لا يمكن لأي إنسانٍ عاقلٍ أن يشعر بأي ارتياحٍ للنُظم الحاكمة في الدول العربية وكلها نُظمٌ تتباهى باحترام الدين فيما هي أبعد ما تكون عن الدين.
كُلها نُظمٌ تُحاول إعطاء نفسها مشروعيةً، وبراءة ذمةٍ إيمانية لتُبرر وجودها ولِتَجعل الناس يغضون النظر عن إخفاقاتها الفظيعة بحق شُعوبها وأوطانها... حتى بات من الممكن بل من الواجب اعتبارها مضرب مَثَلٍ لما يمكن أن تكون عليه الدول الفاشلة.
نحن في الواقع أمام نُظُمٍ تتماهى مع "الشأن الديني" وليس مع الدين، والفارق بين الإثنينِ هنا كبيرٌ جداً والهوة التي تفصل بين الإثنينِ سحيقة ولا يمكن ردمها.
نقول "الشأن الديني" بقصد الدلالة على عدم الصدق في الحديث عن التدين، أي الإكتفاء بالشكليات وتصويرها على أنها تقيدٌ بالأحكام الدينية حيث الإنتقائية المعتمدة في تناول النصوص الواردة في الكتابين، الإنجيل المقدس والقرآن الكريم، والإنتقاء هنا عملٌ يخدم التزوير للتبرير. وشأن النظم على هذا الصعيد كشأن الهيئات والمنظومات والأشخاص الذين يدّعون التقيد بأحكام الدين. وعليه نلاحظ أن الأوطان وقضايا شُعوبها الكُبرى تُسخَّر لمصلحة الأنظمة الحاكمة وأشخاصها الحاكمين بحيث تُصبح النظم في خدمة شخص الحاكم... وتكثر الشعارات التي تُرفع وتُنقض في الواقع العملي من خلال سلوك الأنظمة ورؤوسها في آن.
ففي مرحلة ما قبل قيام الدول الوطنية في العالم العربي، وخصوصاً إبان حقبة الاحتلال العثماني، نجد أن "الشأن الديني" كان يُستخدم لتكريس هيمنة الباب العالي على امتداد البلدان التي كان العثمانيون يسيطرون عليها ويعتبرونها من ممتلكاتهم. وفي الوقت نفسه نجد أن "الشأن الديني" استخدم كبوصلة وكمبرر لتدخُلات الامبراطوريات والممالك الغربية في العالم العربي المترامي الأطراف لتقويض السيطرة العثمانية وحصر إرثها. وفي هذا السياق تمكنت تلك القوى الغربية من انتزاع ما سُمي بـ"الإمتيازات" من الباب العالي العثماني. هذه الإمتيازات شكلت رأس جسرٍ للمزيد من التدخل الغربي الذي راح يتمادى بتوظيف "الشأن الديني" لتدعيم حضوره وتناميه، إدراكاً من الغرب لحجم تأثير "الشأن الديني" على شُعوب العالم العربي وبالتالي إمكانية تسخير هذه الشعوب. والأمثلة على ذلك لا تُحصى ولا تُعد وسنختصرها بمثلٍ واحدٍ بليغ التعبير وهو ما حدث في الجزائر في القرن التاسع عشر..
