Tahawolat

الملخّص:


كعب بن زهير الصّحابي الجليل، وأحد كبار فحول الشّعراء المخضرمين المجيدين، وقد ظهر نبوغه عند ما غلب الإسلامُ على جزيرة العرب، فكان يحتلُّ مكانة مرموقة يشهد بها معظم مؤرّخي الأدب، ويصفون شعره بقوّة التّماسك وجزالة اللَّفظ وسمو المعنى. وفي هذه المقالة حاولت أنّ ألقي بعض الضّوء على شعر الغزل عند كعب بن زهير، الغزل الذي احتلّ مكانةً وحجماً واضحاً في شعره، فمن بين بضع وعشرين قصيدة احتواها ديوانه، توجد سبع عشرة قصيدةً بدأها الشّاعر بالغزل، الغزل الذي حمل خصائص الغزل الجاهلي وخاصّة العُذري، فلم نعثر على بيت واحد لكعب يتَّجه فيه إلى وصف مغامرته مع النّساء، وكذلك لم نجد له شعراً يتناول فيه المفاتن الجسديّة للمرأة، وعلى الرّغم من ذكر محبوبات كثيرات في شعره الغزلي، ولكن يمكن القول بأنَّ هؤلاء المحبوبات لَسْنَ سوى وهم وخيال محض يتطلَّبُهُ الغزل التمهيدي، على نحو ما كان شعراء الجاهليّة يفعلون، كما توصلت في هذه المقالة إلى أنّ كعباً تأثَّرَ في غزله بالإسلام، فجاءت صوره الغزليّة بعيدة عن التعبيرات المنافيّة لأخلاق الإسلام، لأنَّه رجلٌ ذو مبادئ وقيم.


الكلمات الدّليلة: كعب بن زهير، محبوبات كعب، الصّور الغزليّة، الغزل العذري.


المقدمة:


إِنَّ الذي يتتبَّعُ تاريخ الأدب الفارسيّ يلاحظ أنَّهُ "لم يرد شيء من شعر الفرس القدماء في لغتهم الفهلويّة أو الفارسيّة القديمة، ومن المرجّح أنّ كان لهم شعر ولكنَّه توارى في غياهب الزّمان"  ويمكن القول بأَنَّ الفتح الإسلاميّ للفرس كان له أكبر الأثر على الأدب الفارسيّ وخاصة الشّعر، فقد نشأ الشّعر الفارسيّ على أَكتاف الشّعر العربيّ، وكما يقول محمد عوفي في كتابه لباب الألباب، فإنَّهُ ما إن سطعت شمس الإسلام على ديار العجم حتّى اختلط الفرس بالعرب، فحفظوا أشعارهم وعرفوا نظام بحورهم وأوزانهم وقوافیهم، وشرعوا ینسجون علی منوالهم لطائف من نتاج طباعهم . وفي ما یختصُّ بالشّعر فقد کان لشعراء العرب أَثرُ کبیرٌ في شعراء فارس، وخاصة امرؤ القیس والأعشی وأبونواس وجریر وأبوتمّام والمتنبِّي والبحتري.


وقد کان من سمات هذا التأثّر أنّ شعراء الفارسیة کانوا یشبِّهونَ أنفسهم بشعراء العرب وفصحائهم، شأن الرّودکي المتوفي سنة 329 هـ، والذي یقول في إحدی قصائده:


شعر سزاوار امیر گفت ندانم


ور چه جریرم بشعر وطائي وحسّان


 وترجمة ذلك بالعربیة:


أنا لا اُحــسنُ قــول شــعرٍ یلــیق بمــقام الأمــیر

وإن أکن في الشّعر بمنزلة جریر والطّائي وحسّان

وفي قصيدة أُخرى يشبِّهُ ذلك الشّاعر «الرّودكي» ممدوحه بأَنَّه كحاتم الطّائي في الكرم:


                                        «حاتم طائي توئي أنْدَر سخا»


ولقد وصلتْ درجةُ تأثّرِ الشّعرِ الفارسي بالشّعر العربي درجة أبعد من ذلك، فقد نظم الشّعراء الفارسیون ما یسمّی «بالملمّع» وهو القصیدة التي یعمد فیها الشّاعر إلی نظم بیتٍ بالعربیّة یلیه بیت بالفارسیّة، أو یفعلُ عکس هذا، مُراعیاً في الحالین أنّ تجيء الأفکار مترابطة، مسلسلة كأنّها بلغة واحدة  .


