Tahawolat
"إننا مقبلون على انهيارات وتغييرات كبيرة في المنطقة، وإن البنى القديمة القائمة لن تكون قادرة على الصمود، وهي غير صالحة وغير مقبولة لإدارة الصراع، ونحن بالأدوات الحزبية المفلسة والثقافة الغيبية والخطاب المبعثر المتعثر لن نكون غير غبار الحركة.. لذا، أرى من واجبنا اليوم أن نستنفر الجميعَ للحراك الثقافي وفتح حوار واسع في كل المناطق لتأسيس عقلية جديدة ورؤية جديدة وخطاب جديد وأدوات جديدة قادرة على الصمود في المرحلة القادمة، لكي نصل معاً إلى تصوّر مهم وقرار جريء في إنجاز هذا التصوّر ..نحن إما أمام معركة الانبعاث من جديد وبشكل لائق وقوي، أو أمام إعلان الإفلاس".

بهذه العبارات، النابعة من رؤيته، يقدم الدكتور قيس جرجس قراءته للمرحلة المقبلة وهي ورقة عمل للحوار والإغناء:

الورقة الثقافية:

خطابنا واتجاهنا ونهجنا يتأسس على جذر الحرية وجذر الهوية:

* جذر الحرية:

هو الأساس الذي بدونه لا يمكن أن نطلق حيوية الإنسان وحيوية المجتمع الفكرية والمعرفية والسياسية في الإبداع والتطور والصراع والتقدم، فدون الحرية لا قيمة لشيء ولا كرامة للإنسان، حيث يظل الاستلاب الجوهري للإنسان قائماً. وإذا كانت الحياة أول ما تعني الحركة؛ فالحرية هي الطاقة النفسية لتنشيط ودفع هذه الحركة إلى الأمام والأعلى. لذلك توقفت حركة تطور المجتمع بغياب الحرية وغياب الوعي بها..

وإذا كان ما يميّز التمدن الإنساني هو بروز شخصية الفرد وشخصية المجتمع، فالحرية هي الفضاء الذي تتجلّى به هاتان الشخصيتان على مسرح السياسة والحقوق، لا لتقمع إحداهما الأخرى، كما ذهبت الفلسفتان الفردية، والاجتماعية المادية، في تشريعهما لتنظيم الدولة ودورها بشكل متناقض؛ بل ليرعى تفاعلهما في نظام قيمي وسياسي، كما ذهبت فلسفة الإنسان - المجتمع، وكما يشهد لذلك تطور الأنظمة التي قامت على الفلسفتين في آن.

فليست القبيلة، كثقافة جماعية، مهما كانت طبيعة الجماعة ونوعها، إلا نكوصاً وتراجعاً وتقهقراً وتشويهاً لطبيعة الاجتماع وطبيعة الإنسان والتطور الاجتماعي والتمدن الإنساني. ويجب أن لا نخلط و"نخرّف" كما "خرّف" البعض في تحويل ثقافة الالتزام الحزبي وتوصيفها كأنها ثقافة قبيلة، كما حدث في الأحزاب جميعها، التي أنتجت منظومة علاقات وثقافة حزبية وطقوساً تشبه إلى حد ما ثقافة وسلوك القبائل في التعاطي مع بعضها وفي التعاطي أثناء انشقاقها وفي ازدهار ثقافة المرجعيات والأوصياء وثقافة التحريم والتكفير والتشهير والتخوين والتصفية.

إن أكبر "تخريف" وتشويه كان في تصوير مفهوم الإنسان - المجتمع المتطور جداً، كأن الفرد نقطة في موجة الجماعة كما كان في بدائية البشرية. وبالتالي، الحرية لا تعني إلا حرية الجماعة فقط، أمة كانت أو طائفة أو عشيرة.