فحين احتل الفرنسيون الجزائر وبدأت تتكون مقاومة شعبية في وجههم، آثروا العمل بنصيحة بعض خبرائهم من المستشرقين، وأبرزهم شخصٌ يدعى ليون روش، كان يعمل لصالح المخابرات الفرنسية، هذه النصيحة التي كانت تقضي بانتزاع فتاوى من المرجعيات الإسلامية تُحظر مقاومة أو محاربة الجيش الفرنسي الذي يحتل الجزائر. وهكذا كان، فجرى تكليف ليون روش للقيام برحلة لزيارة المرجعيات في القيروان والأزهر ودمشق وبغداد وصولاً إلى شريف مكة. وبالفعل نفذ هذا المستشرق الجاسوس المهمة على أكمل وجه وانتزع فتوى من القيروان وأخرى من الأزهر الشريف تماماً كما يريد الفرنسيون. وإذ تزامن ذلك مع موسم الحج إلى بيت الله الحرام فآثر روش التوجه مباشرةً من القاهرة إلى مكة المكرمة حيث التقى بالمرجعيتين الدمشقية والبغدادية ونال منهما مبتغاه بالتمام والكمال. ثم حمل هذه الفتاوى الأربع إلى شريف مكة الذي قدر هذه الفتاوى "الكريمة" كل تقدير وصدّق عليها باسم الإسلام، وباسم المسلمين طبعاً، وعاد إلى الجزائر وراح الجيش الفرنسي يوزع هذه الفتاوى وينشرها بواسطة أعداد من المعممين. وكان من حصيلة ذلك أن مكنت هذه الفتاوى القوات الفرنسية من استغلال الجزائر مدة 130 عاماً. صحيح أن العديد من الجزائريين تأثروا بتلك الفتاوى "الدينية" لكن العديد منهم استمروا في مقاومة المستعمرين حتى أخرجوهم مهزومين، مخذولين، أذلاء من الجزائر، مصحوبين بالعدد من عملائهم. هذه الحادثة التاريخية نجد ما يُشبهها اليوم في الحرب التي نعيشها حيث يُسخر "الشأن الديني" لصالح الحلف الأطلسي و"إسرائيل"، دائماً باسم الإسلام، ودائماً عبر ما يُسمى بـ"علماء المسلمين".
وهنا أيضاً سنكتفي بإعطاء مثلٍ عن استخدام الاستعمار لـ"الشأن الدين" اليوم وقيام مدّعي التدين بتوظيف أنفسهم في خدمته بحجة نصرة دينهم..
قام الاستعمار الأميركي، الأطلسي، بتشكيل منظمات إرهابية، مذهلة بدمويتها، ودفعها باتجاه سورية والعراق واليمن وليبيا، وشيّدَ معسكرات لها أبرزها ستة معسكرات، ثلاثة منها في تركيا الأطلسية، وثلاثة في منطقة فزّان في ليبيا. ونتائج ذلك معروفة، بينما تستمر الدول الأطلسية برفع عنوان الحرب على الإرهاب وهو عنوانٌ بات يُشكل أضخم وأخبث أكذوبة عرفتها العلاقات الدولية في العصور الحديثة. وإلى جانب ذلك يقوم ما يُسمى بـ"الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين"، وعلى رأسه الحاخام الشيخ يوسف القرضاوي الذي يتخذ من قاعدة قطر العسكرية الأمريكية مقراً له، بإصدار الفتاوى لتبرير وجود تلك المنظمات الإرهابية وإعطاء أعمالها مشروعيةً "دينية" مع ما يتفرع عن ذلك من فتنٍ مذهبية لم يسبق أن عرف المحيط "الإسلامي" مثيلاً لها إذ تجاوزت بخطورتها كل ما سبق للإستعمار أن افتعله من فتنٍ في السابق.
إن الواقع الفظيع الذي تعيشه بلادنا في هذه الحقبة من الزمن يُشكل الترجمة الميدانية لما يمكن أن يُحدثه التلاعب بـ"الشأن الديني" من تشوهاتٍ ودمار وانتحار، وتكريسٍ لهيمنة الاستعمار.
ويتبين مما تقدم أن طُروحات الطائفية والمذهبية، ومزاعم التدين السياسي، لا تُوصل إلا إلى الخراب الشامل. إنها أخطر أنواع أسلحة الدمار الشامل التي يُمكن أن تفتك بمجتمعاتنا. وهي ولّادةُ أزمات مفتوحة لا نهاية لها، مما يُعطل المستقبل تعطيلاً كاملاً، ويُعمم العبودية، ويُلغي أية إمكانيةٍ لبناء الحرية والتنمية والاستقلال. فهذا النوع من الحروب هي حروب المجتمعات على ذاتها، وحروب الاستعمار على هذه المجتمعات. إنها تُمثل النوع الجديد من الحروب والذي تبناه الإسرائيليون، ومن خلفهم قوى استعمارية على رأسها الولايات المتحدة الأميركية، منذ حرب 1967. وهذا ما كان قد لاحظه وحذر منه المفكر يوسف الأشقر على مدى عشرات السنين.
