Tahawolat
صدرت عن دار المعارف الحكمية، سنة 2018، مجموعة قصصية للدكتور علي حجازي، بطبعتها الأولى، تحت عنوان "شارة جديدة للنصر".
تتألف هذه المجموعة من عدة قصص صغيرة، تنتمي إلى الأدب المقاوم. 
صحيح أن المقاومة تحتاج إلى بندقية وإلى أصابع حاضنة للزناد، كذلك فهي تستلزم فكرًا ناطقًا بالحق وقلمًا مبشرًا بالظفر ليكمل الطريق مسجلًا شارة جديدة للنصر.
لا توجد أدبية مستقلة عن الثقافة. بلا لا يوجد أي نشاط إنساني مستقل عن ثقافة ذلك الإنسان وثقافة مجتمعه. فالكاتب هو ابن بيئته وإنتاجه يكون خلاصة لما يمور في واقعه، أو لما سجله ماضيه، أو ما يراه في مستقبله.
تتناول "شارة جديدة للنصر" قصة لأهالي بلدة الغندورية الجنوبية، الذين ساروا في مسيرة التحرير والعودة بعد انتهائهم من تشييع أحد الشهداء في حسينية البلدة، وكان أبو محمد أحد أبرز شخصيات هذه القصة الذي تمنى أن يؤخر الله قبض روحه إلى الساعة التي يتم فيها تحرير أراضي الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، وكانت هذه المسيرة كفيلة بتحقيق النصر ورسم شارة جديدة له، وهي الرقم 8 بدلًا من الرقم 7 وفي ذلك دلالة على ثبات الأقدام في الأرض لا تلويح الأيدي في السماء.
وسأحاول أن أتناول هذه القصة من خلال مجموعة من المستويات:
أ‌-المستوى المعجمي في لغة شارة جديدة للنصر وهي القصة الأخيرة في الكتاب.
1.التكرار:
أولًا: تعريف التكرار:
 التكرار لغةً:
جاء في لسان العرب تعريف للتكرار "الكرّ: الرجوع.. وكرّر الشيء وكركره: أعاده مرة بعد أخرى.. ويقال: كرّرتُ عليه الحديث وكركرته إذا ردّدته عليه.. والكرّ الرجوع على الشيء، ومنه التكرار" .
التأمل في هذا التعريف اللغوي يساعدنا في فهم التعريف الاصطلاحي، فإذا عرفنا أنّ الكرّ: هو الرجوع، عرفنا أن التكرار بمعناه الاصطلاحي يُرجعنا إلى ما سبق ذكره بتكراره مرة أخرى، سواء كان هذا التكرار لفظيًّا أو معنويًّا.  
التكرار اصطلاحًا:
عرّف السجلماسي التكرار بأنه "إعادة اللفظ الواحد بالعدد أو بالنوع أو المعنى الواحد بالعدد أو بالنوع في القول مرتين فصاعدًا" .
من خلال التعريف السابق نجد أنّ السجلماسي يجعل التكرار قسمين اثنين: قسمًا لفظيًّا وآخر معنويًّا، أي إن المتكلم إما أن يعيد الكلمة لفظًا ومعنى أو يعيد معنى الكلمة دون اللفظ. فنفهم من هذا التقسيم أنّ التكرار "يتشكّل بنيويًّا على المستوى اللفظي عبر أنماط وحدات لسانية مختلفة تمتد من تكرار الحرف ثمّ الكلمة إلى الجملة فالعبارة في مواضع أخرى غير الموضع الذي ذُكرت فيه أوّل مرّة. كما يتشكّل دلاليًّا بإعادة ذكر المعاني في صور مختلفة من البنى اللسانية." 
ويرد التكرار بأنماط متعددة ومستويات مختلفة، فالتكرار اللفظي يكون في الحرف أو الاسم أو الفعل أو الجملة أو تكرير شبه جملة، أو أسلوب الاستفهام أو أسلوب التفضيل أو أسلوب النداء أو غيره من الأساليب التي يرى الناص في تكرارها ما يحقق هدفه من النص.
وغالبًا ما تسهم أنماط التكرار هذه في تعزيز الترابط فيما بين العناصر المتكررة وسياقها الأسلوبي الذي ترد فيه، فيقوى بذلك النص من خلال التواصل المعنوي وذلك بالتركيز على جانب معين من العبارة أو المعنى.
المتأمل في نص شارة جديدة للنصر، يجد أنه قائم على ركائز أساسية وهذه الركائز مستوحاة من الواقع والأحداث التي مرَّ بها لبنان في هذه الحقبة.
