت من الغيب يعبر عنه -لدى بعض مميز منها- بالوحي أو بالإلهام. يقول الله تعالى: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتًا ومن الشجر ومما يعرشون".  
    فبالشعور ينتقل الحي إلى خاصية التملك وإقامة العلاقات مع الخارج واكتساب الحقوق ذوي الحياة المحترمة شرعًا، حيث يحرم قتله إن لم يكن مؤذيًا ويدخل الإنسان بسببه الجنة أو النار. يقول بديع الزمان: "انظر إلى الجسم الجامد وإن كان جبلًا شاهقًا فهو غريب يتيم وحيد إذ تنحصر علاقته وصلته بمكانه وما يتصل به من الأشياء فقط وما يوجد فالكائنات الأخرى معدومة بالنسبة إليه، وذلك لأنه ليس له حياة حتى يتصل بها ولا شعور حتى يتعلق به، ثم انظر إلى جسم صغير حي كالنحل مثلًا ففي الوقت الذي تدخل فيه الحياة فإنه يقيم عقدًا تجاريًا وصلة مع جميع الكائنات والموجودات وخاصة مع نباتات الأرض وأزهارها بحيث يمكنه القول: إن جميع الأرض هي حديقتي ومتجري" . 
  وتتميز الحياة الحيوانية بأنها حياة عملية مجهزة بكل برامج التطبيق والاستفادة من الأشياء الخارجية المحيطة، وكأنها تحوي في أدمغة أفرادها خططًا تامة تنفذها بدقة وعناية، لكن هذه الحياة العملية مرتبطة باللحظة الزمنية ولا تتعداها إلى خارجها، يقول بديع الزمان: إن الحيوان حينما يأتي إلى الدنيا يأتي إليها كأنه قد اكتمل في عالم آخر فيرسل إليها متكاملًا حسب استعداده، فيتعلم في ظرف ساعتين أو يومين أو شهرين جميع شرائط حياته وعلاقاته بالكائنات الأخرى وقوانين حياته فتحصل لديه ملكة فيتعلم العصفور أو النحلة مثلًا القدرة الحياتية والسلوك العملية عن طريق الإلهام الرباني وهدايته سبحانه".  ويقول أيضًا: "ليس للحيوان ما يفكر به من ماض ومستقبل... بل حتى الحيوان المعد للذبح لا يحس إلا بألم السكين وهي تمر على حلقومه وسرعان ما يزول هذا الإحساس فينجو من ذلك الألم" . 
    ولعل هذا هو السبب في ارتفاع التكليف عن هذا النوع من الأحياء الذي لا يدرك العلاقات المنظمة للوجود وعيًا كاملًا ولم تنكشف له حجب الماضي والمستقبل فلم تترتب عليه مسؤوليات تجاه ذلك الوجود العام، ولم يطالب بأداء مهام أو واجبات خارج إطار التنفيذ العملي لما أودع لديه من خطط وبرامج ينفذها بأوامر إلهية كونية عليا، حتى إنه يقتص منها بمخالفتها إياها يوم القيامة، إذ يقول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام: "حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء"  (والجلحاء بمعنى التي لا قرن لها). 
    نخلص من ذلك كله إلى نتيجة مهمة، مفادها أن الحياة هي الأصل في وجود الأشياء، والسبب في بقائها، وبها يتحول الوجود الكثيف إلى وجود لطيف، وهي التي تؤثر في تماسك أجزاء الحي وانتظامها في جسم واحد، وذلك عن طريق ذلك الأمر الآتي من عالم الغيب، والمسمى بالروح والشعور. فما دام الأمر كذلك، وما دام الوجود قائمًا بالحياة وراجعًا إليها، فلا بد أن يكون المكان الذي تكثف فيه وجودها، هو مركز الكون، وقلبه النابض، وذلك المكان هو الكرة الأرضية. يقول النورسي: "إن الأرض التي هي بمثابة قلب الكون، قد أصبحت مشهرًا لعجائب مصنوعات الله البديعة، ومحشرًا لغرائب مخلوقاته الجميلة، وممرًا لقافلة موجوداته الوفيرة..." . 
    ولذلك ملأ الحي القيوم الكرة الأرضية بالأحياء وحشد فيها جنود الحياة المتنوعة والمختلفة، وبث فيها انتشارًا هائلًا لبذورها وأودع لديها رغبة جامحة في استيلاء كل نوع منها وتكثره وتوالده في جميع الجوانب والأرجاء.