الحروب على الذات
هذا المشهد العام نجد تطبيقاته محلياً وسنأخذ مثلاً واحداً هو لبنان. إن الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب اللبناني هو تجسيدٌ محلي للصورة العامة آنفة الذكر. فالطائفية والمذهبية تؤديان قسطيهما كاملاً على صعيد التشرذم الداخلي والتخلف والفقر وتمزيق الهوية المجتمعية إلى حدِ سقوط اللبنانيين إلى ما دون مستوى التشكل الاجتماعي حيث بات سكان لبنان مجرد رعايا طوائف ومذاهب، بل قطعان طوائف ومذاهب وليسوا مواطنين. وفي التشكيلة المعيبة هذه نجد أن الطوائف والمذاهب باتت مجرد معتقلات ليس إلا. وأسوأ ما فيها أنها تعتبر المعتقلات الوحيدة التي يدخل إليها الكائن البشري اللبناني بكامل إرادته ويظن نفسه حراً إذ في تخيلاته أن هذه المعتقلات تحميه من "الآخر". وبين هذه الطوائف والمعتقلات شُيدت جدران من الفصل أخطر من جدران الفصل العنصري التي أقامها الإسرائيليون على أرض فلسطين. والسبب بسيط وهو أن جدران الفصل اللبنانية لا تُرى بالعين المجردة لأنها تسكن في عقلية سُكان ونزلاء تلك المعتقلات.
إن حال قطعان الطوائف والمذاهب تعيسة إلى حد أن رُعاتها، من سياسيين وحلفائهم مرتدي الأزياء التي دُرِجَ على تسميتها أزياء دينية، تُمثل نوعاً من أنواع العبودية المقنعة. وكما يقول الفيلسوف غوته.. "ثمة نوعٌ من العبودية التي يستحيل الإنعتاق منها. إنها العبودية التي يعيشها الإنسان وهو يظن نفسه حُراً". هذا يختصر العنوان الكبير الذي يُسمى الحريات العامة والحقوق الفردية في لبنان والذي هو مجرد عنوان لا تطبيق فعلي له في ظل المعتقلات الطائفية - المذهبية وجدران الفصل العنصري "APARTHEID"، وهي عناوين ينص عليها الدستور اللبناني في نصوصه ذات الصلة بالمساوات بين اللبنانيين فيما الواقع العملي عكس ذلك.
وحسبنا الإشارة إلى أن رعاة القطعان الطائفية والمذهبية، من السياسيين وحلفائهم المُرتَدِين يحمل كلٌ منهم سوطاً لتسيير قطيعه. والسوط هذا يحمل اسماً آخراً هو حقوق الطوائف والمحاصصة الطائفية. وأما المعتقلات فلها أيضاً أسمٌ آخر وهو "العائلات الروحية" وذلك بقصد الدلالة إلى الارتباط بالدين فيما الدين، كدين، براءٌ بالكامل من هذه السلوكيات التي تُجيز كل أنواع التدخلات الخارجية، لا بل تُبررها، لا بل تُعطيها مشروعيةً، وأولها تدخل الوصايات الإستعمارية التي باتت تُختصر اليوم بالوصايةِ الأميركية، مباشرةً تارةً أو عبر وكلائها الإقليميين. هكذا لا نستغرب إن اختفى، أو يكاد يختفي، من الخطاب السياسي الرائج اسم لبنان أو عبارة وطن.
فالنصوص الدستورية يتم التقيد بها بصورة انتقائية تماماً. أي أن النص الذي يتلاءم في ظرف معين مع المصالح المادية والسلطوية لرعاة القطعان الطائفية والمذهبية يتم اعتماده، وأما ما يتعارض مع هذه المصالح فيتم تجاهله بالكامل. إنها مجرد "وجهة نظر". مجرد مزاج. والأمثلة عديدة حول تجاهل بعض النصوص الدستورية ولعل أبرزها، وأكثرها فظاعة وقسوة وتوحش، ما هو حاصلٌ في شأن المادتين 7 و95 من الدستور إذ يتم تجاهلهما بالكامل.
