Tahawolat

1-فلسطين: والواقع السياسي الراهن
     لربما أصبحت للمفاهيم الوطنية في العالم العربي مداليلها الفردية، فبات العالم العربي يتماهى من شدة الأوجاع التي أصابته في وحدته السياسية وقراره المصيري حول قضاياه الأساسية، فشعر بشيء من سيمفونية صاخبة ما شابهت يومًا ما يحاكي الروح والوجدان، حيث يتسامى الفرد والجمع بإيقاع يتفاعل مع المحيط والواقع الاجتماعي والسياسي. ولربما باتت القضايا المركزية في العالم العربي تشكل العبء الذي يتهرب منه من يتصدر القرار السياسي في ظل الهيمنة الأميركية، التي منحت الحماية الدولية والرعاية الكاملة للكيان الإسرائيلي، فسعى دعاة "السلام" المزعوم للبحث عن المخارج المتعددة، التي لا تصل إلى حيز الحل الدائم والشامل، لاسيما وأن بعض الإجراءات العربية التي ترافقت مع تداعيات سياسة الولايات المتحدة الأميركية في عهد الرئيس دونالد ترامب تجاه المملكة العربية السعودية، كانت قد أدت إلى تنحية ولي العهد من منصبه السياسي ليحل بديلًا عنه نجل الملك، بانتظار التسويات العربية- الإسرائيلية الجديدة التي لا تتعارض مع الفكر السياسي والأيديولوجي للكيان الإسرائيلي. ومن المفارقات التي سبقت ذلك في قمة الرياض، أن تناسى فيها المجتمعون قضية القدس، فحصرت القضية الفلسطينية بالشعب الفلسطيني وحده، بذريعة أن للعرب قضاياهم القطرية الخاصة، وأزماتهم الداخلية ومنها قضية اليمن والبحرين وسوريا، فضلًا عن الاشتباك السياسي السعودي مع دولة قطر. مما بيّن عن هوة الاتساع العربي، والخلافات الاستراتيجية حول القضايا المركزية وسياسة الاستتباع. فيما كانت المراحل التاريخية السابقة التي واكبت الأحداث تباعًا، تبين مدى الإحساس بالمسؤولية لدى الشرائح الاجتماعية العربية، فمنذ أن دخل اليهود إلى فلسطين وبدؤوا في تنفيذ مخططهم لإقامة دولتهم، بدأت حركة الجهاد والمقاومة، واتخذت أشكالًا عدة، وعلى رأسها القتال المسلح بمواجهة الصهاينة، وغالبًا ما كانت تسمى بحرب "العصابات" فتقوى حينًا وتضعف أحايين أخرى، كل هذا المحاولات كانت من داخل فلسطين. أما من خارجها فلم يكن هناك أي مواجهة مع اليهود إلا الدعوات المتكررة للجهاد التي قام بها العرب بعد قيام دولة "إسرائيل"، فكانت معاركهم خاطفة، كما حدث في معركة الكرامة ونحوها، أما ما عدا ذلك فلم تدخل "إسرائيل" في أي حرب حقيقية مع العرب سوى عام 1973، وهي الحرب التي كان لها بعدها الوطني والقومي والمرتبطة بمجموعة من الأهداف المحددة، والتي حافظت على الثوابت السياسية الدولية، فلم تجر فيها أية محاولة في تغيير قواعد اللعبة. فحينها لم تسمح الولايات المتحدة بذلك مقابل الاتحاد السوفياتي، بأي تجاوز للخطوط الحمراء، فعندما تحققت تلك الأهداف والتي كان في مقدمتها تحريك الوضع السياسي الإقليمي الذي كان يسيطر عليه الجمود آنذاك، وإعادة سيناء إلى مصر عربونًا لها لأنها كانت تتزعم محادثات "السلام" مع "إسرائيل"، من أجل تهيئة المنطقة لمرحلة "السلام" مع اليهود، أما ما عدا ذلك فلم تكن هنالك مواجهات حقيقية مع "إسرائيل". لاسيما بعد أن سادت لدى العالم العربي نظرية "الدولة التي لا تقهر"، فأحدث ذلك هزيمة نفسية حلّت بالمجتمع العربي، فركن للاستسلام. وكان كل ذلك من صنع الإعلام العَربي قبل غيره، كتبرير عن سياسة الفشل وسوء التخطيط والخضوع للإرادة الأميركية، فقد كانت تلك الحالة جزءًا أساسيًا من الاستراتيجية اليهودية التي اعتمدتها "إسرائيل" في حربها على المجتمع العربي، عبر إشاعة سياسة الرعب في قلوبهم، فنمّاها وقوّاها الخيانات العربية المتوالية وانهزام الأحزاب في المواجهة. في حين أثبتت الأيام أن الواقع الأمني والسياسي والاجتماعي، يمكن أن يبدل الوقائع ويبين عن حالة الانهزام الفكري والأمني بعد التجربة اللبنانية عبر المواجهة والمقاومة التي سددت الضربات العسكرية المباغتة والمواجهات الكلاسيكية في أكثر من مكان في لبنان منذ عام 1982 وصولًا إلى المواجهة عام 2006، بالإضافة إلى انتفاضة الداخل في القطاع وغزة والمواجهة عام 2008، مما بيّن عن ضعف الإرادة الصهيونية رغم انهيار النظام العربي.
     إن استراتيجية حماية "إسرائيل"، ترتكز على الحماية الدولية للرعاية الأميركية، فضلًا عن الدول الإقليمية التي تدور في الفلك الأميركي، فـ"إسرائيل" كيان عنصري غريب عن محيطه العربي وغير مندمجة مع غيرها من شعوب المنطقة، وبالتالي فهي خليط من شعوب وإثنيات يهودية غير متجانسة، ومتفاوتة في بيئتها الاجتماعية، متعددة الأعراق وتنخر فيها الطبقية والحزبية، ومع ذلك فهي أقلية في وسط بيئة غير بيئتها، وأرض غير أرضها، تتوجس من شعوب تلك الدول التي تنتظر اللحظة التاريخية المناسبة للانقضاض عليها، وسحق وجودها. فـ"إسرائيل" تفقه هذه الحقيقة مهما حاول بعض حكام المنطقة العربية أن يشعروها بالحماية والأمان، لأن العقيدة الدينية والوطنية لا تنسجم مع الرؤى الغربية تجاه الكيان الصهيوني. فالحق يبقى ثابتًا لا يتبدل أو يتغير بتقادم الزمن عليه، وبالتالي بات واضحًا للعيان من خلال المواجهات التي قامت بها، والضربات الأمنية الاستباقية أنها لا تملك مقومات الدولة المستقرة الآمنة، إنما تعتمد بالدرجة الأولى على الدعم الخارجي العسكري والاقتصادي والسياسي، وعليه طرحت عدة مشاريع استراتيجية لحماية "إسرائيل" وترسيخ أقدامها، وتجنيبها المخاطر والمفاجآت أهمها:

-إقامة "إسرائيل" الكبرى، بعد دولة النواة، نحو بناء إمبراطورية داود ترسيخًا للعقيدة التوراتية، وسعيًا للإمساك بالعالم العربي من خلال الاقتصاد والتبعية.
-تفتيت المنطقة العربية إلى دويلات متنافرة وصراعات طائفية ومذهبية.
-التحضير والعمل على مرحلة "السلام مقابل الأرض".
-تفعيل الدور السياسي في الشرق الأوسط.

والواقع يبين خلافًا للمرتجى المنظور، فقد ثبت فشل النظرية الأولى واستحالتها، لأنها لم تستطع أن تحافظ على أمنها واستقرارها وسيطرتها على رقعة صغيرة، لا تعادل إلا نسبة صغيرة من مخطط "إسرائيل الكبرى"، فكيف تستطيع أن تحافظ على أضعاف ذلك فيما لو سيطرت على أكثر. أما النظرية الثانية التي اعتمدتها في سياستها، فقد حققت نجاحًا محدودًا، لا يمكن الاعتماد عليها، وهنالك العديد من النماذج التاريخية التي جاءت بهذا السياق، فالحرب اللبنانية والفكر الانعزالي كانا منطلقًا لتحقيق تلك الاستراتيجية، ثم جاءت الحرب العراقية الإيرانية، وحرب الخليج، كمحاولة لتفكيك العراق بعد الغزو الأميركي، ثم الحرب على سوريا والعراق عبر مسميات متعددة، كل تلك الأحداث ونتائجها أثبتت فشل هذه الاستراتيجية وصعوبة تحقيقها.

أما مرحلة "السلام"، ومفهوم "الشرق أوسطية" كنظرية سياسية حديثة، تبنتها جهات متعددة من حلفاء "إسرائيل"، فقد كانت ذرًا للرماد في العيون، لأنها طمس لحق العودة والإقرار بسياسة الأمر الواقع، فلم تحقق مبتغاها المنشود، لذا أدركت تلك القوى الخارجية صعوبة نجاح الاستراتيجيات السياسية الأخرى التي كانت مطروحة بوجود رديف لها في العالم العربي، والتي تزعمها "شمعون بيريز" رئيس وزراء "إسرائيل" قبل رئاسته للكيان الصهيوني، عندما كان وزيرًا للخارجية، كزعيم لحزب العمل، وأثناء ترشحه لرئاسة حكومة "إسرائيل"، باعتبار المرحلة التي حكم فيها شارون، كانت تفترض أن تكون مهمة محدودة.

إن المفارقة الأساسية في هذه الحركة السياسية الصهيونية، كونها أرادت التأكيد على تفعيل هذه النظرية قبل عدة سنوات من طرحها على بساط البحث، وعبر قنوات مؤثرة في القرار الدولي والعام، وذلك من خلال تسويغ أبرز الميادين التي استندت إليها من خلال المؤتمر الاقتصادي، ومشروع العولمة، إلى جانب دور منظمة التجارة العالمية التي كان من أولوياتها دفع هذه الاسترايتجية إلى الأمام، باعتبارها ستؤدي الدور المرتقب منها في منطقة الشرق الأوسط كما حددته السياسة الدولية ومن خلفها "إسرائيل". والتي تقوم على دمج دول العالم العربي في استراتيجية اقتصادية واحدة برأسمال عربي وفكر صهيوني، من خلال سياسة لا ترتكز على مفهوم القومية أو الدين، بل على الرقعة الجغرافية المحدودة فيما يسمى بـ"الشرق الأوسط الجديد/ الكبير"( ).

ومن الواضح أن هذه النظرية، كانت محطة لاختبارات متعددة في العالم العربي، بغية تأدية وظيفتها السياسية والأمنية، فجاءت المؤتمرات على اختلافها تسويغًا للإرادة الإسرائيلية، فضلًا عن محاولة لرسم الخارطة السياسية المرتقبة من خلال العدوان الإسرائيلي لعام 2006 و2008، ولاحقًا في الأحداث المتنقلة في العالم العربي، والتي كانت تستهدف بنيته السياسية وقدرته العسكرية سواء في مصر أو العراق أو سوريا، لاسيما وأن نجاحها كان يعتمد بالدرجة الأولى على الشكل السياسي المرتقب لما ستكون عليه المنطقة العربية بعد إعادة ترتيبها في ظل المتغيرات الدولية الجديدة.

وفي هذا السياق، نشرت الصحف الكويتية تصريحًا لشارون( ) عندما كان وزيرًا للزراعة في حكومة الكيان الصهيوني، ذكر فيه "إن الأردن لا تعدو أكثر من ربع مساحة إسرائيل"، وبعملية حسابية بسيطة لا تستدعي الشرح، ندرك أن الأردن من الناحية الجغرافية أربعة أضعاف مساحة فلسطين، أي إن الأرض التي يطالب بها شارون وفقًا لمقولته ضعف مساحة فلسطين. والمفارقة في هذا الشأن أن ذلك لا يقتصر على رأي ما، إنما في واقع الأمر ترتبط هذه المسألة بالاستجابة للقناعات والعقائد التي دعت لها الحركة الصهيونية، تارة من الناحية السياسية تسويغًا للحق التاريخي وأخرى للحق الديني، وعليه يمكن الاستدلال على ذلك بما وجد في خزائن روتشلد الذي أرسل إليه وعد بلفور، خريطة لأرض إسرائيل المرتقبة، والتي تشمل بلاد الشام والعراق وبعضًا من تركيا وشمال الكويت والسعودية، بحيث يدخل ضمنها خيبر والمدينة المنورة وشرقي مصر حتى النيل، وهذا ما تدعو له الحركة الصهيونية بالحدود المراد الوصول إليها بعد بناء دولة النواة والخروج من الغيتو السياسي.