    فما معنى الوجود إذًا دون الحياة؟ وأية قيمة للذرات وحركاتها، وللمادة وانتشارها؟ وللطبيعة وقوانينها، وللأفلاك ودورانها وللكائنات ونواميسها منفصلة عن تاجها ودرتها وخارج إطار خدمة الحياة والارتباط بذلك المركز الذي ينظمها جميعًا؟
     لكن ذلك المركز العام يرتبط بمركز خاص أيضًا، وبنوع آخر من الأحياء، ذلك النوع الذي يرتبط الوجود به ارتباطًا عضويًا وثيقًا ولا بد أنه يمر بعمليات ارتقاء وتطوير -عبر قانون حيوية الحياة ذاتها ومن خلال علاقاته بهذا الوجود- ولا بد أنه سيستحيل وجودًا أوسع  وأعلى وأرقى، وسيرتبط ذلك حتمًا بانفجار الكون كله، وتبدل صفاته واستحالته إلى كون آخر، أرضًا وسماء وأرجاء.

أثر انعكاس هذه الرؤية على حياة بديع الزمان النورسي:
    كان تقدير سعيد الطالب للأشياء عاليًا واحترامه للكائنات الحية فريدًا مميزًا -كما سنرى- فلم تكن ملاحظته للأشياء عادية، ولا علاقته مع المخلوقات الحية مألوفًا، بل كان في كل ذلك فذًا غريبًا بديعًا. فلم يكن بدعًا من القول أن يلقب ببديع الزمان وأعجوبة العصر، بل كان ذلك مطابقًا لحاله تمامًا.    
    لقد كان يحافظ على الوقت والنفقة أشد المحافظة، فلم يكن ليقع في الإسراف في أي منها، وذلك ليحصل على العلوم في أوقات قصيرة ويحافظ على عزة العلم ووقاره. وكان من نتيجة ذلك أن انفرد في صغره "من بين الطلاب جميعهم في عدم أخذ الزكاة من أحد." كما أنه أكمل قراءة ما يقرب من خمسين كتابًا خلال ثلاثة أشهر" .
    ولكي يتمكن من تخلية الصوارف وإزاحة العوائق عن إدراك الحقائق، فقد كان يعتكف على قمم الجبال ورؤوس الأشجار وعند قبور الصالحين وفي القبب الخالية حتى ألف تلك الأماكن واستأنس بالأحياء فيها. ولا بد لمن يكون على تلك الحالة -مع معرفته بالكتاب والسنة- أن يتفرس في أحوال الأحياء ويدرك من أسرارها ما لا يقف عليه غيره.
     وأثناء اعتكافه في إحداها، وهي قبة تيللو، وحين كان يلاحظ اجتماعات النمل وتجمرها فيما بينها، استرعى انتباهه حبها لذلك التجمهر والتعاون فيما بينها، فكان أن أخذ يقسم الطعام المقدم إليه بينه وبينها ، فيقدم إليها الحبوب، (وكان يقدم لها السكر أحيانًا) ويكتفي لنفسه بالمرق، وذلك إعلانًا لتقديره واحترامه لنظامها وميلها لإقامة التعاون فيما بينها عن رغبة واشتياق. يقول ابن حجر في وصف نظام تعاونها هذا: "ومن عجيب أمره (أي النمل) أنه إذا وجد شيئًا ولو قل أنذر الباقين" . وربما كانت هذه الحادثة من أسباب اهتمامه البالغ فيما بعد بمعالجة مرض تفرق القلوب، كمانع من وحدة الأمة ونهضتها، ومن تحقيق الاتحاد الإسلامي، ولذلك جاءت دعوته العلماء والعامة إلى تبني أفكار الأخوة الإسلامية عن اقتناع وإخلاص قلبيين. 
  يروي أحد تلامذته (ملا حميد) ذكرياته مع الأستاذ في ذلك فيقول: كان جبل أراك وما حوله من الجبال مكسوة بأشجار التفاح البرية، حيث كانت مزارع ربانية لا دخل ليد الإنسان فيها، فعندما كنا نريد أن نقطف من هذه الأشجار تفاحًا كان الأستاذ لا يرضى بذلك ويقول: "إن حصتنا من التفاح هي من البساتين والحدائق، فالرزاق الحكيم يرزقنا من تلك المزارع، أما الفواكه الموجودة هنا فهي أرزاق الحيوانات البرية، فيجب ألا نتعدى على أرزاق هذه الحيوانات.. ضعوا ما لا تحتاجونه من اللحم في موضع كي تأكله الحيوانات [أي عندما تؤكل ذبيحة]". 