فالمادة 7 من الدستور تقول: "كل اللبنانيين سِواء لدى القانون وهم يتمتعون بالسِواء بالحقوق المدنية والسياسية ويتحملون الفرائض والواجبات العامة دون ما فرقٍ بينهم". وأما المادة 95 من الدستور والتي تُشكل النافذة الفعلية للبدء بالخروج، ولو بعد حين، ولو بعد سنوات، من المعتقلات الطائفية والمذهبية. فتنص على تشكيل هيئة وطنية لإلغاء الطائفية تعمل وفق مسارٍ تدرجي ومرحلي. فهذه المادة عُمرها من عُمر التعديلات الدستورية التي أقرت في الطائف، أي منذ أكثر من ربع قرنٍ من الزمن، ومع ذلك يتم تجاهل وجودها كما لو أنها غير واردة أصلاً. هذه الإنتقائية هي من الخطورة بمكان بحيث أنها تنزع عن الدولة الصفة الدستورية بالمفهوم الحقوقي والسياسي ما يؤكد أن مزاعم "التعددية السياسية" التي يتباهى بها المتمسكون بهذا النظام العنصري المعتمد إنما هي في الواقع تعددية دكتاتوريات قزمة، مُزوِّرة ومزَوَّرة.
وأكثر من ذلك فإن النهج المعتمد في تسيير الحياة العامة يُشكل نظاماً موازياً للنظام المتمثل في الدستور، يُجيز كل أنواع الإستبداد والفساد والإفساد والنهب المستدام لخيرات البلاد الطبيعية والاقتصادية ويُهجر الثروات العقلية – الإنسانية ويُقفل آفاق المستقبل أمام الأجيال الجديدة ويدفع بها دفعاً إلى الهجرة عن الوطن وبالتالي يُعمم اليأس في صفوفها
إن مرور أكثر من ربع قرنٍ من الزمن على الخروج المتواصل عن الدستور خلق أعرافاً وجعل الدولة ممزقة بين دستورين.. دستور مكتوب وغير محترم ودستور عرفي قائم على الاستباحة الكاملة لقدرات الدولة اللبنانية وشعبها، مع كل ما يتوالد عن هذا الواقع المؤلم من سلبيات متعددة الأوجه تُحتم ديمومة الانهيار. فهذا النظام العرفي، غير الدستوري، هو في حدِ ذاته انقلاب على الدستور. وأي دولة تعيش واقعاً كهذا الواقع تكون عديمة الاحترام وألعوبة في يدِ الإرادات الخارجية.
لقد دُرجَ على تسمية هذا النظام العرفي المناقض للنظام الدستوري بـ"التركيبة المافيَاوية". لكن هذه التسمية لا تعكس خطورة الواقع القائم إذ ثمة ما يتجاوز الواقع المافياوي. فالمافيا موجودةٌ في العديد من الدول التي تُحترم دساتيرها. إنها حالة خروج عن القوانين. أما في لبنان فالموضوع أخطر بكثير. النظام العرفي الذي يُناقض بالكامل النظام الدستوري هو نظام تمييز عنصري بكل معنى الكلمة إذ يقيم تراتبية في المواطنة، على درجات. فعلى صعيد المثال وليس الحصر إن كاتب هذه السطور، وهو علماني من رأسه حتى أخمص قدميه، مصنف وفق النظام العرفي مواطن من الدرجة الخامسة وبالتالي لايُؤتمن على ما يُؤتمن عليه من هم من الدرجات الأربع التي تسبقه. وهكذا دواليك بالنسبة لمن هم من الدرجة السادسة والسابعة والثامنة. هذا نظامٌ عنصري على قاعدة طائفية. والمعروف أن التمييز العنصري يُلغي تماماً مبدأ المساواة بين المواطنين المنصوص عنه في المادة 7 من الدستور المكتوب الذي هو أم القوانين الوضعية. لذلك نقول أن الطائفية والمذهبية هي نقيض الدولة الدستورية، وهي بالتالي منفتحة بالكامل على المشروع الصهيوني المعادي لوجودنا في الأساس.