نجد أن كلمة "التحرير" قد تكررت باللفظ ذاته سبع مرات مثال: (إننا نسير الآن في مسيرة التحرير") 
(نعم، التحرير) 
(إنها مسيرة التحرير والعودة يا أبو محمد) 
من الملفت في بعض الأمثلة التي اخترناها أن كلمة التحرير جاءت ملازمة لكلمة أخرى وهي العودة، وفي ذلك تأكيد النضال من أجل تحرير الأرض وأن العودة حق لا محال، وفي هذا التكرار دلالة لحث اللبنانيين على متابعة الطريق ومواجهة أي عدو.
ومن الكلمات التي تكررت أيضًا "الحمدلله" مثال:
(الحمدلله،إنها مسيرة التحرير والعودة) 
(الحمدلله تحررنا..الحمدلله تحررنا) 
هذا الحمد والشكر كرره الكاتب قبل التحرير وبعده، فكيف بعباد يحمدون الله في الضراء ألا يحمدونه في السراء؟
وفيه أيضًا دلالة على عمق الإيمان في نفس الكاتب، هذا الإيمان الثابت الذي يوصل دائمًا إلى بر الأمان.
كذلك تكررت كلمة البوابة ست مرات مثال:
(أمام البوابة، بوابة العبور إلى القطاع الشرقي التي لا تبعد عن الحسينية كثيرًا....) 
(أضلاع البوابة تهتز مصدرة صريرًا) 
(أمسك أصحابها درفتي البوابة الكبيرة، وشرعوا يهزون...) 
(قوات الطوارئ من الكتيبة الفنلندية المسؤولون عن البوابة مصدومة، أمام هذه الجموع الزاحفة...) 
(البوابة مشرعة على مساحات العشق الممتد إلى آخر ذرة تراب عند الحدود...)  من المعروف أن البوابة هي محطة دخول من مكان إلى مكان آخر، وربما من حال إلى أخرى، وهنا جاءت لتحمل الدلالتين معًا، فهي كانت السبيل للعبور إلى الأراضي المحتلة وتحقيق النصر، هذه البوابة هي بمثابة الفرج الذي استوطن النفوس وفتح الأمل على مصراعيه.
ومن الألفاظ التي لوحظ تكرارها في النص هي "شاب" و"شباب" التي تكررت ست مرات، وذلك لتسليط الضوء على دور هذه الفئة في رسم طريق جديد وتعبير عن الأحداث، والمشاركة مع الأهل في الحفاظ على الوطن والدفاع عنه، ذلك أن حماية الوطن لا تقل أهمية عن تحصيل العلم لا بل هي أفضل.
فوجدنا الشباب يهجرون مقاعد الدراسة ويلتحقون بركب الثورة، يلبون نداء حي على خير العمل.. مثال على ذلك:
(لا أعرف وجوه الشباب متشابهة.. أحاول. أحاول..) 
(دائمًا يا حبيبي، ولكن ماذا تفيد عودة شاب واحد) 
(وسرعان ما اكتمل عقد الرجال والشباب الذين شرعوا يدبكون... والنسوة يتابعن العقد الراقص على الأرض) 
لم يقتصر التكرار على الألفاظ فحسب، بل تعداه إلى عبارات كقوله: (شارة جديدة للنصر) هذه العبارة التي كانت عنوانًا للنص والتي تكررت أكثر من مرة فيه، هي مستوحاة من قول الإمام (ع) "تدّك في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم، وغض بصرك، وأعلم أن النصر من عند الله سبحانه" فرسم بذلك شارة جديدة للنصر متمثلة بالرقم 8 كثبات الأقدام بالأرض عوضًا عن رفع الأيادي في الهواء 7.
إذًا التكرار هو شكل من أشكال التماسك المعجمي، وهو من الظواهر التي تضفي على النص الترابط الشكلي والدلالي.
ومن الملفت أن بنية هذا التكرار داخل النص أضفت عليه شكل الدائرة، حيث إن الكاتب بدأ نصه بعنوان شارة جديدة للنصر وأنهى بها، فهذه العودة على بدء كانت بمثابة غطاء إبداعي للنص.