     وكان ينصح الرعاة بالإحسان إلى الحيوانات، ويذكرهم بمنافعها الجمة، ويبشرهم بالأجر والثواب على رعايتها. كما كان ينصح الصيادين بالابتعاد عن أذى ما لا يريدون صيده، قائلًا: "لاتروعوا هذه الحيوانات ببنادقكم، ولا تؤذوا غيرها"، حتى امتنع كثير منهم عن الصيد. كما كان يمنع من قطع الأشجار كيفما اتفق، قائلًا: "لا تقطعوا الأشجار، فإنها تذكر الله وتسبحه" .
    لم يكن هذا التقدير للحيوانات البرية ليكون من طرف واحد، بل قوبل بمثله، إذ سرعان ما أخذت تلك الحيوانات البرية تعرف الأستاذ وتكن له الاحترام، وتجلى ذلك في مواقف عديدة، منها ما ذكره (ملا حميد) حادثة، مفادها: أن الأستاذ النورسي طلب إليه أن يتوجه من معتكفه في جبل أراك إلى القرية لإحضار منام لضيوف وفدوا إليه، وكان أثناء الطريق حيوانات متوحشة يحذّر المارة منها، ويحملون العصي وغيرها للدفاع عن أنفسهم، فعمد لتهيئة بعض منها، إلا أن الأستاذ النورسي لمحه أثناء ذلك، واستفسر منه، فلما أخبره عن السبب شجعه على المضي قائلًا "استح، استح، مم تخاف، فلديك عصا وحجارة، فلم الخوف، اذهب فالكلاب لا تؤذيك"، فاطمأن لقوله ذلك ورمى ما في يده وتوجه نحو القرية مجتازا أعدادًا من الكلاب الضخمة التي كان يستحيل المرور بقربها دون أخذ الحيطة، وما إن رآه أهل القرية حتى أخذهم العجب من ذلك، ولما أخبرهم بالسبب، قالوا: من الذي لا يعترف بولاية الأستاذ وكرامته؟ . 
    وفي أحد أيام الجمعة، وبينما كانا عائدين من المسجد إلى ذلك المعتكف، اعترضت الكلاب طريقهما، ولما حاول هذا التلميذ الدفاع بتناول الحجارة، منعه من ذلك، ثم خاطبها قائلًا: "لسنا خونة، بل عابري سبيل، فتراجعت، حتى واصلا سيرهما."  
     وعلى ربوة ذلك المعتكف، أراد النورسي أن يبني غرفة قبل حلول موسم الشتاء، فلما قصد محبوه ذلك وجدوا مملكة من النمل في الأساس، فنهاهم عن المضي في ذلك قائلًا: "هل يجوز بناء بيت بهدم بيت آخر؟ لا تخربوا بيوت هذه الحيوانات، احفروا في مكان آخر" . وكان يلفت الأنظار إلى قيامها بمهمات جمع فتات الطعام صيانة لها من الامتهان، وكأنها موظفات صحية .     
     ومع أنه يجوز قتل كل مؤذٍ شرعًا كالذباب، لأنها تبتدئ بالأذى ، إلا أن بديع الزمان النورسي كان يتحاشى ذلك ويجتنبه، ويخصص أبحاثًا مهمة لبيان حكم خلقها، معتبرًا أن لها وظائف معنوية، مثل لفت الأنظار إلى القدرة الإلهية، وأهمية تكرار الغسل والوضوء بدلالة رعايتها المستمرة للنظافة، بالإضافة إلى منافع أخرى مادية جليلة، واقعة تحت العلم والحكمة الإلهية، مثل قتلها لجراثيم لا ترى وحيلولتها دون أمراض كثيرة، وإن لم يحط نظر البشر بها حتى الآن.
    ولا شك أن ذلك موافقٌ للأحاديث النبوية -الصحيحة في سندها- الواردة في ذلك، فقد أخرج الإمام البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء".  وهي تسعى لإقامة صداقة مع الإنسان بنظره، وتستحق التقدير -باستثناء الأجناس المؤذية منها والمتفق على جواز قتلها- بدل الإهانة. ولذلك كان ينهى تلميذه رشدي -الذي كان يخدمه- عن قتلها، ويقول في ذلك: لقد "مسّ ذلك –القتل- رقة قلبي، وأثّر فيّ كثيرًا" . 
    ونتيجة لهذا التقدير الذي كان يوليه بديع الزمان لهذه المخلوقات، فقد حدث أن أكرمه الله تعالى بصداقتها له؛ فقد أكد جمع من تلامذته -وهم: رشدي، رأفت، خسرو- أنه كان لا يقع الذباب على وجهه، وكتبوا ذلك في تعليق لهم عند إتيان النورسي على ذكر معجزة عدم إيذاء الذباب لحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وعدم وقوعه على ثوبه، وكذلك للإمام الجيلاني رضي الله عنه. 