     إن المعالجة التاريخية لسير الأحداث التي عاشتها فلسطين، تبين عن الفجوة بين المجتمعات العربية والحكام، وإلى تشتت الجهود الفلسطينية خلال العشرينيات من القرن المنصرم في أكثر من اتجاه، فعندما قدم اليهود سنة 1919، كان تصورهم بالحد الأدنى الذي يرغبون به لحدود الوطن القومي اليهودي، والذي يشمل فلسطين وأجزاء من لبنان وسوريا وشرق الأردن. وكان ذلك قبل أن يقيموا دولتهم المزعومة بحوالي 30 عامًا، وهم في واقع الأمر كان لديه استراتيجيتهم للوصول إلى إمبراطورية داود من خلال ضعف وتمزيق العالم العربي والإسلامي. عبر قطع مراحل سياسية معينة، فلما حصل قرار التقسيم لفلسطين في الأمم المتحدة سنة 1947، لم يكتف اليهود بالنصيب الذي فرضته السياسة الدولية الراعية لهم والقاضي بإعطاء اليهود 56% بل سعت لإضافة مساحات أخرى، حيث أصبحت المساحة المحتلة المغتصبة من أرض فلسطين 78%. وعليه فإن الأرض التي صادرها اليهود من أصحابها حتى نهاية العام 1985، من الضفة الغربية -حسب اعترافهم- تزيد على 52% من مساحة الأراضي، وأن عدد مستعمراتهم في الضفة 150 مستعمرة، كما صادروا أكثر من 30% من مساحة قطاع غزة، إذ إن الهدف يكمن بتغيير جغرافية الأرض الفلسطينية لصالح المهاجرين اليهود الجدد.

في المقابل، توالت تصريحات القادة الصهاينة حول أحقيتهم بجوار فلسطين، ففي تاريخ 2/1/1956، صرح بيغن فقال "أريد أن أدين امتناع الحكومة ]الإسرائيلية [عن الإدلاء بصوتها حول قبول "الأردن في الأمم المتحدة، إذ يدل هذا العمل ضمنًا على تنازلها عن الأراضي المحتلة، بينما يرى شعب "إسرائيل" في "رانس جورادان" –الأردن- المحتلة طرفًا مقطوعًا من قلب الأمة النابض، لتتجرؤوا على القبول بالأمر الواقع فتسمحوا بقيام دولة غير دولتنا ووطننا التاريخ.. أرجو أن أكون بكلامي هذا قد عبرت عن آراء أغلبية اليهود في العالم( ). 

     إن المطالب اليهودية كانت تكمن بقضم الأراضي العربية تباعًا، فضلًا عن الادعاء بـ"السلام" وفقًا لإستراتيجياتها التي اعتمدتها مع العالم العربي في الحروب المتلاحقة، ولاشك أن "السلام" المزعوم الذي اعتمدته في محاولات متلاحقة، كان بهدف فرض وجودها وقبولها في النظام العربي كمقدمة لسياسة التطبيع، مما يدفعنا للتساؤل عما إذا كانت "إسرائيل" حقًا تريد "السلام"؟. 

     إن "السلام" الذي أقامته "إسرائيل" مع مصر من خلال معاهدة كامب ديفيد، هو سياسة فيها نظر حيال المستقبل الذي ترتقبه، فمصر تمثل بلا أدنى شك الثقل الأساسي في العالم العربي. وهي في مقدمة الدول العربية المعنية بالقضية الفلسطينية، كما وأن لها مع الكيان الصهيوني جبهة قتال واسعة تمتد بمئات الكيلومترات، وعليه فإن تحييد مصر عن الصراع العربي- الإسرائيلي يمثل ضربة قاسية وكارثة توجه للعرب والمسلمين. تكون نتائجها القريبة جموعًا عربية ممزقة وصفوفًا مشتتة، فتؤدي هذه المسألة وظيفتها بهذا الصلح الذي يضمن الهدوء على إحدى الجبهات العسكرية، حيث تتفرغ "إسرائيل" للجبهات المواجهة، وتحديدًا الحدود اللبنانية بعد اتفاق القاهرة.

     لقد كان الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1978، بعد زيارة الرئيس المصري أنور السادات للقدس وأثناء إقامة محادثات "السلام"، ثم تلاه الاجتياح الثاني الذي استهدف القضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان، والذي انتهى بتشتيت شمل المقاومة الفلسطينية في البلاد العربية ما بين سوريا وتونس وليبيا في صيف 1983. ثم جاءت الأهداف الاستراتيجية بعيدة المدى للكيان الصهيوني بتزايد النشاط الاستيطاني اليهودي تجاه الضفة الغربية والقطاع، وكان أكبر بكثير مما سبق معاهدة الصلح مع مصر، دون أن تخفف "إسرائيل" من ميزانية الأسلحة والقتال رغم الوضع الاقتصادي الصعب الذي كانت تمر به، وعجز العرب عن المواجهة العسكرية المحتملة بل تحييد بلدانهم عن بؤرة الصراع. 

2-التجربة الفلسطينية وتجزؤ العالم العربي
شكل الوعي القومي العربي، ارتدادًا فكريًّا لما شهدته فلسطين من محنة جراء الهجرة اليهودية المتعاقبة إليها، لاسيما بعد أن أسست الجاليات اليهودية وطنها القومي المزعوم على أراضيها، فبدا الفكر الاشتراكي منذ مطلع خمسينيات القرن المنصرم( )، راسخًا لدى العديد من الشرائح الاجتماعية العربية والفلسطينية، قبل أن يتحول الفكر الليبرالي نحو النزعات الطائفية المنغلقة على نفسها، فكانت جل تلك الحركات الوطنية تعتمد بالدرجة الأولى بالمواجهة على المرجعيات العربية والإسلامية الإقليمية منها والدولية. إلا أنه كان واضحًا فقدان الدور العربي المؤثر في الصراع مع "إسرائيل" بعد اتفاقية "كامب ديفيد"، لذا أدت محاولات المواجهة المختلفة الدعوة إلى مقاطعة البضائع الأميركية دون المحاولة الجادة في البناء الاستراتيجي الفاعل لمواجهة السياسة الإسرائيلية.

     كل تلك المحاولات لم يكن لها أي قيمة تذكر سواء في الشأن الاجتماعي- الاقتصادي أو بالشأن الاستراتيجي- الأمني، فيما كانت مثل هذه المحاولات قد اعتمدتها دول "عدم الانحياز" خلال فترة سابقة, في الوقت الذي كانت فيه تجربة عام 1967 تجاه المجابهة بقطيعة البضائع الاقتصادية، غير فاعلة جراء فقدان اللحمة العربية. فـ"إسرائيل" كانت قد سعت في تركيبة بنيتها الكيانية على إيجاد المستوطنات الدفاعية تجاه بعضها البعض، بهدف القمع السياسي والعسكري الصهيوني لأي حركة مواجهة له. 