ولعلَّ هذا الحد الكبير الذي وصلت إليه درجة تأثر الشّعر الفارسي بالشّعر العربي يكون دلیلاً على صحة ما يقوله محمّد عوفي صاحب أوّل كتاب في تاريخ الأدب الفارسي من أنّ بهرام جور أوّل من أنشأ شعراً بالفارسيّة، وأنَّهُ تعلّم الشّعر من العرب، إذ نشأ بينهم وعرف دقائق لغتهم، وكان له شعر عربي بليغ  ولقد دفعني هذا التأثر الواضح من جانب الشّعر الفارسي بالشّعر العربي إلى أن أتساءل؟


هل هؤلاء الشّعراء العرب المتداولة أعمالهم وأسماؤهم في الأدب الفارسي مثل امرئ القيس والأعشى والمتنبّي والبحتري هم وحدهم أصحاب المكانة الرّفيعة في الشّعر العربيّ؟

 وقد كان من الصّعوبة بمكان، أنّ أجد إجابة مدعّمة بأدلة كافيّة ما لم أكرِّس وقتاً وجهداً للتّعرف إلى أَهم شعراء العربيّة بدءاً من العصر الجاهلي، ولقد بقيت هذه الرّغبة مجرّد طموح، حتّى واتتني الفرصة لكي أسير بهذا الحلم أولى الخطوات نحو الواقع من خلال ذلك البحث، الذي رأيت أنّ أعقده على أحد الشّعراء المجيدين الذين لم يحظوا بمعرفة حقيقيّة ودراسة وافيّة.


وقد کان اتّجاهي في بدایة الأمر محصوراً في اختیار شاعر جاهلي، ولکنّي عندما وجدت أنّ معظم الشّعراء الجاهلیين قد نُشرت عنهم دراسات وبحوث متنوعة وکثیرة نسبیّاً، رأیت أنّ أختار أحد الشّعراء المَخضرمین، الذین کتبوا شعراً في الجاهلیة والإسلام، وشجّعني علی ذلك أنّ معظمَ هؤلاءِ الشّعراء لم یحظوا بدراسةٍ بنفس القدر الذي حظي به الشّعراء الجاهلیون.


ولقد بدا لي أنّ أهمَّ الشّعراء المخضرمین هم نفرٌ قلیل یتصدَّرهم الحطیئة (جرول بن أوس) ولبید بن ربیعة وحسّان بن ثابت والأعشی قیس وکعب بن زهیر، وقد نفّرني من شعر الحطیئة کثرة هجائیاته واضطررت أیضاً لأن أتغاضی عن لبید بن ربیعة، لأَنَّـهُ  وإن أدرك الإسلام إلّا أَنَّه لم یقل فیه شعراً إلا أبيات قليلة منها قوله:


الحمدُللهِ إذ لم یأتني أجلي

    حَتّی اکتسبت من الإسلام سربالا


أو قوله:


ولقد سئمتُ من الحیاة وطولها

    سؤال هذا النّاس کیف لبید


أما حسّان بن ثابت فوجدت أَنَّـهُ أکبرُ المخضرمین حظّـاً من الدّراسة والشّهرة لکونه شاعر الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلّم)، والأعشی قیس یکاد یدانیه في شهرته بسبب خمریاته ومعلقته التي مطلعها:


ودِّع هریرة إنّ الرّکبَ مرتحلُ

    وهل تطیقُ وداعاً أیُّـها الرّجل


وبذلك لم أجد أمامي مَنْ جذبني واحتاز اهتمامي مِمَّنْ أَعرفَ من الشّعراء المخضرمین، سوی کعب بن زهیر، لا سیما وأنَّني لم أکن أعرف عنه الکثیر، وکل ما کنت أَعرفُه عنه قصیدته الشّهیرة والمسمَّاة «البردة»، والتي یعرفها المثقَّفون في بلادنا ویعجبون بها حیث أنَّها تُرجمت إلی الفارسیّة وترجمها کثیرون من المتخصصين في اللغة والأدب ، ولا تقتصرُ شهرة هذه القصیدة علی بلادنا فقط، بل لها ترجمة ترکیة أیضاً، کما أنّ کثیراً من شعراء العربیّة عارضوا هذه القصیدة ومنهم البوصیري في قصیدته «معارضة البردة»، وکذلك عبدالهادي بن علي بن طاهر الحسني في قصیدة «معارضة القصیدة الکعبیّة»  هذا هو ما دفعني إلی أن أختار کعب بن زهیر لهذا البحث أملاً في المزید من معرفته کشاعر عربي کبیر تبدو في شعره سمات العصر الجاهلي، وفي نفس الوقت یحمل شعره خصائص عصر صدر الإسلام.


أمّا عن اختیاري للغزل في شعر کعب بن زهیر، وتحدید البحث في هذه النّقطة بالذّات، فذلك لأن الغزل، "بنوعیه الحسِّي والعُذري" تعبیر صادق عن عاطفة صادقة، ذلك بأَنَّـهُ لم تبعثه مطامع في کسب من أمیرٍ أو زلفی إلی ملك، ولم یدفع إلیه تکاثر بالمحامد، وتفاخر بالفضائل، ولم یوح به تشفٍّ من خصم أو تنقص من قدر منافس وإنّما أزجته العاطفة الجیاشة، والمیل إلی الإفصاح، عِن التّجربة الوجدانیّة التي جرَّبها الشّاعر، ثمَّ إنّ الغزل یصوِّرُ من أحوال النّفوس ما لا یصوره غیره، لأَنَّـهُ یکشف عن حال المحبِّ، ویکشف عن سریرة المحبوبة، وینبع عن عاطفة الحبّ، ویدور حول المرأة، والغزل – لهذا – لا یمثِّلُ عاطفة قائله وحده، بل یمثِّلُ أیضاً العاطفة الإنسانیة الخالدّة، فهو أصلح فنون الشّعر لأن یکون عالمياً، یهزُّ مشاعر القرّاء من كل جنس.