كما أن تطور شخصية الفرد باضطراد أكثر نحو الاستقلالية لا يعني موت الجماعة وفناء الشخصية الاجتماعية، فعدا عن كون الجماعة ضرورة حتمية لوجود الفرد ونمو شخصيته، فإنه حتى لو تم تجاوز الجماعة الدينية أو اللغوية أو القومية،

بالتطور الاجتماعي المبنيّ على تطور وسائل الاتصال والتواصل وتطور المصالح الحيوية للشعوب، فأنت كشخصية فردية ستكون في أحضان جماعة أخرى أكبر ستبرز شخصيتها وسيكون لها هيئتها السياسية.

إن بناء تيار نهضويّ في شعبنا، كأساس لا بد منه في غايتنا، لا يمكن بدون خطاب الحرية وأدواته الإعلامية واستحقاقاتها السياسية، بما تعني كحق وكطريق يجب شقه وتعبيده بالتربية والثقافة.

الحرية التي تتأسّس على العقل كشرع أعلى للإنسان، والثقافة التي تتأسس على ذلك، هي الأساس الذي نواجه به الثقافة الغيبية الدينية المذهبية الطائفية التي تشلّ الإنسان وتجعله رهينة العبوديات كقطعان سياسية تكون سلّماً لبعض الزعامات الإقطاعية التي تنمو على حساب ظلمها وتخلفها ودم أبنائها.

الحرية التي هي حق الصراع في السياسة: صراع الأفكار والعقائد من أجل مجتمع ونظام أفضل.. هي بذلك أساس حق التقدم وشرط الانتصار، لأنها باب الفعالية السياسية والثقافية والاقتصادية والمعرفية.

والحرية طريق العقل، هي طريق العمل لصناعة مؤسسات للتعبير والرأي الحر المسؤول والحوار المنفتح، لتكون أساساً يستقيم عليه عمل مؤسسات القرار في كل هيئة سياسية - حزباً كانت أو دولة - وليستقيم عمل سلطة القرار في كل مؤسسة على أساس أنها حق وخدمة في نفس الوقت.. حق في اتخاذ القرار لتنفيذه ليكون القرار في خدمة الشعب المنفذ.

على ذلك، تتأسس سيادة الشعب على نفسه وعلى أرضه. وبالتالي، ينبثق المبدأ الديمقراطي لممارسة السلطة وتداولها. فالحرية على أساس العقل الشرع الأعلى هي التي تشق طريق الديمقراطية التعبيرية ليستقيم عمل الديمقراطية التمثيلية.

وهذا هو المبدأ القومي المؤسس على جذر الحرية الحضاري والجذر الاجتماعي التاريخي عند انطون سعادة الذي يتطابق مع المبدأ الديمقراطي ضمن التعريف والتوصيف السابق.

لا قومية عند سعادة مع الاستبداد. ولقد سقط مفهوم القومية المؤسس على الإيديولوجيا وعلى السياسة وعلى اللغة وعلى الدين وعلى الأصل وعلى المفاهيم الستاتيكية الجامدة الغير القابلة للتطور والحتميات التاريخية والنهائيات الجغرافية في تحديد حركة التطور الاجتماعي باتجاه التفاعل المنفتح مع كل الأمم بقيادة العلم والمعرفة وارتقاء المصالح الحيوية للمجتمعات، لأنه لم يوصلنا إلا إلى الاستبداد والتمزق والتقهقر والتشلّع الإثني واللغوي والمذهبي.

على هذا الفهم والرؤية يتم بناء ثقافة جديدة لتصحيح علاقة المثقف والفاعل السياسي في المجتمع والدولة بالعقل وبالتاريخ وبالسلطة وبالقيم. حيث لا يمكن أن يحلّ النص محلّ فاعلية التفكير للعقل، ولا يمكن أن يحلّ الفكر والعقيدة محلّ قانون التطور الاجتماعي التاريخي، ولا يمكن أن نصنع التاريخ - حاضراً ومستقبلاً - بدون سلطة، ولا يمكن أن نصنع تاريخاً مضيئاً وحضارياً وإنسانياً إن لم تكن وتعمل السلطة تحت سقف القيم.