في المقابل، فقد كان التفاهم العربي مع "إسرائيل" عبارة عن غطاء منهجي وعقلي للجانب العربي، لأنه لم يمنع من مكافحة الاستيطان لليهود الذين جاؤوا من وراء البحار، بالإضافة إلى فقدان تأثير العامل القومي لديه في العمل على تفكيك النظام العنصري، ومنع سياسة الإبادة التي اعتمدتها "إسرائيل" نحو الشعب الفلسطيني. ومن المفارقات التي شهدتها التجربة السياسية والتاريخية، حيال الحركة الصهيونية، إن هذه الأخيرة كانت تعتمد على النص الديني في حركتها السياسية وفي ذلك إغفال واضح للنص القانوني، ومن هنا يمكن ملاحظة الممارسات الإسرائيلية التي تسوغ من خلال المفهوم الديني، فـ"إسرائيل" كانت تعتبر نفسها فوق القانون الدولي وتسوغ للمنطق الديني بكل أعمالها. وبالتالي فإن شيوع المنطق الديني لم يقدم الحل العادل الذي يرضي المجتمع العربي. ولو سوغ العرب أنفسهم المنطق الديني نفسه لطالبوا بحقهم في إسبانيا ومدريد وغيرها من الأماكن الكيانية التي تواجدوا فيها، والتي كانت يومًا تحت السلطة العربية والإسلامية. فضلًا عن ذلك فمن الواضح على المستوى الأوروبي، مدى تفاعل بعض اليهود مع الفلسطينيين، في محاولة تغيير اللغة المعادية للسامية التي تقابل الحركة الصهيونية، في الوقت الذي نادت إرادة الفاتيكان لأن تكون مدينة القدس مدينة مفتوحة لعودة اللاجئين إليها. إلا أن التجربة السياسية السالفة، كانت قد أثبتت أن القرارات الفلسطينية والأجنحة العسكرية الداخلية فيها لم تكن متماسكة، بالإضافة إلى فقدان قرار التضامن العربي، وانتشار نواة المقاومة وظاهرة أسلمة بعض المنظمات الفلسطينية.

أ‌-السياسات والبدائل 
إن الكيانات السياسية التي عرفها العالم العربي، فرضت عليه بموجب التقسيم السياسي ورسم الخارطة للشرق الأوسط من خلال إيجاد كيان "إسرائيل" بدلًا من إقامة الدولة الفلسطينية، حيث أدى ذلك إلى تشريد الشعب الفلسطيني في الشتات وإسقاط حق عودتهم إلى وطنهم الأم، بل واعتماد التعويض المالي، والتوطين في بلاد الإقامة، ومن ضمنها لبنان. فضلًا عن إلغاء نشاط الأونروا لمساعدة الفلسطينيين، وبالتالي كانت قد طُرحت العديد من التسويات والشروط التي أدت إلى التنازل عن القدس الشرقية، والقبول بتقسيمها وتدويلها. بالإضافة إلى إلغاء كل القرارات والاتفاقات السابقة، وإغلاق الباب على ما يُسمَّى بحقوق الشعب الفلسطيني.

إن التنازلات كانت قد طاولت جملة من الأُمور التي تتعلَّق بالأسرى وإنشاء المستوطنات، وتتعدى ما ظهر في معاهدة كامب ديفيد وأوسلو. إلا أن المفارقة الملفتة في هذا السياق التاريخي، أنَّ الولايات المتحدة الأميركية لم تعترض أو تؤيِّد علنًا ما كان قد ظهر إلى العلن خلال الفترة التي كانت تتم فيه المحادثات بين العرب و"إسرائيل"، بهدف فسح المجال لملء الفراغ السياسي القائم، وتقطيع الوقت ريثما تنجلي الوقائع العراقية، واستحقاقاتهم الرئاسية. فيما كان اتفاق أوسلو قد شكل تراجعًا عن الحقوق المشروعة للفلسطينيين، وكانت تجربته مخاضًا سياسيًّا أدى بالأخير إلى الاعتراف من المخططين الفلسطينيين لتلك المحادثات، إن "إسرائيل" كانت تريد فقط أن تتخلص من ورطتها بمواجهة انتقاضة الحجارة، وإذا أعطت شيئًا شحيحًا للجانب الفلسطيني، كان بهدف إخماد الانتفاضة والتقليل من احتمالات الأخطار المحدقة بتداعيات الواقع الأمني، وما أن رأت مشكلتها قد حلت وأحسّت أن الشعب الفلسطيني لم تعد لديه القدرة على استئناف الانتفاضة ومواصلة المقاومة والمواجهة، حتى كشفت عن أهدافها الذاتية التوسعية.

     لقد أثبتت التجارب السالفة عن المستوى الأمني الذي تتمسك به "إسرائيل" حيال المجتمع العربي، وإلى أي مدى كان لديها استعدادات بالتجاوب تجاه ما تعتقده القيادة الصهيونية، من أنهم أصحاب "الحق التاريخي والديني". لذا كانت تداعيات اتفاق أوسلو قد وضعت الشعب الفلسطيني أمام خيار الانتفاضة، جراء تسارع الأحداث السياسية التي رافقت تلك الحقبة. 

ويبدو واضحًا أن ما شهده العالم العربي من ارتدادات طالت البنية الكيانية والهوية والانتماء، كانت بالدرجة الأولى بسبب التخلي عن مفهوم المواجهة، لاسيما في الفترة التي رافقت المرحلة التي زار فيها الرئيس المصري أنور السادات فلسطين من عام 1977، حيث التقى فيها بقادة اليهود، حيث ألقى خطابه في الكنيست الإسرائيلي، ثم ما لبثت المفاوضات أن تسارعت حتى تمخضت عن توقيع معاهدة كامب ديفيد برعاية الولايات المتحدة الأميركية وذلك في عام 1979، وعلى إثر ذلك تم عزل مصر عن بقية الدول العربية جراء هذه المعاهدة المنفردة.