کما أنّ الغزل کما یستطرد الدّکتور أحمد محمد الحوفي «أقوی فنون الشّعر العربي انطباعاً بالبیئةِ، وتأثراً بالعقلیة، وتمثیلاً لأَحوال المرأةِ، کجمالها وتجمّلها وأخلاقها، ممّا لم تصوره بقیّة فنون الشّعر إلّا ناقصاً، وهو إلی ذلك کلّه أبرز فنون الشّعر تأثیراً فیما بعده من العصور معنیً وخیالاً وأسلوباً، وأبعدها من النّحلِ والوضع  . وهکذا بدأ اختیاري للبحث بواحد من الشّعراء المحضرمین، ثم استقرَّ أمري علی کعب بن زهیر، ثم رأیت أنّ أَخصَّ الغزل عنده بهذه الصّفحات التي أَرجو أنّ تلقي ضوءاً متواضعاً علی غزلیات ذلك الشّاعر الکبیر.


كعب بن زهير نسبه ومكانته بين الشّعراء:


1 – هو  الصّحابي الجليل وأحد فحول الشّعراء المخضرمين المجيدين، كعب بن زهير بن أبي سلمى المزني، نسبة إلى مزينة إحدى قبائل مُضر وأمّه كبشة بنت عمّار بن عدي بن سُحيم وأُمُّهُ إمرأةٌ من بني عبدلله بن غطفان، تزوَّجها زهير ثمَّ نزل فيهم هو وأهل بيته، وكانت منازلهم بالحاجر من نجد،  وقد ظهر نبوغ كعب عندما غلب الإسلام على جزيرة  العرب، فأسلم أخوه بجير وأكثر أهل قبيلته مزنيّة وهجاهم الشّاعر هجاء مريراً، ولما علم رسول الله (ص) بذلك أهدر دمه، وبعث إليه أخوه بجير يحذّره، فقدم كعب على رسول الله (صلى الله عليه وأله وسلّم) متلثمّاً فبسط النّبيُّ (ص) يده، فحسر كعب عن وجهه وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير، فتجهَّمت له الأنصار، وأغلظت له، لذكره النّبيَّ (ص) ، وكان بجير شقيق كعب قد أسلم، فاشتدَّ عليه أهله، وكان كعب بن زهير شديداً عليه، فلقي بجير النّبيَّ (ص) مهاجراً، فأرسل إليه كعب بن زهير .


فَهَلْ لكَ فيما قُلْتُ بِالخَيْفِ هَلْ لكا

فأنهلكَ المأمونُ منها وعلَّكا

على أيِّ شيءٍ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكاَ


         ألا أَبْلِغا عنّي بُجيراً رسالةً

شَرِبْتَ مع المأمون كأساً رويّة

و خالفْتَ أسباب َ الهُدى واتَّبِعْتَهً


فلَّما بلغت هذه الأبيات بجيراً أنشدها النّبيّ (ص) فقال: صدق أنا المأمون وإنَّه لكاذب، ثم إنّ بجيراَ كتب إلی أخيه كعب يخبره أنّ النّبيَّ (ص) يهمّ بقتل كلِّ مَنْ يؤذيه من شعراء المشركين، ولَئِنْ كانت لكعب حاجة في نفسه فليقدم علی رسول الله (ص) فإنَّهُ لا يقتل أحداً جاء تائباً، فلمّا وقف كعب علی كتاب بجير، ضاقت به الأرض وأشفق علی نفسه، وأبت مُزَنيّة أنّ تُؤوِيَهُ، فقدم المدينة فنزل علی رجل بيني وبينه معرفةُ ، ثم كان ما كان من توبته وإسلامه بين يدي الرّسول (ص)، وقد قبل الرّسولُ الأكرمُ (ص) إسلامه وأمنه واستنشده «بانت سُعاد» فكساه النّبي (ص) بردة اشتراها معاوية بعد ذلك بعشرين ألف درهم، وهي التي كان يلبسها الخلفاء في العيدين، فسمّيت بقصيدة البردة.