2. الكلمة المفتاح والحقل الدلالي
أولًا: تعريف "الحقل الدلالي":
بات من الصعبِ أنْ يقفَ الدارسُ على تعريفٍ محددٍ للمفاهيم اللسانية -أو أي مفهوم بشكلٍ عام- ومفهوم "الحقل الدلالي" من المفاهيم التي تعدد تعريفها نظريًا، فهو بشكلٍ مبسط عبارة عن "مجموعة من الكلمات ترتبط دلالاتها وتوضع عادة تحت لفظ عام يجمعها" ، هذا ما يراه أحمد مختار الذي ناقش نظرية "الحقول الدلالية" في كتابه «علم الدلالة»، وقد درس هذه النظرية عند الغربيين، ونقل لنا بعض تعريفاتهم للحقول الدلالية، فمن هذه التعريفات تعريف جون ليونز الذي يقول إنَّ الحقول الدلالية هي "مجموعة جزئية لمفردات اللغة" ، وتعريف أولمان الذي يرى بأنَّها "قطاع متكامل من المادة اللغوية يُعبّر عن مجال معين من الخبرة" 
ويرى أحمد مختار أننا لكي نفهم معنى كلمة ما؛ علينا أولًا فهم مجموعة من الكلمات التي لها صلة وعلاقة دلاليًا . ففي الحقل الدلالي يكون هناك لفظٌ عام يجمع الألفاظ الداخلة في حقله ويكون هو "المتضمن الأعلى الذي تنطلق منه أو تعود عليه مجموعة الكلمات التي تنتمي إلى حقل معين، بما يمكن الانطلاق من هذا "المتضمن الأعلى" للتعرف على طبيعة العلاقة التي تربطه بغيره من الألفاظ ذات الحقل الدلالي الواحد، كأن تكون علاقة ترادف، أو تضمن أو علاقة جزئية، أو كلية، أو اشتمالية" .
ثانيًا- الدراسة الإجرائية:
في هذا النص تقف أمام واقع وأحداث مأساوية حلّت على لبنان أثناء الاعتداء الإسرائيلي عليه، وأولى الحقول المعجمية التي تطالعنا حقل (الاحتلال) الناتج عن الحرب التي شنت على لبنان وأهله, وقد تمثل هذا الحقل في قوله: (الاحتلال، المحتل، العدو، اليهود، الظالمين، العملاء، الصهاينة...) 
في مقابل الحقل المعجمي للاحتلال هناك حقل معجمي للنصر: (شارة، النصر، يدبكون، يرقصون، يزغردون، فرح، سار، أزاهي...)  مفردات هذه الحقول جاءت متداخلة متماسكة، فالتعلق بالأرض وبقدسية الوطن هو الدافع الرئيس لمواجهة هذا الاحتلال والسعي إلى تحقيق النصر، هذه الحقول المعجمية المتأرجحة بين الاحتلال والنصر تنقلنا بدورها إلى التضاد. 
3.التضاد ودلالاته.
أولًا: تعريف التضاد:
 التضاد لغةً:
والتضاد في اللغة مأخود من الضد "ضدد: الليث: الضد كل شيء ضاد شيئًا ليغلبه، والسواد ضد البياض، والموت ضد الحياة، والليل ضد النهار، إذا جاء هذا ذهب ذلك... ضد الشيء وضديده وضديدته، خلافه" . ونجد ابن فارس يُعرّف المتضادين بأنّهما" الشيئان لا يجوز اجتماعهما في وقت واحد كالليل والنهار" .
 التضاد اصطلاحًا:
وليس المعنى الاصطلاحي ببعيد عن المعنى اللغوي فأبو هلّال العسكري يُعرّف المتضادين فيقول "المتضادان هما اللذان ينتفي أحدهما عند وجود صاحبه إذا كان وجود هذا على الوجه الذي يوجد عليه ذلك كالسواد والبياض."  ويقول الخطيب القزويني في التضاد "هي الجمع بين المتضادين أي معنيين متقابلين في الجملة" .
نفهم من التعاريف السابقة أنّ التضاد نوعٌ من العلاقة بين المعاني. ويرى البعض أنّها أقرب إلى الذهن من أية علاقة أخرى، إذ إنّ ذكر معنى من المعاني قد يستدعي الضد قبل المرادف "لذلك تجد الضد أقرب خطورًا بالبال مع الضد"  وذلك لأنّ "علاقة الضدية من أوضح الأشياء في تداعي المعاني، فإذا جاز أن تعبّر الكلمة الواحدة عن معنيين بينهما علاقة، فمن باب أولى جواز تعبيرها عن معنيين متضادين؛ لأنّ استحضار أحدهما في الذهن يستتبع عادة استحضار الآخر" .