     ويبدو أن مرد ذلك قد ترك انعكاسه داخل العالم العربي، فجاءت المرحلة التي اندفعت فيها المفاوضات بين العرب و"إسرائيل" في أوسلو عام 1993 بشكل متزايد مع الأنظمة العربية مجتمعة، بالإضافة إلى عملية الاستفراد السياسي كعملية ثنائية لابد منها مع الكيان الصهيوني. وعليه كانت قد جاءت مرحلة مدريد بعد حرب الخليج الثانية ثم أوسلو، لتطلق مسألة "التطبيع" العربي الإسرائيلي من عقاله، خاصة مع الطرف المباشر، وهم الفلسطينيون؛ فما هي سوى عشرة شهور، وتحديدًا في شهر يوليو 1994، وقع الأردن اتفاقية (وادي عربة), وما أن حدث ذلك حتى انطلق مسلسل سريع من الهرولة العربية صوب تل أبيب؛ من موريتانيا إلى المغرب إلى تونس وبقية الدول العربية.

     إن مجريات الحدث السياسي الذي رافق التسعينيات من القرن المنصرم، كان يؤسس لمشروعية كيانية بنيت على الأيديولوجيا في فلسطين وشرعنت ما لم يكن له شرعية، وإن بقيت المسألة في إطار الأنظمة السياسية إلا أنها كانت تبين أن فكرة "التطبيع" هي انعكاس للنظام السياسي، ومستوى قدرتها على تطويع إرادتها كما ترغب، إلا أن تعاقب الأحداث السياسية والأمنية أدت إلى اتباع استراتيجية "التهدئة التكتيكية" ما بعد مؤتمر الإسكندرية من العام 1995. فأدرك النظام العربي أن موجة الهرولة العربية نحو "إسرائيل" يؤذن بإنجاح مشروع شيمون بيريز الشرق الأوسطي القائم على فكرة التمدد السياسي والاقتصادي الإسرائيلي في المنطقة من خلال السوق الشرق أوسطية بلا ثمن. 

     إن المفارقة في هذا الصدد، تكمن بمدى تجيير هذه المعرفة لمواجهة كل ما من شأنه إيجاد أسواق تجارية تعود بالنفع على الاقتصاد الإسرائيلي، في الوقت الذي تكون مجموعة الدول العربية مكانًا استهلاكيًّا يخضع للسياسة الإسرائيلية, ومع هذا كانت قد أدركت ذلك الدول المحورية السعودية مصر وسوريا هذه المخاطر، في حين لم يظهر على المستوى العربي مناهضة يمكن أن تؤسس لاستقلال الهوية العربية والحفاظ على المقدرات الاقتصادية، بمعنى تسويغ الفكرة الإسرائيلية، التي كان يراد منها ترسيخ منطق الفكر الإسرائيلي بالمال العربي. ويبدو أن الجدليات في هذا المضمار كانت كثيرة، فـ"إسرائيل" كانت على الدوام تتجاهل النوايا العربية في "التطبيع" بشأن الحد الأدنى من الحقوق، مع هذا ظهر في العالم العربي من يسوق لهذا الأمر.  
     إن فرض الواقع على السياسة العربية، كان قد ترك أثره تجاه الكيان الإسرائيلي، مما حدا بمتابعة المفاوضات الثنائية، وفي هذه الأجواء العربية المضطربة جاء مؤتمر القمة الذي عقد في الإسكندرية عام 1995م لتهدئة الهرولة تجاه الكيان الصهيوني، حيث بدأت موجة عارمة من الضغوط التكتيكية على الدول العربية المطبعة والمتجهة نحو "التطبيع" كي تهدئ جماحها بالتطبيع مع "إسرائيل"، ككيانية لها مشروعيتها داخل المجتمع العربي، وهو ما استجابت إليه معظم الدول في واقع الحال؛ إذ بقيت العلاقات الدبلوماسية في حدها الأدنى في غالب الأحيان.

ب‌-التجربة العربية المعاصرة

ولكن تبقى التجربة العربية رهينة للمستجدات التي طالت مفهوم الكيانية بقنواتها الداخلية والإقليمية، فيما كان يترافق ذلك كله بما يتعلق بسير المفاوضات العربية- الإسرائيلية؛ فقد كانت استراتيجية الدول ترتكز إلى: 

-تزامن "التطبيع" مع سير المفاوضات؛ إذ من دون الوصول إلى تسوية حقيقية لا يمكن الحديث عن "تطبيع" مع الكيان الصهيوني، وكان واضحًا أن سير المفاوضات الأولية شكلت مجموعة من الاتفاقات التي تلت اتفاق أوسلو، والتي بينت عن  صعوبة التسوية مع المطالب الإسرائيلية التي لا يقبل بها أحد في الساحة الفلسطينية والعربية.
-تصاعد انتفاضة الأقصى واشتداد المقاومة المسلحة التي بينت عن مدى ارتقاء البعد المقاوم بوجه "إسرائيل" وتكافؤ القوى المواجهة داخل فلسطين.
-محاولة إزالة كل حالات التمييز العنصري التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ العربي- الإسرائيلي من خلال التبادل الثقافي والعلمي في كل الحقول.

ويبدو جليًّا أن تعزيز التفاهم الثقافي المتبادل، كان عثرة صهيونية جراء الفكر الديني  والاختلاف في مفهوم القيم "التاريخية" المختلفة، لذا تشكل المفارقة الصهيونية اختلافًا بيّنًا بسبب الاعتقاد الأيديولوجي المعادي القائم على سياسة التعصب والتمييز، فضلًا عن تسويغ الجوانب المعادية، التي تعكس العبارات العدائية في نصوص "التشريعات الدينية".

     إن مرد الخلاف في الشأن السياسي، كان مدعاة لتجاذب بين البعد النظري والجانب الفكري، وبدا الاختلاف البيّن، من شأنه أن يتناول الفكر والعقيدة والوجود السياسي، وبالتالي الكيانية ببعدها الوجودي، والتي هي قضية اختلافية بالمنظار العربي والإسلامي، في ظل تجزؤ العالم العربي إلى كيانات مصطنعة جراء الفروض السياسية التي رافقت اتفاقية سايكس- بيكو. فبرزت تسويغات تبريرية على الساحة اللبنانية والعربية تعنى بوسائل "التطبيع"، أي "التطبيع الثقافي"، وهو من أخطر الوسائل التطبيعية، ومن مرتكزاتها الاهتمام بعيّنة من الكتاب والصحفيين والأكاديميين، في العالم العربي والإسلامي، بل وفتح المنابر لهم لعرض التسويغات التبريرية، فضلًا عن توفير الفرص التي من شأنها أن تدفعهم إلى المناصب السياسية والاجتماعية المتقدمة، حتى ولو كانت مؤهلاتهم على اختلافها متواضعة وضعيفة، وليست بذات شأن في أي سياق من السياقات السياسية والتاريخية، لاسيما وأن بعضها كان من خلال جمعيات أهلية تدعم مشروع التسوية بين الفلسطينيين والكيان الصهيوني. 