2- أمّا عن مكانة كعب بن زهير بين الشّعراء، فلا شكَّ أنّها مكانة مرموقة يشهد بها معظم مؤرّخي الأدب، وعادة ينقسم الشّعراء عامة من حيث عصور التّاريخ إلى أربع طبقات: الجاهليين والمخضرمين، ثم الشّعراء الإسلاميين إلى أواخر العصر الأموي، ثم َّ المولدين، وهم الذين فسدت سليقتهم باختلاطهم بشعوب الأمم الأخرى من الترك والفرس والمصريين وغيرهم، من الدّولة العباسيّة إلى ما شاء الله ، ويقع كعب بن زهير بين شعراء الطّبقة الثّانيّة طبقة المخضرمين، ولكن هذا التقسيم التاريخي ليس بذي دلالة على مكانة الشّاعر بين أقرانه، والذي يمكن أنّ يوضح لنا هذه المكانة رأي النّقاد، وفي هذا المقام فإنَّ ناقداً مثل ابن سلام في كتابه طبقات فحول الشّعراء يسلك كعب بن زهير بين شعراء الجاهليّة، ويضعه في شعراء الطّبقة الثّانيّة منهم، ذلك أنّه جعل الجاهليين منهم عشر طبقات، وجعل كل طبقة أربعة شُعر: فالطّبقة الأولى: امرؤالقيس، ونابغة بني ذبيان، وزهير بن أبي سلمي والأعشى ميمون بن قيس، والطّبقة الثّانيّة؛ أوس بن حجر وبشر بن أبي خازم، وكعب بن زهير والحطيئة.


على أنّ وضع ابن سلام لكعب في شعراء الطّبقة الثّانيّة ينبغي أَلَّا يؤخذ كحكم نهائي، فالنّقاد تتراوح أحكامهم على الشّعراء، وأَي تصنيف للشعراء لا يعبِّرُ إلّا عن وجهة نظر صاحبه، فكعب لا يقلُّعن أبيه، زهير الذي وضعه ابن سلام في شعراء الطّبقة الأولى، بدليل أنّه قيل لخلف الأحمر: أيهما أشعر، زهير أم ابنه كعب؟ فقال لو لا  قصائد لزهير يذكرها النّاس، ما فضلته على ابنه كعب ، ويرى كارل بروكلمان أنّ كعباً ورث عن أّبيه ملكة الشّعر، ويعتبر أنّ قصيدة «بانت سعاد» من أشهر أَشعار العرب، ويجد أَنَّها ألبست الشّاعر حلّة مَجدلا يُبلى ، ولقد انعقد إجماع الرّواة على أنّ كعباً كان أحد الفحول المجوِّدين في الشّعر والمقدّم في طبقته، ويصفون شعره بقوّةِ التّماسك وجزالة اللَّفظ وسمو المعنى ولقد سبق كعب إلى مذاهب في الشّعر، أخذها عنه الشّعراء ، ممّا يثبت أصالته وموهبته ومكانته المهمّة بين شعراء العربيّة.


الغزل ومدلوله في الشّعر الجاهلي:


1- غزل کعب بین الجاهلیة والإسلام.


اعتاد المؤرّخون تسمیة تاریخ العرب قبل الإسلام باسم التّاریخ الجاهلي أو تاریخ الجاهلیَّة، وقد فهم جمهور من النّاس ومنهم طائفة من المستشرقین أنّ الجاهلیّة من الجهل الذي هو ضدّ العلم، أو من الجهل باللهِ سبحانه وتعالی ورسوله (ص) وشرائع الدّین، ولهذا السّبب أطلق المسیحیّون علی العصور التي سبقت المسیح والمسیحیة اسم «أیام الجاهلیةّ» غیر أنّ هذا المعنی لم یکن المقصود من هذه الکلمة، وإنّما المقصود هو «السّفه والطّيش والحمق والغضب».  بهذا المعنی یجب أنّ ننظرَ إلی الغزل عند کعب بن زهیر الذي وإن لم یکن جاهلیّاً تماماً لأنّه أدرك الإسلام وقال فیه الکثیر من الشّعر، إلّا أنّ آثار الجاهلیة خاصّة لم تکن لتتواری تماماً من شعره بین یوم ولیلة، صحیح أنّ الإسلام قد ترك أثراً واضحاً علی غزل کعب بن زهیر کما سوف نلاحظ، فطبع ذلك الغزل بالتعفّف والعزوف عن وصف المفاتن الجسدیّة، إلّا أنّ ذلك لا یعني أنّ مثل هذا النّوع من الغزل المتعفّف کان معدوم الأثر في الجاهلیّة. خاصّة وأنّ الشّعر لم یکن موغلاً في الزّمن قبل الإسلام کما یلاحظ الجاحظ الذي یقول: «إنّ الشّعر العربي حدیث المیلاد، صغیر السّنِّ، أوّل من نهج سبیله وسَهَّلَ الطّریق إلیه إمرؤ القیس بن حجر، ومهلهل بن ربیعة، فإذا استظهرنا الشّعر وجدنا - إلی أنّ جاء الله بالإسلام -خمسین ومائة عام» .