    وكان يستدلّ بالنهي عن قتل الحيوان غير المؤذي بقوله لقاتله:
                    "هل تعرض لك؟  
                    هل أخذ منك شيئًا؟
                    أأنت ترزقه؟ 
                    هل يجول في أراضيك وأملاكك؟ 
                    أأنت الذي خلقته؟
                    هل تعرف لماذا خلقت هذه الحيوانات، وما هي وظائفها؟
                    هل إن الخالق خلق هذا الحيوان لتقتله أنت؟ 
                   من قال لك: اقتله؟. 
                   إن في خلق هذا الحيوان ألفًا من الحكم الربانية، 
                    فأنت يا أخي قد أخطأت في قتله. "  
     ونتيجةً لهذه النظرة الراقية للحياة والأحياء فقد تحولت حياة الإمام النورسي -بفضل الله تعالى- إلى حياة كلية كشجرة باسقة من العلم والنور والهداية، وانقلبت إلى حياة علمية واسعة، يتعدى تأثيرها إلى آلاف الأفراد، ويحمل أفكارها مئات الآلاف، وتصل علومها إلى الملايين.

نظرة القرآن إلى خصائص الحياة الإنسانية  
    ليس من شك في أن كمال الحياة وارتقائها قائم في الإنسان على الوجه الأتم الأكمل، وذلك لخصائص أساسية أربعة فيه تشكل حقيقة كيانه وخصوصية كيانه: 
                         -  جمع خواص الكون فيه، 
                         -  تجريده للمعاني الكلية،
                         -  ظهور تجليات الأسماء الحسنى فيه دفعة واحدة،
                         -  توقه الشديد إلى الأبد والخلود،
     ولا بد أن نتعرض هنا لتعريف ماهية الحياة وبيان خصائصها التسعة والعشرين،  والتي يدور شرح هذه الخصائص حولها، على النحو التالي:
    "الحياة لهذه الكائنات: أهم غاية، وأعظم نتيجة، وأسطع نور، وألطف خميرة، وأصفى خلاصة، وأكمل ثمرة، وأسمى كمال، وأزهى جمال، وأبهى زينة، وهي سر وحدتها، ورابطة اتحادها، ومنشأ كمالاتها، وهي أبدع ذات روح فيها، من حيث الإتقان والماهية، وهي حقيقتها المعجزة، تصير أصغر مخلوق عالمًا بحد ذاته، وهي أروع معجزات القدرة الإلهية، بجعلها الكائن الحي بمثابة كون مصغر، فكأنها -أي الحياة- وسيلة لانطواء الحياة في ذلك الكائن الحي الصغير، بما تظهر فيه ما يشبه فهرس الكون العظيم، كما تجعله في رباط وثيق مع معظم الموجودات. وهي صنعة إلهية خارقة، تكبر الجزء الضئيل إلى أكبر كل، حتى إنها تجعل الفرد بحكم العالم، وكأنه كلي، وتعرض الكون -من حيث الربوبية- في حكم الكل والكلي، الذي لا يقبل التجزئة والانقسام.
    وهي أسطع برهان ضمن ماهيات الكائنات، وأثبته وأكمله، يشهد على وجوب وجوده سبحانه، وعلى أنه الحي القيوم، ويدل على وحدته وأحاديته جل وعلا.
    وهي أبلغ صورة لصنعة ربانية حكيمة -ضمن المصنوعات الإلهية- وأخفاها وأظهرها، وأثمنها وأزهدها وأنزهها وألمعها. 
    وهي ألطف تجل للرحمة الإلهية، وأرقها وأدقها، تجعل الموجودات خادمة لها. وهي أجمع مرآة تعكس الشؤون الإلهية للأنظار.
    وهي أعجوبة الخلقة الربانية، إذ تجمع تجليات اسم: الرحمن الرزاق الرحيم الكريم الحكيم وأمثالها من الأسماء الحسنى، وتجعل الحقائق الكثيرة والمشاهدة كالرزق والحكمة والعناية والرحمة تابعة لها، فتقودها مثلما هي منشأ جميع المشاعر ومعدن الحواس العامة، كالبصر والسمع والشعور. 
    وهي ماكينة تنظيف عظيمة، وجهاز استحالة عجيبة في مصنع الكائنات، حيث تقوم بالتصفية والتطهير في كل نواحيه، فتطهر الشيء وتمنحه الرقي وتنوره، وكأن الجسد الذي هو عش الحياة دار ضيافة لقوافل الذرات ومدرستها ومعسكرها تتعلم فيه وظائفها، وتتدرب على أعمالها، فتتنور وتضيء.