وعلى ذلك، بدايةً ودائماً نعمل لإسقاط كل نظم الاستبداد في الفكر والسياسة والدين. لأن أوّل ما تعني الحرية، تعني القضاء على العنف في كل منظومة العلاقات الاجتماعية من علاقة الأب بابنه وعلاقة الرجل بالمرأة وعلاقة السلطة بالمعارضة وعلاقة رجل الدين بأتباعه وعلاقة الأحزاب والجمعيات مع بعضها وعلاقة الجماعات ذات الروابط المختلفة مع بعضها وعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة. العنف، بمعناه الثقافي الروحي والمادي الفيزيائي، من التكفير والتحريم والمنع والرقابة الداخلية بمعنى الخوف والخارجية بمعنى العقاب غير المستحق والسجن والقتل والاغتيال.

فالدولة التي لا تبني المجتمع على ممارسة الحرية ضمن ذلك المعنى، تكون قد وفّرت السلاح الأول لحرب المجتمع على نفسه وعليها.

لذا، لابد من إقامة منظومة علاقات اجتماعية سياسية حضارية تليق بالإنسان الذي هو على صورة الله ومثاله، بديلة عن منظومة العلاقات الاجتماعية الاستبدادية المتخلفة التي تجعل من الناس أحطّ درجة من العجماوات.

إن الحياة لا تستقيم ولا تصحّ بدون أوكسيجينها.. بدون الحرية.

ومشكلة الحرية لا تحل بدون الحرية. فكل الأنظمة والمشاريع السياسية- مهما كانت تسميتها - بدون ثقافة الحرية والوعي بها؛ هي أنظمة فاقدة لشرعيتها الإنسانية أولاً، وفاقدة لشرط انتصارها ثانياً.

* جذر الهوية:

هو الأساس الذي نبني عليه خطاب وأساس وحدة المجتمع، التي تعني تجانسه وتنوعه، ولا تعني تطابقه واستنساخه على قياس عقيدة أو لغة أو عنصر أو دين..

هي الهوية التي تتأسس على الرابطة الأساسية في المجتمع، الرابطة الاجتماعية الاقتصادية في دورة الحياة والتفاعل والتواصل، التي أنتجت المتحدات والمدن والقرى المترابطة مع بعضها، إلى ما يسمى مجتمع الأمة الطبيعي عبر آلاف السنين، وما تزال قيّد التطور والتشكّل. لقد مرّت عليها روابط أديان وثقافات ولغات وسياسات وأنظمة حكم، لكنها ظلّت البوتقة التي تصهر كل ذلك في وحدة الدورة الاجتماعية الاقتصادية التي تقودها فاعلية الإبداع العلمي والمعرفي والمصالح الحيوية للمجتمع، وهي حتمية الوجود والصيرورة والتطور، لأنها فعل الإنسان الاجتماعي في تأمين حياته وارتقائها، وليست تلبية لمطلب سياسي أو إيديولوجي أو ديني غيبي أو لغوي أو عنصري. هي في صميم وجود الإنسان وسعيه عبر التفاعل مع البيئة لتأمين وجوده الإنساني الاجتماعي وارتقائه. هذه الرابطة هي الرابطة الأساسية في المجتمع، وكل الروابط الأخرى ما هي إلا روابط ثانوية من لغة وإيديولوجيا ودين وسياسة.. وهي تصلح لكي تكون:

أولاً: أساساً لإنشاء فكرة الأمة ووحدتها على مداها الطبيعي والحيوي، وتأسيس فكرة الوحدة الإقليمية والعالمية على تطورها باتجاه التفاعل الحر الموحد الجامع لقوى الإنسانية. وبالتالي، هي حلّ علمي حيوي لوضع حد لصراع الخرائط السياسية حول تحديد الأمة والسعي لوحدتها.