علی أنّ هناك مَنْ ینکر وجود فنّ الغزل في الشّعر الجاهليّ، ومنهم الدّکتور طه حسین الذي یری أنّ الغزل – بقسمیه حسّي وعذري – نشأ في العصر الإسلامي،  ولکنّنا لن نأبه کثیراً لهذا الرّأي، مستندین إلی تفنید الدّکتور أحمد الحوفي له وتبیان تناقض هذا الرّأي الذي یردُّ نشأة الغزل في العصر الإسلامي إلی مصدرین متناقضین . وعلی ذلك سیبقی الرّأي في أنّ الغزل هو أحد فنون الشّعر المهمّة في الجاهلیة وأنّ کعباً بن زهیر في غزله قد تأثّر بالمثال الجمالي الجاهلي في نفس الوقت الذي تأثر فیه بالرّوح الإسلامیة بوصفه شاعراً مخضرماً اعتنق الإسلام.


2- بین الغزل والتّشبیب والنّسیب


یختلف المؤرّخون والنّقاد حول تحدید الفروق – إذا کانت هناك فروق – بین الغزل والتّشبیب والنّسیب، «ولقد دارت علی الألسّن والأقلام منذ عهد بعید هذه الکلمات الثّلاث: الغزل والنّسیب والتشبیب، واختلِف في مدلولها أهي مترادفات تؤدّي معنی واحداً؟ أم هي مختلفات الدّلالة؟ » ویری الدّکتور هیوارت دن أنّ أکثر النّاس لا یفرِّقون بین الغزل والنّسیب أو التَّشبیب، فالغزل باب واسع لم یخل منه في الغالب مقام من مقامات الشّعر، لأنّ المرأة کانت هي کلّ الجمال في آفاق البادیة، فجعل العربي حدیثه کلّه إلیها، فذکرها عند الافتخار ببلائه وکرمه وعند صبابته وعشقه وعند حلّه ورحلته وفي کل مقام وعلی کلّ حال .


ورأي القدماء یغلب علیه التّوحید بین هذه المصطلحات الثّلاثة، فکبار علماء الّلغة من أمثال ابن سیدة وابن منظور والزّبیدي یرون أنها جمیعاً کلمات مترادفة، ولكن هناك بعض المعاصرین یفرِّقون بین معانیها ومدلولاتها، فیری الدّکتور هیوارت دن "أنَّ هناك بعض الفروق بین هذه الکلمات، فالغزل هو الاشتهار بمودّات النّساء وتتبعهنّ والحدیث إلیهنَّ والعبث بذلك في الکلام وإن لم یتعلّق القائل منهنّ بهوی أو صبابة، وأمّا التشبیب فهو ما یقصد إلیه الشّاعر من ذکر المرأة في مطالع الکلام وما یضاف إلی ذلك من ذکر الرّسوم ومسائلة الأطلال، توخیّاً، لتعلیق القلوب وتقیید الأسماع قبل المفاجأة لغرضه من الکلام، وأما النّسیب فهو أثر الحبّ وتبریح الصّبابة فیما بثّه الشّاعر من الشّکوی وما یصفه من التمنّي وما یعرض له من ذکر محاسن النّساء . ولما كانت مثل هذه الآراء مجرّد اجتهادات شخصیة لا ینهض علیها ولا لها برهان کاف أو دلیل دامغ، فإنّنا سوف نسلّم مع رأي أستادنا الدّکتور أحمد محمد الحوفي برأي اللُّغویین والأدباء من القدماء، فلا نفرّق بین مدلولات هذه الکلمات.


الغزل في شعر کعب بن زهیر:


1-    محبوبات کعب بن زهیر


الغزل إذن علی خلاف ما یری بعضُ الباحثین من المستشرقین والباحثین العرب یرجع إلی العصر الجاهلي ، وبذلك لا یکون غریباً أنّ نعدّ شاعراً مخضرماً مثل کعب بن زهیر من الذین أدلوا بدلوهم في فنّ الغزل، وأجادوا فیه کما سنلمس ذلك في بعض النّماذج.


وقبل أنّ نتناول هذه النّماذج نرید أنّ نسجّل ملحوظتین حول محبوبات کعب بن زهیر، الأولی تتعلّق بأسماء محبوباته اللاتي وردن في غزله، وعددهنَّ سبع محبوبات، أو بمعنی أصح سبعة أسماء، إذ من المحتمل أنّ تکون کلُّ هذه الأسماءِ لمسَمّی واحد أي لمحبوبة واحدة، وتتضّح هذه الأسماء السّبعة من أبیات کعب بن زهیر فهو یقول:


أمِنْ أُمّ شدّادٍ رُسُومُ المنازِل

    تَوَهَّمتُها من بعد سافٍ ووابِلِ


وهناك اسم آخر هو «خولة» وربّما کانت هي نفسها أم شدَّاد.