     إن المفارقات العربية في الشأن التسووي، كانت تبين إلى أي مدى انتشرت السياسات الإجرائية التي تمهد إلى "التطبيع"، من خلال إيجاد مجموعات ضغط سياسية واجتماعية، تعمل على "التطبيع" من خلال المنظمات الممولة أميركيًا وأوروبيًا تحت لافتات متعددة ومتنوعة، مثل منظمات الدفاع عن حقوق المرأة، ومنظمات الدفاع عن حقوق الإنسان داخل المجتمع العربي، وغير ذلك. 

     وليس أدل على ازدواجية المعايير الأوروبية- الأميركية بشأن حقوق المرأة وحقوق الإنسان، من غض البصر عن استمرار الحصار والاجتياح اليهودي للمدن الفلسطينية، والمناداة بالحقوق في العالم العربي بدوله المختلفة، ومع هذا فإن الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة من شأنها تزايد عدد الأسر الفقيرة على الساحة الفلسطينية بسبب مقتل معيلها أو اعتقاله. ومع ذلك كانت نتيجة هذه السيطرة الاقتصادية اليهودية شبه الكاملة على الضفة الغربية وقطاع غزة، أن عادت بالنفع على حجم التعامل الاقتصادي مع "إسرائيل" وصل إلى ما يقارب 83%، فحقق اليهود من ورائها سوقًا يفوق حجم سوقه مع مجموع الدول الإفريقية. وعليه فقد كان من الأولويات الأساسية التي سعت لها "إسرائيل" الاهتمام بالمضمون الاقتصادي منذ بدء العملية السلمية، حيث تم التركيز على إقامة تكتل اقتصادي يدمج اقتصاد الكيان الصهيوني واقتصاد الأردن والاقتصاد الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة. 

التداعيات الاقتصادية وأثرها على البنية الكيانية
     إن المفارقة السياسية في البناء الكياني، كانت قد استدعت ترميم الجانب السياسي- الكياني لـ"إسرائيل"، وهذا بالضرورة كان دافعًا للبحث في الآليات والدوافع، من خلال تحديد الأهداف وتسويغ المبررات، ويبدو أن مرد ذلك قد انعكس على بنية المجتمع العربي برمته، من خلال ما صدر عن غالبية دول جامعة الدول العربية بعدم التزامها بالمقاطعة الاقتصادية للكيان الإسرائيلي وذلك عام 1994، إذ إن هذه المقاطعة كانت قد كبدت "إسرائيل" بين عامي 1948 إلى 2004، ما يقرب من مئة مليار دولار، وهذا ما وصفته الصحافة الأميركية بهدف "إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميًّا The International Rehabilitating of Israel" ( )، وهو هدف كان يتطلب تحقيق أمرين:

- الأول إنهاء المقاطعة العربية للكيان الصهيوني. 
- الثاني إشاعة جو يطمئن الشركات العالمية، إلى أن "السلام" في الشرق الأوسط أصبح حقيقة لا رجوع عنها حتى تقبل على الاستثمار في الكيان الصهيوني.

     ومن الجدير التنوبه به في هذا المجال، أن الوقائع السياسية والتاريخية التي ترافقت مع هذه النظرة السياسية، كانت قد بينت خلال السنوات الثلاث التي تلت الاتفاقية المذكورة، عن تحقيق هدف إعادة تأهيل الكيان الصهيوني عالميًّا من خلال:
-إقامة علاقات دبلوماسية ناشطة وفاعلة مع البلدان التي لم تكن تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بسبب الصراع العربي- الإسرائيلي جراء البعد الأيديولوجي، وخلال عام واحد بعد توقيع اتفاقية أوسلو، أقام الكيان الإسرائيلي علاقات دبلوماسية مع 20 دولة، وبعد ذلك استمر يقيم علاقات مع بلدان أخرى، وكان واضحًا أن "إسرائيل" كانت تهتم كثيرًا في بلدان جنوب شرقي آسيا اهتمامًا بالغًا.
-فتح الأسواق الاقتصادية في الدول التي كانت تلتزم قوانين المقاطعة العربية مع "إسرائيل" ففتحت أسواقها للبضائع الصهيونية، بل وعملت على إقامة مشاريع مشتركة مع الكيان الإسرائيلي، فزادت نسبة الصادرات الإسرائيلية إلى البلدان الآسيوية بعد سنة واحدة من اتفاق أوسلو بمقدار 23% وأصبحت تعادل حوالى 13% من مجمل الصادرات الإسرائيلية بعدما كانت أقل من 8% وازداد حجم التبادل التجاري بين "إسرائيل" وكوريا الجنوبية حوالى 50% ما بين عامي 1994- 1996م، وأصبحت الصين مستوردًا رئيسيًّا للسلاح والتكنولوجيا الصهيونية، وكذلك فإن الشركات الآتية قامت ببناء مصانع أو مراكز لها في "إسرائيل" بعد العام 1994( ). 

     ومن الواضح أن هذه الشركات كانت قد أسست عملها في "إسرائيل"، لأنها ترى في الاقتصاد الإسرائيلي شريكًا في التمويل والاستثمار والبحث العلمي، فالواقع أن هذه الشركات لا تقيم مصانعها في داخل الكيان الإسرائيلي من أجل السوق المحلي، بل الحقيقة أنها تستخدم سوق "إسرائيل" لأسواق الشرق الأقصى والأوسط، فحجم الاستثمارات الأجنبية في "إسرائيل" عام 1991 لم يتجاوز 400 مليون دولار، إلا أنه أصبح عام 1996 حوالي 2.9 بليون دولار، وهذا يعني أن حجم الاستثمار الأجنبي في "إسرائيل"  في العام 1996، كان حوالي أربعة أضعاف حجمه في مصر( ).