     وهي وسيلة ينور بها الحي المحيي سبحانه عالم الدنيا المظلم الفاني السافل ويمنحه نوعًا من البقاء ويجعله بماكينة الحياة لطيفًا مهيئًا للمضي إلى العالم الباقي.  
    ثم إن وجهي الحياة -أي الملك والملكوت- صافيان طاهران لا نقص فيهما ساميان. وهي مخلوق خاص متميز عن كل خلق آخر، لم توضع له الأسباب الظاهرة حجبًا لتصرفات القدرة الإلهية، كما هي في سائر الأشياء، وذلك ليكون أمر صدورها من يد القدرة الربانية مباشرة دون حجب أو وسائط.
    وحقيقة الحياة نورانية تتطلع إلى الأركان الإيمانية الستة، وتثبتها معنى ورمزًا، أي: أنها تثبت وجود واجب الوجود سبحانه وحياته السرمدية.. والدار الآخرة وحياتها الدائمة.. ووجود الملائكة.. وتتوجه توجهًا كاملًا إلى إثبات سائر الأركان الإيمانية وتقتضيها.   
    وهي أصفى خلاصة مترشحة من الكائنات كلها، كما أنها أعظم سر يولد الشكر والعبادة والحمد والمحبة التي هي أهم المقاصد الإلهية في الكون، وأهم نتيجة لخلق العالم هذا."  
والآن لنشرع في شرح تلك الصفات الأربعة،
    أ - جامعية خلق الإنسان:
    لقد خلق الله الإنسان بأبدع صورة وأغرب مثال وأكمل أنموذج، فجعل فيه خواص كل ما في الكون، ففيه من صفات المادة التغير والتبدل، إذ جعلها أصله الأول ونقله فيها أطوارًا. وفيه من خواص النبات الاغتذاء والنمو، إذ أنبتنا الله من الأرض كالنبات، فكان خروجنا الأول من الأرض مثله تمامًا. ومن الحيوان يحمل الإنسان خاصية الحس والشعور، بالإضافة إلى تأصل الغرائز والشهوة. أما من الملائكة فمنح خاصية العبادة بما فيها من المعرفة والتقرب إلى الله جل وعلا.
    ثم ميز بخاصية الاختيار والمسؤولية، التي تفتح أمامه أبواب الاتصاف بأعلى الأوصاف وأدناها، ونيله أرقى الدرجات وأسفلها. وبهذا الاستعداد كرم تكريمًا فائقًا، وأمرت الملائكة بالسجود له، سجود اعتراف بهذا التكريم والتقدير.  
     وبهذا المفهوم لا بد أن تكون الحياة الإنسانية كلية، ومرتبطة بأكثر أنواع الكائنات زمانًا ومكانًا، فتقيم علاقات مع الوجود بأسره؛ وخاصة أنها مستخلصة منه، متأثرة به ومؤثرة فيه، ومؤشرة عليه، كتقويم ونموذج لما فيه، بل أحسن تقويم وأعلى نموذج عليه يمكن أن يوضع عليه. 
    فهي إذًا، تقويم إلهي للكائنات أرضًا وسماءً كواكب وفضاءً جمادًا وأحياءً ملائكة ونباتًا وحيوانًا، يهمه ما يهمها، ويؤثر فيه ما يؤثر فيها، كما تتأثر بما يتأثر به سواءً بسواء.
    وبهذا الوجه -وجه الملك الناظر إلى عالم الشهادة، وهو الوجه الأول للحياة- يكون الإنسان متميزًا على جميع المخلوقات خلقًا وعقلًا وتجريدًا، فيكون سيد جميع المخلوقات رغم أنه صغير جدًا، لما يملك من فطرة جامعة شاملة، وهو "خاتمة ثمرات شجرة الكون، وأجمع ما فيها من الصفات، وهو بذرتها الأصلية من حيث الحقيقة المحمدية، وهو الآية الكبرى لقرآن الكون.. وهو أنشط موظف، مأذون له التصرف في سكنى ذلك القصر، وهو المأمور المكلف عن حرث مزرعة الأرض والناظر المسؤول عن وارداتها ومصاريفها بما جهز من مئات العلوم وألوف المؤهلات، وهو خليفة الأرض، والمفتش الباحث في مملكة الأرض، والمرسل من لدن سلطان الأزل والأبد، والعامل تحت رقابته، وهو المتصرف في شؤون الأرض، مع تسجيل كامل لأعماله، جزئياتها وكلياتها." 