الطائفية – المذهبية والصهيونية العربية
ثمة خطأ شائع يقول أن التنوع في لبنان هو نقيض للأحادية اليهودية العنصرية القائمة في "إسرائيل". نعم إنه خطأ شائع إذ أن حقيقة الأمر تتمثل في كون هذا النظام يتماهى مع العنصرية الصهيونية مما يُعطي مشروعية للصهيونية ويضع لبنان في مصاف معسكر الصهيونية العربية. فحسب تجاربنا كلبنانيين يتبين أن كل حالة طائفية ومذهبية تختزن عنصريةً شبيهةً بالعنصرية الإسرائيلية. من هنا حرص الإستعمار على "النموذج اللبناني". ومن هنا أيضاً نلاحظ أن طروحات الغرب حول ما يُسمى بـ "التسوية السياسية" في سورية والعراق تطمح إلى تعميم هذا "النموذج اللبناني" لأنه يكفل التدمير الذاتي وبالتالي يُدخل سورية والعراق في حالة من الانتحار عبر ديمومة الإنهيار.
إن استلهام "النموذج اللبناني" في صياغة "الحل السياسي" في سورية والعراق، وتزيين صورة "المكونات الطائفية والإثنية"، يؤديان مباشرة إلى تبعية هذه "المكونات" للخارج بحيث يُصبح كل "مكون" منها تابعاً لدولة ما، الأمر الذي يُدمر الدولة من الداخل ويقضي نهائياً على سيادتها ويُكرس تحولها إلى ساحةٍ من ساحات المواجهات بين الدول والمعسكرات الدولية. ويُكرس نظام التمييز العنصري فيها.
وهل ثمة توحشٌ، ولا إنسانية يوازيان توحش ولا إنسانية التمييز العنصري بين الناس؟؟؟... وأي خيرٍ ممكن أن يأتي من التوحش واللإنسانية؟؟؟...!!!...
خطايا العلمانيين المتواصلة
لقد بلغ توحش ولا إنسانية النظام العرفي اللعين هذا، والمعمول به في لبنان، حداً من المفترض أن يستنهض عقول وهمم العلمانيين كافة، أكانوا أفراداً أو مجموعات، لكننا ويا للأسف نرى مَن مِن العلمانيين، أفراداً وجماعات، يتماهون في سلوكهم مع التيارات الطائفية والمذهبية التي هي جزءٌ لايتجزأ من منظومة التمييز العنصري ومشتقاتها من جرائم وفساد.
إن التأمل بمسار التيارات التي ترفع العلمانية شعاراً لها يدفعنا دفعاً إلى اتخاذ موقف انتقادي ونقدي منها. فما قيمة الطرح العلماني حين يُغيَّب، ويُعمل بنقيضه، من خلال التماهي مع سلوك الطائفيين والمذهبيين باسم "الواقعية السياسية". وهنا أيضاً مفهوم خاطىء، بل ونقصٌ في فهم معنى الواقعية السياسية. فـ "الواقعية السياسية" هي أمرٌ نسبي يفترض به أن يكون مشتقاً من القناعات السياسية والاجتماعية لا أن يكون وسيلة لتبرير الإلتحاق بمنظومة المعتقلات الطائفية والسياسية. لهذه الأسباب نجد مثلاً أن العلمانيين، كأفراد ومجموعات، لا يقيمون تحالفاً مبدئياً، واضحاً، صلباً، مقداماً، في ما بينهم بل يحول البعض منهم نفسه إلى رديفٍ للمنظومة اللعينة ويُؤثر التحالف معها على التحالف مع من يُشاركونه الطرح العلماني، الوطني، الذي هو خشبة الخلاص الوحيدة للشعب وللدولة للخروج من تحت الركام الحاصل. إنهم يُؤثرون، ويا للعيب، ويا للعار، التماهي مع ما يُسمى بـ"المرجعيات" الطائفية والمذهبية ويدخلون بالتالي في تناقضٍ جذريٍ مع المبادىء العلمانية التي يرفعونها أساساً.
من المقصود بـ"بالمرجعيات" ؟... المقصود من ذلك أصحاب ومديرو شؤون المعتقلات الطائفية والمذهبية. وهذا المصطلح هو من مواليد الحروب اللبنانية الداخلية وتحديداً تلك التي بدأت بالظهور منذ أواسط السبعينات إذ خرجت من رحم الفتن التي تتوالد وتُجدد شبابها يوماً بعد يوم وتزداد تنوعاً.