السياسات المتبعة في "الشرق الأوسط" 
     من مفارقات وجود الكيان الصهيوني، التسويغات الدينية والتجارب التاريخية المعاصرة، إلى جانب تبديل المفاهيم بما كان بمصطلحات لا جذور لها في الفهم القومي، عبر مرجعيات دولية وإقليمية ترعى عددًا من المؤتمرات الدينية، والتي مرت بمراحل متعددة، بدءًا من "التقارب الإسلامي المسيحي"، كما كانت تسمى في أواخر القرن العشرين، مرورًا بما سُمّي بـ"الحوار الإسلامي المسيحي"، ثم وُسِّعت هذه الشعارات لاحقًا بعد "اتفاقية أوسلو" نحو "التطبيع" مع اليهود. فصارت المفردات الشائعة تدعو إلى "حوار الأديان"، وربما "حوار الأديان الإبراهيمية"، ثم لم تزل تتسع هذه الدعوة في ظل العولمة، لتصبح دعوة صريحة بـ"حوار الحضارات" بدلًا من "صدام الحضارات" بحيث تشمل الهندوسية، والبوذية، وسائر الملل.
     ومن هنا تظهر مفارقة الدعوة للحوار وفقًا للشعارات التي طرحت على أكثر من مستوى، وذلك من خلال اتساع الجبهة العريضة من الناحيتين التاريخية والجغرافية تجاه العالم الإسلامي. إذ كيف يتمكن المجتمع الإسلامي من طرح فكره ويتجه نحو الحوار، وهو عاجز عن صياغة قراره الوطني ويعيش حالة من الوهن في الإطار الكياني للبنية السياسية، فيما يقابله الغرب بكل إمكانياته السياسية والاقتصادية والإعلامية؟، بالإضافة إلى القدرات الميدانية. فهو من يملك الآلة العسكرية، والقوة الاقتصادية، والهيمنة الإعلامية، ومع ذلك تنطلق من مراجعهم الدينية والسياسية الداعوت المتلاحقة إلى التقارب والحوار مع الآخر، وهذا ما يدفعنا للبحث عن معنى الكثير من المفردات المسوغة، فمن هو الآخر؟، وهل الآخر من نلتقي معه في جغرافية سياسية واحدة؟، أم مطلق إنسان هو الآخر؟، وهل الآخر يعنى بنظام محدد في التركيبة السياسية العربية؟، وما هو سر الإصرار من القوى الغربية على الحوار مع الآخر؟, ولماذا الدعوة الحوارية دائمًا تتجه في غالبها نحو الديانة الإبراهيمية والوقوف عندها دون الوصول إلى خاتمتها؟، ترى أليس محمد بن عبدالله هو سليل النبوة بمنظار الآخر؟.  
إن الإجابة عن هذه الأسئلة، تستدعي البحث في الدرجة الأولى حول نشأة ظاهرة فكرة "الحوار الإسلامي المسيحي" على وجه الدقة؛ وقد سجلت الكثير من المحاولات المعاصرة( ) في هذا الصدد، فيما اندفعت حيال ذلك الحركة اليهودية الصهيونية برعاية الولايات المتحدة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط والساحة الفلسطينية، بغرض القضاء على الجانب العقدي للمجتمع العربي- الإسلامي وتبرير الوجود السياسي، بترتيب وتأييد من أغلبية الزعامات الدولية عبر عقد العديد من المؤتمرات المحلية والإقليمية والدولية التي تعنى بهذا الشأن. وعليه فإن المشكلة ليست كامنة بالاعتراف الديني في حوار الأديان، إنما واقع الأمر، تفترض المسألة النظر في الحقوق التاريخية المتعلقة بوجود الكيان السياسي، وهذا بالتالي يفترض البحث في الآليات والأهداف التي تسوغها المجتمعات الغربية. وعليه فإن سلسلة الأحداث الجارية حيال هذا الأمر، كانت قد ظهرت في الكثير من اللقاءات السياسية والقمم. ومنها على سبيل المثال، القمة التي عقدت في شرم الشيخ بزعامة الرئيس الأميركي "بيل كلنتون"، والتي تهدف إلى ترسيخ مفهوم الأمن السياسي والاجتماعي لـ"إسرائيل"، بما ينطوي على ذلك من ممارسة للعنف السياسي أو التحريض. 

     ومن المفارقة التي تستدعي التأمل فيما ورد في نص الاتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ما ورد في مفرداته الداعية إلى أن يتعاون الطرفان ويتبادلان المعلومات وينسقان المواقف، وقد أكدت الاتفاقية على التزام الطرف الفلسطيني بتنفيذ كل تعهداته في المجال الأمني، وخاصة فيما يتعلق بـ: "قضية جمع السلاح غير القانوني وتقديم تقرير عن ذلك"، و"تقديم قائمة بأسماء الشرطة الفلسطينية للطرف الإسرائيلي"، إلى جانب "إلقاء القبض على المشتبه فيهم، وتقديم تقرير بذلك للطرف الإسرائيلي في موعد أقصاه 13/9/1999"( ).
إن الضرورات السياسية لا تبرر انتزاع الحق الوطني، ومنع المجتمع من ممارسة حقوقه السياسية والدينية من خلال التبرير التاريخي والوجودي، لذا بات من الواضح أن هذا الالتزام كان قد شكل تنازلات متعددة تعنى بالسيادة الوطنية والهوية للسيادة في بنية الكيان الفلسطيني( ). وعليه تتبدى إشكالية المفاهيم التي تتعلق بالجانب الكياني، في المنظار التاريخي من خلال سلسلة الأحداث الجارية، والفكر الذي أقام كيانه الاجتماعي والسياسي ضمن البوتقة التي ترسخ المنطق الأدبي والعقائدي، الذي يتماهى مع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالتجربة الكيانية عبر التاريخ كانت قد أدت إلى وجود بنية فكرية محددة، فيما شكل البعد الأيديولوجي لدى كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية، تبريرًا لوجوده الكياني، إلا أن الإفرازات العنصرية والتعصّب العنصري، شكل دافعًا للحروب والمآسي التي حدثت( )، وخاصة منها ما حدث في العالم العربي ما بعد الحرب العالمية الثانية، جراء اختلاف المعايير والفكر السياسي والتبعية التي أسست إلى التعصب العرقي والطائفي، والتي ساعدت في بناء الكيان الإسرائيلي. 