    ومع تكامل وعي الحياة بذاتها على ما هي عليه في هذا الوجه، من كلية وشمولية، ومع إدراكها لحقيقة ذاتها وعلاقاتها المحيطة بها زمانًا ومكانًا، ابتداء وانتهاء، وجودًا وعدمًا، تكتسب الحياة الإنسانية الأبد والخلود، سواء شاء صاحبها ذلك الخلود أم أبى، وسنعود إلى هذا الموضوع في حينه.    
  وبهذا الوجه يكون الإنسان منفذًا للشريعة التكوينية الصادرة عن صفة الإرادة، والمتوجهة إلى إعمار الدنيا، ويدرك جلالة النعم الممنوحة له، وجامعية الأجهزة المودعة فيه، وسمو الاستعداد الموهوب إليه، كما يستعد لإدراك جسامة المسؤوليات المترتبة عليه للوفاء بحق تلك النعم اللامتناهية، وتوجه تلك المسؤوليات إلى أهداف غير متناهية أيضًا، وغايات ومقاصد لا تنتهي، وأولها وأجلّها معرفة الخالق ذي الصفات المطلقة الكمال واللامتناهية العظمة؛ فيتهيّأ لإدراك ذلك العقد الأزلي المقدس القائم بين الخالق والعبد والمسجل في الأزل من عهد الذر، حين خاطبه مع بني جنسه قائلًا: ألست بربكم؟ قالوا بلى. ويبدأ يعلم مدى ارتباط أهميته بهذه المعرفة التي هي الهدف من إيجاده.

    ب - تجريد المعاني الكلية في الحياة:
    لا شك أن السبب الرئيسي في اكتمال معنى الحياة في الإنسان هو إدراكه الأمور الكلية، وقيامه بالأعمال، من جهة الاستنباط بالرأي والاجتهاد. فدماغ الإنسان الذي يقوم بعمليات التجريد الذهني، وتتم عبره مراحل الإدراك الحسي، يتم من خلاله أخذ صور مجردة عن الوجود، ونقل نسخ حية عن الأشياء، وإن بدرجات متفاوتة بين شخص وآخر. وكلما ازداد وعيه بها، كلما كانت استفادته منها أكثر، وتمكن من تذليلها لصالح انتفاعه منها، وقد تغدو الصورة متطابقة مع الشيء في الخارج، فيزداد نفوذه فيها، وبذا يغدو سيدًا نافذًا متصرفًا. وهذا ما يثبت أن الأصل في الوجود الروح، وأن المادة تابعة لها، ولا يمكن أن تكون أصلًا لها.
    يقول النورسي "إن المادة كلما صغرت ودقت (أي تكثفت عمليات التأثير فيها) كلما ازداد انطباع ملامح الحياة عليها" . فكلما أصبحت المادة أدق، كلما قويت الحقيقة بتلك النسبة.
ج - إظهار تجليات الأسماء الحسنى:
    أما أهم ما يميز الحياة الإنسانية على الإطلاق، فلا شك أنه يكمن في إظهارها للأسماء الإلهية الحسنى بوجوهها الثلاثة، وجه الانعكاس الضدي، على سبيل إظهار الضد لضده، وبيانه لمحاسنه. ووجه الانعكاس النسبي، على سبيل إظهار الفرق بين صفات النسبي والمطلق، ووجه الانعكاس الانتسابي، على سبيل إدراك انتساب المرء إلى خالقه بالإيمان ووعيه بتلك النسبة القائمة بينهما، والحاصلة لديه، مع إعلانه إياها. 
    وتكون الحياة  في هذا الوجه الثاني -وجه الملكوت الناظر إلى عالم الغيب- مستقبلة لما يفاض عليها دون أن يكون لها فيه أي تأثير، بل تكون موضع قبول بحت وتلق وانفعال وأخذ لما يلقى إليها، فهي مرتبطة بعالم الغيب -بهذا الوجه- ارتباط هوية وانتساب، تتحدد على ضوئه قيمتها وتجد به كمالها، وتنبسط استعداداتها، وتستبين معالمها وتتحقق كليتها في الزمان والمكان، فتخرج من الجزئية اللحظوية إلى الكلية الأبدية، وتدرك أن جامعيتها مرتبطة باستمدادها المستمر من عالم الغيب، وفي تمثيلها الكلي لتجليات الأسماء الحسنى، فتكتسب خصوصيتها، وتصبح "أسطع معجزة من معجزات القدرة الربانية وأجملها، وأقوى برهان من براهين الوحدانية الإلهية وأبهرها، وأجمع مرآة من مرايا تجليات الصمدانية وألمعها." 