ثانياً: هي الرابطة التي تصلح لكي تكون الأساس المدني الذي تُبنى عليه الدولة المدنية العادلة، لأنها هي الانتماء الأساسي الفاعل في المجتمع الذي تشترك به كل الجماعات القائمة على الروابط الأخرى والانتماءات الثانوية في المجتمع، فعلى أساسها لا يتم في الدولة اضطهاد وإقصاء للجماعات التي تربط بين أفرادها روابط مختلفة، وبالتالي، هي الأساس الحقوقي العادل للقانون المدني في الدولة، لأنها تقوم على شرطين إنسانيين طبيعيين غير مصطنعين، هما وجود الإنسان العاقل والعامل واستقراره واشتراكه في دورة العمل والإنتاج في بيئة معينة، ولا تشترط العودة لأصله وفصله ولونه ولغته ودينه ورأيه السياسي. وبالتالي، هي الرابطة التي تتأسس عليها فكرة المواطنة والمواطن في كل الأوطان. وهي أيضاً، مفتاح باب التجانس التنوعي للمجتمع، ومفتاح باب تطوّر الاقتصاد الاجتماعي القومي على أساس الإنتاج والتكامل والتشارك في الثروة وأساس حقوقي لتوزيعها بشكل عادل. فالكردي والأرمني والشركسي والعربي والمسيحي والسني والشيعي والعلوي والدرزي.. يتشاركون هذه الرابطة الاقتصادية الاجتماعية بشكل طبيعي وحتمي لوجودهم. واللبناني والعراقي والشامي والفلسطيني والأردني يتشاركون الدورة الاقتصادية الاجتماعية بشكل طبيعي وحتمي لتطور الاقتصاد والاجتماع ولتطور العلم وارتقاء المصالح الحيوية. وكذلك المصري والسوري والخليجي والتركي والإيراني مضطرون بشكل طبيعي وضروري لفتح دورة التفاعل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي بما يحقق لهم من قوة وتطوّر في ظل الأحلاف القارية والإقليمية الكبيرة في العالم. وكذلك كل العالم مضطر بشكل طبيعي وضروري ليتواصل ويتفاعل مع بعضه لِما تمليه الإبداعات المعرفية والعلمية في وسائل الاتصال والتواصل ولما فيه من مصلحة إنسانية عالمية. هذه هي نظرية أنطون سعادة في الهوية القومية الديمقراطية الإنسانية في نشوء الأمم والعالم وفلسفته للتطور الإنساني العالمي.

فلا قومية عند سعادة مع العنصرية والانغلاق والتقوقع وصراع الحضارات. فقومية أنطون سعادة ليست قومية الكهوف، لا في الداخل ولا في الخارج، بل هي قومية الحضور الإبداعي على مسرح الكون كما يقول. ووحدة المجتمع القومية عند سعادة لا تعني وحدة التطابق والاستنساخ، بل تعني وحدة التجانس التنوّعي.

على هذه الثقافة نبني الإنسان ومؤسسات تربيته وتثقيفه وتعليمه وتخليقه، ليكون الإنسان صاحب الوجدان الوطني القومي وصاحب الاختصاص في العلم والعمل، ليساهم في عملية تنمية المجتمع وبناء الدولة.

وعلى هذه الثقافة نخوض معركة الوصول إلى الشعب، معركة الوعي لتحريره وتثوريه، بخطاب صادق عقلاني بعيد عن الشعاراتية واللغة الخشبية والتعبئة العاطفية، وبأدوات الاتصال والتواصل العصرية، وبالمؤسسات الاختصاصية المدنية التي تتسع لجهود الجميع وتفتح أبواب الحوار الجادّ النقدي التي تطلق الفاعلية الفكرية للعقل والحيوية الوجدانية البعيدة عن العصبيات الحزبية والمزايدات اللفظية الحرفية الفارغة من مضامينها المعرفية والنضالية. ويعتبر الإعلام بكل أشكاله إن لم يتقدمها الإعلام العصرية الأداةَ الأولى لهذه المعركة. فكل المؤسسات التنظيمية والاختصاصية الرديفة غير كافية، الحر المبدع المنفتح النقدي. إذا أردنا أن نربح معركة الرأي العام يجب أن نربح معركة الإعلام أولاً.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net