     إن بنية الكيان الفلسطيني، والبحث في الدوافع الإسرائيلية، تجاه بناء الكيان،  وسياسة التفاوض مع الجانب الفلسطيني والمحيط العربي، أدت إلى بناء الترسانة العسكرية. ودفعت الساسة في "إسرائيل" على تفعيل الدور الإسرائيلي داخل العالم العربي، بعد توقيع اتفاق أوسلو الداعي إلى "السلام" من خلال المبادئ الصهيونية التي رسختها منذ عام 1948، وكان ذلك قد ترافق مع تفعيل القدرات العسكرية في إهدار حقوق الشعب الفلسطيني.
انطلاقًا من ذلك، انعكست هذه الرؤية على الجانب الإسرائيلي المفاوض، من خلال سياسة التفاوض، والاستراتيجية العسكرية في المواجهة؛ حيث ركزت "إسرائيل" منذ اجتياح لبنان عام 1982، على أنه لا عودة إلى حدود ما قبل الخامس من شهر يونيو/حزيران 1967. بل اعتبرت أن نهر الأردن يمثل حدودهم الشرقية (الأمنية والسياسية). ويجب أن يكون الكيان الفلسطيني منزوع السلاح( )، ولا يُنشِئ جيشًا، فالجيش الإسرائيلي( )، هو الجيش الوحيد الذي يتولى مهام الدفاع، ويسيطر على المجال الجوي الفلسطيني. وهذا لاشك يبين أن الكيان الفلسطيني ناقص السيادة ومحدود السلطات، ويُمنع عليه عقد اتفاقات عسكرية مع دول أجنبية، وعليه أن يبقى مرتبطًا بالكيان الصهيوني. 
وللمفارقة في هذا المجال، فقد بدا الاختلاف بين مفهومي الكيان الإسرائيلي والكيان الفلسطيني ظاهرًا جراء الإجراءات السياسية المتبعة، ففي "إسرائيل" كان الإجراء السياسي مرحليًّا وخطوة في سبيل تحقيق استراتيجيتها المتقدمة، فسياسة بناء المستوطنات وضمها أو إبقاء بعضها تحت السلطة الفلسطينية كانت تتمتع بالسيادة الإسرائيلية. إلى أن ما وصل إليه العالم العربي، في انقسامه وتجزؤ الإرادات فيه، كان قد أدى إلى وجود البدائل السياسية المرتقبة التي تتناول الجانب العقائدي والسياسي في البنية الكيانية، وخاصة أن بعض تلك السياسات، كانت تتوافق مع مقتضيات الأمر الواقع، وتخدم الأهداف الاستراتيجية. ففي "إسرائيل" هنالك اعتبارات مهمة للجانب الديني وتسويغاته التي تمنع التنازل عما في أيديهم، خاصة في مجال السيطرة على الأراضي التي تقع ضمن "سيادة" الكيان الإسرائيلي. وقد استخدم الصهاينة مصطلحًا في سياستهم المتبعة بطرد الفلسطينيين وتهجيرهم ومحاولة دمجهم في المجتمعات العربية، كما اعتمدوا في سياستهم على "تفتيت العالم العربي" من أجل السيطرة عليه، بالإضافة إلى الاستيلاء على مدينة القدس وتوحيدها تحت سيطرتهم المدنية والعسكرية تحقيقًا لإرادة الوعد الصهيوني المزعوم بعودة الشعب اليهودي إلى أرض أجداده.


وفي الختام
     إن المؤشرات التي تخدم تلك التوجهات، لم تكن حكرًا على وجود الكيان على أرض فلسطين فقط، إنما شكل اللوبي الصهيوني مرتكزًا أساسيًّا في تفعيل الدور السياسي والاقتصادي، بما أنه لا يتكون من عناصر يهودية وحسب، إنما يضم عناصر غير يهودية أيضًا. فاللوبي الصهيوني يضم كل أصحاب المصالح الاقتصادية الضاغطة، والذين يرون أن تفتيت العالم العربي والإسلامي يخدم مصالحهم، ويشاركهم في ذلك أعضاء النخبة السياسية والعسكرية ممن يتبنون وجهة نظرهم هذه. لذا كانت أفضل خياراتهم تجاه العالم العربي، تكمن في اتباع سياسة التجزئة الداخلية، باقتطاع أجزاء منه وإيجاد العديد من الكيانات المصطنعة ذات الاتجاهات المتباينة، كمرحلة متقدمة على بناء الكيانات الطائفية ذات النزعات المذهبية، والسيطرة على الموارد الأساسية؛ مما يجعل العالم العربي معتمدًا بشكل كلي على الغرب السياسي في تنظيم حيثياته المختلفة، ليكون ثقلًا موازيًا للقوى الإقليمية، فيما أظهرت الشواهد السياسية والتاريخية الأمور التالية: 
-تشكيل الحكومات المؤقتة التي تروِّج لبرامجها السياسية الكيانية لكسب الاعتراف الدولي.
-السيطرة على الموارد الاقتصادية واستغلالها، لتمويل العمليات العسكرية والسياسية.
-إقامة المناطق الآمنة التي تشكل مجموعات ضغط غير مرنة، تشجع على ضم المزيد من الأراضي إليها تدريجيًا.
-السعي لاقتطاع العديد من المناطق وإعلانها محررة أمام المجتمع الإقليمي والدولي.
- تقديم الغرب السياسي يد العون والمساعدة والاعتراف بالحكومات المستحدثة، ورفع العقوبات الاقتصادية التي كانت سائدة بمنح الأرصدة المجمدة في الخارج للقوى التي تدور في فلكها السياسي، فضلًا عن تجنيد وتسليح القوى الرديفة.

     ومن الجدير التنويه به، لقد ضم اللوبي الصهيوني كثيرًا من الليبراليين، ممن كانوا يدعون إلى اتخاذ سياسة ردع نشيطة ضد الاتحاد السوفييتي (سابقًا)، وكثيرًا من المحافظين الذين يرون في "إسرائيل" قاعدة متقدمة للحضارة الغربية في الشرق وقاعدة لمصالحهم السياسية والاقتصادية، كما ضم جماعات الأصوليين (الحَرْفيين) ممن كانوا يرون في "إسرائيل" إحدى بشائر الخلاص( ). وعليه يعتبر الشرق الأوسط مكانًا مناسبًا لكل ما سقناه في النقاط سالفة الذكر، ثم تليه منطقة البلقان في التصنيف الأميركي، باعتبارها منطقة تثبت أميركا فيها الفرضيات السياسية والعسكرية، من خلال السياسة التي اعتمدتها في تفتيت العالم العربي من أجل إعادة رسم خرائط جديدة تسهل السيطرة عليها، لتحقيق جميع الأهداف الغربية( ) في المجال الحيوي للغرب السياسي( )، حيث تتلاقى تلك الأهداف مع الطموحات الإسرائيلية.

                                                   أ.د. حسين علي الحاج حسن

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net