    وإذ يتضح فيها ولديها بروز الأسماء الحسنى، وتغدو الحياة بنفسها أبرز دليل على الذات الإلهية، بذاتها ولذاتها -كما للآخرين، بما يفاض عليها من تجليات كثيرة مستمرة في آن واحد؛ إذ ذاك تنجذب إلى محبة الكمال غير المتناهي، بشكل لا متناه أيضًا، بما أودع فيها من ذلك. فعندما تدرك كمال الذات الإلهية، إذا بها ترتبط بها برباط المودة غير المتناهية -والذين آمنوا أشد حبًا لله - وتجد نفسها مضطرة لإعلان ولائها وانتسابها وتقديسها في كل وقت وحين بكل سرور وانشراح، وتتجلى تلك العلاقة وذلك الانتساب والإعلان بالتأمل والتفكر في ملكوت السماوات والأرض، بالإضافة إلى التشرف بالحضور بين يدي الخالق جل وعلا صلاة وتعبدًا، فتتواصل مسيرة الرقي المعرفي والتكمل العلمي باستمرار آنًا بعد آن، وينعكس ذلك على الذات في عالمي الفناء والبقاء. 
    فأما في عالم الفناء فينعكس ذلك طمأنينة وسرورًا وأما في عالم البقاء فقد آن وقت الحديث عنه.
د - توق الحياة إلى الأبد والخلود
    إن مركز الاتصال بين وجهي الحياة المذكورين آنفًا قائم في القلب المفطور على التوجه إلى الأبد والخلود. فالقلب الذي هو اللطيفة الربانية الآتية من عالم الغيب، والذي تستقر فيه العلوم، وتنبعث منه مختلف الأحاسيس والنوايا والمشاعر، وتنصب فيه الاهتمامات، وتتحدد لديه الاعتقادات والتصورات، وتصدر عنه الأوامر للتطبيق في العالم المشهود؛ هذا القلب لا يدرك للحياة طعمًا، ولا للوجود معنى ولذة، دون أن يرافقه تصور الأبد والخلود. 
     وهنا يبرز العنصر الرئيسي الذي يعطي تلك الحياة حياتها، أعني بذلك كليتها وشمولها وأبديتها، وهي الأمور المغروزة في صميم كيانها كما ذكرنا، والمنطوية في تكوينها، كما أنها نقطة الكمال المنصوبة أمامها للوصول إليها، والهدف الأسمى التي تجد سعادتها في السعي إليه؛ وبمعنى آخر: يبرز روح الحياة الذي يمدها بأسباب التحقق، ويؤسس علاقتها المتينة بعوالم الغيب والأبد، ويرشحها لنيله بطريق إيجابي، لينقلب معه استعدادها الكامن إلى شجرة باسقة؛ وذلك الروح هو: الخطاب الإلهي، الذي يوجه سيرها في هذا الطريق، ويمدها بأسباب التحقق والبقاء:
"ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاعبدون" .
"وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان، ولكن جعلناه نورًا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم" .
    وكلما زاد وعي الحياة بالخطاب الإلهي، وبطريق ارتقائها، عبر معرفة قيمة ارتباطها بالأسماء الحسنى، كلما استمرت الحياة تقدمًا على حساب الموت، وازدهارًا على حساب التلاشي، وثباتًا على حساب الاضمحلال، إذ يترسخ لديها الوعي بهذه الأسماء، وتتضح معاني ظهور الفعالية المثيرة والمدهشة، والمتواصلة في عمليات انبثاق الحياة والأحياء. 
    إذًا، يمكن القول: إنه لولا الخطاب الإلهي لما أدركت الحياة حقيقة ذاتها، ولما عرفت ربها، ولبقيت حائرة ضائعة على أرصفة الحياة وأبواب الوجود، لا تعلم للحياة حقيقة، ولا تفقه للوجود معنى، وحال إنسان العالم الغربي شاهد على هذا.
    كما يبرز للحياة وجهان جميلان مقابل وجه سيئ قبيح، وجه تكون فيه الحياة خادمة للأسماء الحسنى، ومظهرة لها، فتكون فيه منيرة منورة، وتذوق معه حلاوة الإيمان، وتتحقق به المعادلة القائمة في كيانها بمساواتها للأبدية، بأجلى الصور وأبهى الأشكال، فتكون هناك "وجوه يومئذ ناضرة- إلى ربها ناظرة" ، "في مقعد صدق عند مليك مقتدر" .  
    ووجه آخر تكون فيه الحياة بذرة ومزرعة للحياة الحقيقية التي سرعان ما تنقلب إليها، وهي الحياة الكاملة، "من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون" .