ثانيًا- الدراسة الإجرائية:
حاول علي حجازي كشف حقيقة العدوان الإسرائيلي، لاسيما على الجنوب النابض بالعطاء والإنسانية، فاستخدم لذلك مفردات شكلت حقلًا معجميًّا على الظلم والمعاناة من الاحتلال، لينقل الصورة بواقعية، بالوضع الذي آل إليه الجنوب وما تعرض له الشعب من تشرد حتى عند الممات، فكانت جثامين الشهداء تدفن على سبيل الوديعة في بلدة ما، على أمل أن تنقل إلى مسقط رأسهم بعد تحرير الأرض. وهنا برز التضاد جليًا وواضحًا. فمن الملفت في هذا النص الصغير نسبيًا كيف استطاع الكاتب أن ينقلنا وببضعة أسطر من حال الاحتلال المريع إلى حال النصر المبين، وهنا تجلى التضاد وبرز، إذ إنه لم يقتصر على هاتين العبارتين فحسب، بل تعداه إلى تضادات أخرى مثل (الرجال- النساء) هذا التضاد في ظاهر هاتين الكلمتين يقابله تماسك في الجوهر والمضمون، فالرجال والنساء يقاومون معًا هذا العدو المحتل.
بالإضافة إلى ذلك برز التضاد واضحًا وجليًا بين (الأكف- والأقدام) هذا التضاد هو الذي حول شارة النصر من الرقم 7 إلى الرقم 8 الذي يعني ثبات الأرض.
4.الترادف ودلالاته.
أولًا: تعريف الترادف:
 الترادف لغة:
الأصل اللغوي للترادف مأخوذ من (ردف) والردف "ما تبع الشيء، وكل شيء تبع شيئًا، فهو ردفه، وإذا تتابع شيء خلف شيء، فهو الترادف،... ترادف الشيء، تبع بعضه بعضًا. والترادف التتابع.." 
نفهم من هذا التعريف أن الترادف يلزم فيه التتابع، وأن يتقدم شيء على شيء، فالأول هو الأصل والثاني يتبعه أي يأتي بعده. ذلك هو المعنى اللغوي. لنرى ماذا يقول أهل الاختصاص؟ 
 الترادف اصطلاحًا:
جاء في المزهر تعريف الترادف و"هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد" . والرازي يعرف الألفاظ المترادفة بأنّها "الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد"  التعريفان تقريبًا متطابقان، فقولهما (المفردة) أخرجا (الرسم والحد) لأنّهما ليسا مترادفين، وأيضًا قد أخرجا (الصفة) بقولهما (باعتبار واحد) كالسيف والصارم فإنّهما من الألفاظ المتباينة.

ثانيًا- الدراسة الإجرائية:
تبين أن الكاتب أكثر من استخدام الألفاظ المترادفة استخدامًا دقيقًا أوجد تنوعًا وإبداعًا في النص، وهو لم يخرج من استخدام هذه المترادفات عما جاء في معاجم اللغة، كاستخدامه كلمة (الراقدين) ومرادفها (المدفونين) فكلاهما حملا معنى نهاية الحياة والعودة إلى التراب، في هذا الترادف إيمان مطلق لدى الكاتب بأن الإنسان خلق من تراب وإلى التراب يعود، هذه الرؤية للواقع التي انعكست في النص تدل على رؤية وثقافة إيمانية في نفس الكاتب.
هذه الثقافة الإيمانية ممزوجة بنخوة واندفاع لدى الكاتب وذلك في قوله: (أضرم في روحه نارًا وغيضًا)  هذه النار والغيض أضرمت في روح أبي محمد من جراء مجلس العزاء الذي أقامه الشيخ عن روح الشهيد ولم يقتصر الترادف على الحزن فحسب، بل تنوع ليلامس الفرح بقوله: (يدبكون، يرقصون) هذا الفرح الذي ولّده النصر أخذ حيزًا في هذا النص.

كلمة أخيرة:
المقاومة صراع بين ثقافتين, والعمل الأدبي، واحد من تجليات ذلك الصراع، استطاع قلم علي حجازي وفكره، أن يشاركا في النصر، فكانا بمثابة الجندي، الكاتب، والمقاوم الذي يسير في الأودية والجبال محاربًا بطش ذلك العدو، وكـأنه مع كل سطر من سطور قصصه يسجل نصرًا جديدًا ويفتح بوابة عبور إلى ضيعة جديدة في الجنوب وصولًا إلى التحرير وشارة النصر الجديدة.
فببندقيته الصغيرة -أي قلمه- وبلغته البسيطة والأصيلة، ولّد أفكارًا جديدة، استطاع من خلالها ترك بصمة خاصة في الأدب المقاوم.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net