إن الدول القائمة في حوضنا القومي هي كالأوعية المتصلة. وما من مرة في التاريخ المعاصر شهد هذا الحوض إهانةً للدين كما يشهد اليوم باسم الدين زوراً وبهتاناً، ما يؤكد واقع التناقض الجذري القائم ما بين الطائفية – المذهبية من جهة والدين من جهةٍ أخرى. فما مر يومٌ إلا وحمل معه إثباتاً على حقيقة هذا التناقض، سواء من خلال السلوك المتوحش أو من خلال الخطاب الشرير. فكما أن الطائفيات والمذهبيات في حال اشتباكٍ عنيفٍ مع الدين الذي تدّعي اعتناقه، كذلك العديد من التيارات العلمانية تعيش حالة من الاشتباك المتواصل مع مبادئها. ومن أسوأ ما يمكن أن نلحظه في سلوكيات بعض التيارات العلمانية أنها تحولت إلى معتقلاتٍ رديفةٍ للمعتقلات الطائفية والمذهبية بحيث أن الشباب الذي يفلت من هذه يقع في شباك تِلْك ثم يُسخَّر في سياق التماهي مع النظام اللعين ورموزه. وهنا الطامة الكبرى، أن تُصبح الأحزاب المعتبرة خشبة خلاص للشباب مجرد معتقلاتٍ لهم تُجيّرهم، باسم الواقعية السياسية المغلوطة، إلى خدمة أرباب المعتقلات المذهبية. وهذه ليست الخطيئة الوحيدة، أو الخطيئة الأفظع من خطايا بعض التيارات العلمانية. فثمة خطيئة رهيبة ارتكبها العديد من العلمانيين، بدءاً من بعض كبار منظريهم، في شتى تياراتهم السياسية، وهي الانطلاق في حملاتهم ضد الطائفية والمذهبية بالتهجم على الدين، كدين، ما قدم على طبقٍ من فضة الذريعة لتجار الطوائف والمذاهب وبالتالي جعل هؤلاء يُحرضون قواعدهم أو بالأحرى القواعد التي يخدعونها، ضد التيارات العلمانية وتنصيب أنفسهم مدافعين عن الدين وعن رب العالمين. واستمرت هذه الخطيئة لعشراتٍ من السنين ودخلت التيارات العلمانية بالتالي في إشكالات ومشاكل هي في غنى عنها.
وحده الفيلسوف أنطون سعاده تجنب الدخول في هذا السبيل العقيم، بل وأكثر من ذلك هو طرحه المتقدم والريادي للعلاقة بين الرسالتين المسيحية والمحمدية وهو طرحٌ استبق فيه كل المقاربات الحديثة لما دُرج على تسميته بالحوار المسكوني من دون أن يحيد قيد أنملة عن موقفه العلماني – العلمي المبدأي، مُسلطاً الضوء على أجمل ما في التوحيد على الصعيد الديني. وكتاباته في هذا المجال هاديةٌ للعلمانيين كافة وتصلح اليوم لأن تكون علاجاً للأزمات والتأزيمات الحاصلة باسم الدين.
وحدها العلمانية، في زماننا الحاضر، تحترم الدين وتضع حداً لظاهرة الإتجار به كما تمنع الاستعمار من استخدام "الشأن الديني" في سياق حملة التدمير الشامل لوجودنا الإنساني والمجتمعي والثقافي والحضاري.
باختصار، وفي ضوء تجاربنا، أن الطائفية – المذهبية هي سلاح الدمار الشامل الوحيد الذي ينصحنا الإستعمار باقتنائه والتمسك به، إذ إن هذا السلاح لا يُدمر أحداً سوانا نحن. إنه بمثابة الغذاء المسموم نقتات منه كل يوم وبكامل إرادتنا بحيث لا نفلت من القدر المحتوم.. الزوال.
* في هذا العدد ملف حول "عرس الطائفية وبؤس العلمانيين" من اجل الإضاءة على تحديات العلمنة في مواجهة الطائفية السائدة المزدهرة وكأنها في عرس.