    لكن ذلك الوجه القبيح السيئ للحياة فهو ذلك الوجه الذي انكفأ على نفسه، ولم يستطع أن يحل مغزى الحياة ولم يدرك حقيقة الوجود، ولم يرض بقانونها، وأبى أن يدرك كليتها، فألغى الروابط مع الكائنات وخسر حياته وكيانه: "يقول يا ليتني قدمت لحياتي".  "قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين." 
    كما تبرز أيضًا غاية الحياة ونتيجتها بالنسبة للإنسان، وهي انقلابها إلى حياة أبدية سعيدة خالدة، يقول النورسي:
    "نعم، فما دامت الحياة هي حكمة خلق الكائنات، وأهم نتيجتها وجوهرها، فلا تنحصر تلك الحقيقة السامية في هذه الدنيا الفانية القصيرة الناقصة المؤلمة، بل إن الخواص التسع والعشرين للحياة وعظمة ماهيتها، وما يفهم من غاية شجرتها ونتيجتها، وثمرتها الجديرة بعظمة تلك الشجرة، ما هي إلا الحياة الأبدية والحياة الآخرة والحياة الحية بحجرها وترابها وشجرها في دار السعادة الخالدة" .
     وهكذا نجد القرآن الكريم يمدّ الروح البشرية بأسباب الحياة الكلية الأبدية، ويعطيها الغذاء الأغلى والحياة الأعلى، والتي تعدل ذرةٌ منها الدنيا وما فيها بل أضعافًا مضاعفةً منها، كمًا ونوعًا، زمانًا ومكانًا، ألا وهي مادة الإيمان واليقين، كيف لا؟ والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم يقول: "لن يدخل النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان" . يقول بديع الزمان في ذلك:
    "اعلم أيها الإنسان أنك ثمرة أو نواة لشجرة الخلقة، فبجسمانيتك أنت جزء ضعيف عاجز ذليل مقيد محدود، لكن الصانع الحكيم رقاك بلطيف صنعه من الجزء الجزئي إلى الكل الكلي. فبإدراج الحياة في جسمك أطلقك من قيد الجزئية في الجملة بجولان جواسيس حواسك المنبسطة على عالم الشهادة لجلب أغذيتهم المعنوية، ثم بإعطاء الإنسانية جعلك كالكل بالقوة كالنواة، ثم بإنعام معرفته ومحبته صيرك كالنور المحيط" . 
    ولهذا أدرك صاحب الحياة الكاملة -بل مركز الحياة وقطب وجودها- أعني به رسول الله عليه الصلاة والسلام أن المهمة الأسمى لديه تكمن في المحافظة على الحياة من الانحسار، فكانت حياته رحمة للعالمين بدخول المؤمنين الجنة وبتأمين غير المؤمنين من الخسف والقذف والزلازل في الدنيا. وكان يشبه نفسه بالرجل الذي يذود الفراش عن النار ويقول في تصويره البديع: "إِنَّمَا مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ جَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي تَقَعُ فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا فَجَعَلَ يَنْزِعُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَقْتَحِمْنَ فِيهَا فَأَنَا آخُذُ بِحُجَزِكُمْ عَنْ النَّارِ وَهُمْ يَقْتَحِمُونَ فِيهَا". وفي رواية مسلم: "وَأَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ وَأَنْتُمْ تَفَلَّتُونَ مِنْ يَدِي" .
   ويشبه النورسي الحياة المحمدية بالنواة الأصلية لشجرة الوجود. فكما يجمع الفاطر الحكيم شجرةً عظيمةً في بذرةٍ صغيرة، أو طاووسًا بديعًا في بيضة ما، كذلك فقد جمع الكون الأعظم في حياة الحقيقة المحمدية، وكانت سببًا لسعادة حيوات كثيرة، ولإيصال ماء الحياة إلى الأفئدة والقلوب.
بهذا التوجّه أرسى النورسي في مجموعته الموسومة برسائل النور دعائم قيمة الحياة وكرامة الإنسانية، وحرص أن يقدّم تطبيقاتٍ دقيقةً صارمةً في حياته الشخصية على عدم المسّ بأبناء الحياة. كما ساهم جاهدًا في حياته العملية واهتماماته الثقافية والاجتماعيّة على صناعة الحياة الطيبة وإثراء العلاقات الإنسانية وتمتين اللحمة البشرية، مفهومًا ووجدانًا وعقيدةً وأخلاقًا وتوجهًا فكريًا رائدًا، فكان بحقّ مجددًا بارزًا وعلمًا مبرزًا على صعيدٍ محليّ إسلاميٍّ، وعالميٍّ إنسانيّ أيضًا. 

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net