يسري بحاجاتٍ إليَّ فَرُعْنَـني

    من آلِ خَوْلةَ کُلُّها معروفُ


والاسم الثّالثّ هو «لیلی» یقول کعب في مطلع إحدی قصائده:


أبَتْ ذِکْرَةٌ من حُبِّ لَیْلَی تعُودُني

    عیادَ أخي الحُمـَّی إذا قلتُ أَقْـصَرا


والاسم الرّابع یظهر من مطلع قصیدة أخری:


ألا أسْماءُ صَرَّمْتِ الحِبالا

    فأصبحَ غادِیاً عَزَمَ ارْتِحالا


وسلمی هي صاحبة الاسم الخامس:


فَدَعها وعَدِّ الهمَّ عنكَ ولو دعا

    إل ذِکْرِ سَلْمی کلَّ یَوْمٍ طَرُوبُها


أمّا المحبوبة السّادسة فاسمها نوار:

أمن نوارَ عَرَفْتَ المنزلَ الخَلَقا

    إذ لا تُفارِقُ بَطْنَ الجوِّ فالبُرَقا


وآخرُ ما یرد في دیوان کعب من أسماء محبوباته هو «سعدی»:


وما زِلتَ تَرْجُو نَفْعَ سُعدی ووُدَّها

    و تُبعِدُ حتّی ابیضَّ منك المسائحُ 


وإذا أضفنا إلی هذه الأسماء السّبعة، اسم «سعاد» الذي یرد في «البردة» یصل عدد أسماء محبوبات کعب إلی ثمانیة.


أما الملحوظة الثّانیة حول محبوبات کعب بن زهیر اللّاتي تغزّل فیهنَّ، فهي تختص بأنَّ هؤلاءِ المحبوبات لیس من الواضح أنَّهُنَّ زوجاته دائماً، ذلك أنّ کعباَ دائماً کان یخصُّ الحدیث عن زوجته في شعره بتصریح یوضّح ذلك، فیبین أنّ الحدیث عن «عرسه» وغالباً ما یکون هذا الحدیث خالیاً من الغزل الرّقیق وملیئاً في نفس الوقت بالعتاب واللّوم، یقول کعب:


ألَا بَکَرَتْ عِرْسي تلُومُ وتغْذُلُ


ویقول:    وَغیرُ الذي قالتْ أعَفُّ وأجْمَلُ




ألا بَکَرَتْ عِرسي تُؤائمُ من لَحَی

    وَأقْرِبْ بأحلامٍ النّساءِ مِنَ الرّدی



ويقول:

إنَّ عِرْسي قد آذَنَتْنِي أخيراً            

           لمْ تُعَرِّج ولم تُؤمِّرْ أميرَا


وهكذا فإِنَّ كعباً كان دائماً لا يشير إلى اسم زوجاته بل يكتفي بكلمة «عرسي» ويقترن حديثه عنها باللَّوم والأسى والعتاب مما يدلُّ على أنّ تجربته كانت مليئةً بالمتاعب ممَّا لا يزكّي مثل هذه الزّوجة لأنْ تكون مصدراً للإلهام وموضوعاً للغزل، يدلُّ على ذلك ما ورد في إِحدى قصائد كعب من أنّ إحدی محبوباته تحذّرهُ منْ بعلها وعشيرتها:


وقالت تعلِّمْ أنّ بعضَ حُمُوَّتي 

يحدُّونَ بالأيدي الشّفارَ وكلُّهم

        وبعلي غِضابٌ كُلَّهُم لكَ كاشِحُ

 لِحَلْقكَ لو يسطیعُ حَلْقَكَ ذابحُ


وقد ذکر شارح دیوان کعب، أنّ کعباً کان شریراً شرساً، محارفاً مملاقاً لا ینمّی له مال، فعتبت علیهامرأته ، ومعنی ذلك أنّ الأسماء الأنثویة التي وردت في غزل کعب بن زهیر، إمّا أنّ تکون أسماء وهمیّة لا وجود لها ولا سند واقعياً يُؤيِّدُها، وإمّا أنّ تکون أسماء محبوبات حقیقیات تغزل فیهنَّ الشّاعر، وأيّ الاحتمالین أرجح، هذا ما نطمح أن نصل إلیه في نهایة هذا البحث.


2-    الغزل التّمهیدي عند کعب بن زهیر


وإذا کان کثیر من القصائد الجاهلیة قد افتُتح بالغزل التّمهیدي في کل فنّ من أفانین الشّعر  ، فأإّنا نجد أنّ مثلَ هذا النّوع من الغزل التمهیدي وارد في قصائد کعب بن زهیر، فقصیدته الشّهیرة «البردة» قصیدة مخصصة أصلاً لمدح الرّسول الکریم (ص) وصحابته من قریش، ولکن کعباً یبدأ هذه القصیدة باثني عشر بیتاً من الغزل التَّمهیدي

بانتْ سعادُ فقلبي الیوم متبولُ

    مُتَیِّمٌ إثرَها، لم يُجْزَ مکبولُ


و آخرها:

أمستْ سُعادُ  بأرضٍ لا یُبلِّغـُها

    إلّا العِتاقُ، النّجیباتُ،  المراسیلُ


وینتقل بعد ذلك إلی وصف النّاقة ثمّ إلی مدح الرّسول الکریم (ص)، وفي قصیدة اُخری یبدأ بالحدیث عن الأطلال في ثلاثة أبیات ویذکر محبوبته فیها، وفي البیت الرّابع ینتقل إلی وصف النّاقة متخلّصاً بسرعة من ذکره لمحبوبته، وکأنّها قد أدّت الغرض المطلوب وهو التّمهید لموضوع القصیدة وحسب:


                فلما رأيتُ بأنَّ البكاءَ 

               زَجَرتُ على ما لَدَيَّ القَلو

       

 سَفَاهٌ لَدَى دِمَنٍ قد بَلِينَا

صَ من حَزَنٍ وعَصَيْتُ الشّؤُونا


وفي قصيدة ثالثّة نجد أنّ كعباَ ينهي تغزّله في محبوبته نوار بنفس الموقف الذي أنهى به تغزّله في سعاد في قصيدته البردة، فيقول:


          حلَّتْ نوار ُ بأرضٍ لا يُبَلِّغُها

       

   إلَّا صَمُوتُ السّرَى لا تسأم العَنَقَا



 لا شكَّ أنّ هذا الغزل التّمهيدي لم يجئ عبثاً ولم يك لغواً من القول وإنّما كان عملاً فنّياً مقصوداً من ناحيتين:


ألف: یرید الشّاعر المحبّ أنّ یتناول غرضاً من الأغراض کالحماسة أو الفخر أو الهجاء أو المدح أو وصف النّاقة، أو الرّحلة، فیبدأ یشفق القول بتعبیر عن عاطفته، یعد به نفسه لتمثل موضوعه والاندماج فیه .


ب: أنّ الشّاعر یفتتحُ قصیدته بالغزل لیهیئَ السّامعَ لأنَّ یتلقی ما یسمع بعاطفة متفتّحة ووجدان یقظ، فالغزل هنا کالمقدمة في الخطبة، یمهّد بها الخطیبُ أذهان السّامعین لموضوعه .


3- الوقوف علی الأطلال:

ویجري کعب بن زهیر علی سنّة شعراء الجاهلیة في الوقوف علی الأطلال والدّمنِ التي کانت تسکن بها المحبوبة، ثم مناجاة هذه الأطلال والبکاء بین یدیها، والذي سوّغ ذلك أنّ الحبیبة کانت تسکن الدّیار، فوجود هذا اقترن بوجود تلك، ومرّت علی ذلك الأیّام حتَّی صارت الحبیبة ودیارها وحدة متماسکة الأجزاء.


وکعب بن زهیر وإن کان یجري علی منوال الجاهلیین في الوقوف علی الأطلال، إلّا أنَّهُ یختلف عنهم أحیاناً ویری أنَّهُ لا جدوی من ذلك الوقوف ولا من البکاء:


فلمّا رأیتُ بأنَّ البُکاءَ

    سفاهٌ لَدَى دِمَنٍ قد بَليَنا


ز        جَرْتُ علی ما لَدَيَّ القلُو


    صَ من حَزَنٍ وعَصَیْتُ الشّؤونا


وهذا الموقف یذکّرنا بما سوف یحدث علی ید أبي نواس في العصر العباسي من رفضٍ للوقوف علی الأطلال والبکاء علیها، ولکنَّ کعباً لا یفلت دائماً من تأثیر الجاهلیین، فهو کثیر ما یقف علی الأطلال بطریقتهم:


أمِنْ دِمْنَة فَقْرٍ تَعاوَرَها البِلَی

    لِعَیْنَیْكَ أسرابٌ تفیضُ غُرُوبُها


تَعاوَرَها طولُ البِلی بعدَ جِدَّةٍ

    وجَرَّتْ بأذیالٍ علیها جَنُوبُها


فلم یبقَ فیها غیرُ أُسٍّ مُذَعْذَعٍ

    ولا من أثافِي الدّارِ إلَّا صَلیبُها


تَحَمَّلَ منها أهلُها فَنَأتْ بهم

    لِطِيَّتِهِمْ مَرُّ النّوی وشُعُوبُها


ویذکر محبوبته أیّام کانت هذه الدّیار عامرة بها:

وإذْ هي کغُصنِ البانِ خفّاقةَ الحشی

    یرُوعُكَ منها حُسْنُ دلٍّ وطِیْبُها


فأصبحَ باقي الوُدِّ بیني وبینها

    أَمانِيِّ یُزْجِیْها إليَّ کَذُوبُها


ولکن لا یلبث کعب أنّ یتنکر لموقف الغزل هذا، متعمِّداً أنّ یتناسی جمال حبیبته أو مَنْ أوهمنا أنَّها حبیبتُه، لکي یخلُص إلی أغراضه الحقیقیَّة مثل  وصف النّاقة:


فدعها وعدِّ الهمَّ عنكَ ولَوْدَعَا

    إلی ذِکْرِ سَلْمَی کُلَّ یَوْمٍ طَروُبُها


أتَصْبوُا إلَی سَلْمَی ومن دونِ أَهلِها

    مَهَامهُ یَغْتالُ المَطِيَّ سُهُوبُها


والشّاعر إذْ یتناسی محبوبته هنا متعلِّلاً ببعد المسافة إنّما یدلُّنا علی أحد أمرین:


أوّلهما: وهو الأرجح، أنّه لم یقصد الغزل لذاته أو للتّعبیر عن تجربة حبٍّ حقیقیّة یعانیها، بل هو یجري علی سُنَّةِ الأولین في ما یوردونه في بدایة قصائدهم من الغزل التّمهیدي، وثانيهما: أنَّـهُ یدلُّنا علی أنّ الشّاعر یعزفُ عن طریقة الأقدمین في الانفعال واللّوعة أمام الأطلال والبکاء المستمر المتمسك بذکری الحبیبة حتَّی النّهایة، ومهما بعدت الشّقَةُ، ویضعف من هذا الاحتمال أنَّهُ لا یشکِّلُ سِمةً بارزةً في غزل الشّاعر، إذ أنّه ما یلبث أنّ یعود في مناسبة أُخری لیستمرئ الوقوف علی الأطلال والبکاء والحزن علی ما کان بها من عهود خوالٍ:


أمِنْ نوارَ عَرَفتَ المَنزلَ الخَلَقَا

    إذ لا تُفارقُ بَطْنَ الجَوِّ فالبُرقا


وقفتُ فیها قلیلاً رَیْثَ أسْأَلُها

    فانْهَلَّ دمعي علی الخَدَّیْنِ مُنْسَحِقا


لا زالتِ الرّیحُ تُزْجي کُلَّ ذي لَجَبٍ

    غیثاً إذا ماوَنَتْهُ دِیْمَةٌ دَفَقَا


وهکذا تنسجم مثل هذه المقطوعة مع مِراه المستشرق غِوستاف فون غرو نباوم من أنّ أغاني الحبِّ في العصر الجاهلي مجموعة من الشّعر الذي یملؤه الأَسی علی ما فات، فکان الشّاعر یتغنَّی بعاطفةٍ قد انقضتْ أو سعادة أفلتت .


- الحبُّ في نظر کعب بن زهیر

یقول کعب بن زهیر في إحدی قصائده:

فَعَزَفْتُ عنها إِنّما هُو أن أَرَی

    مالا أَنالُ فإنَّـني لَعَزوفُ


لا هالِكٌ جَزَعاً علی ما فاتَني

    ولِما أَلَمَّ مِنَ الْخُطُوبِ عَرُوفُ


وهذا یوضِّحُ ارتباط الحبِّ عنده بالإباء والشّممِ، بل إنّ کبریاءه يجعله لا یلین ولا یخضع له جانب حتّی وإن تولّت عنه حبیبته.


ألم تَعلَمِي أنِّي إذا وَصْلُ خُلَّةٍ

    کذاكِ تولَّی کنتُ بالصّبْرِ أجْدَرا


إنَّ الصّبر هنا لیس معناه الانتظار السّلبي لما تجودُ به الحبیبة، لأنَّ مثل هذا الصّبر یتنافی مع رؤیة کعب للحبِّ، إنّ الحبَّ أو الهوی عند کعب إمّا أنّ یکون حافظاً للکرامة والإباء، أو لا یکون، إنَّه یربأُ بنفسه أن یقرّبه الهوی من الهوان.


ولقد علمتِ وأنتِ غيرُ حليمةٍ 

       

 أَلَّا يُقَرِّبني هوّىً لِهوانِ


وربّما يكون هذا الرّأي الذي يرتأيه كعب في الحبِّ متّسقاً مع الرّأي الذي يرتأيه في المرأة عموماً:


ألا بَکَرَتْ عِرسي تُؤائمُ من لَحَی

    وَأقْرِبْ بأحلامٍ النّساءِ مِنَ الرّدی


ولکن هذا الرّأي الذي یسوقه کعب في المرأة لیس کثیر الورود في شعره وتکاد تکون هي المرّة الوحیدة التي حطَّ فیها کعب من قدر المرأة إلی هذا الحدِّ، فکعب کما یتَّضحُ من شعره إنسان یعرف حق المرأة ویحترمها ویحافظ في علاقته معها علی مبادئ تفیضُ بالرّجولیة والشّهامة، فهو لا یتورع عن الدّفاع عمّن یحبّها علی الرّغم من کلِّ ما یلاقیه منها:

وبالعفوِ وصَّاني أبي وعشیرتي

    وبالدّفْعِ عنها في أُمورٍ تَریبُها


کما أنّ کعباً کثیراً ما یعاتب المرأة في شخص زوجته أو حبیبته، ویذکرها دائماً بأنَّهُ لن یکون البادئ بالقطیعة، ولکنَّـهُ سیردُّ علی الهجر بمثله:


فإنّ تَصْرمیني ویْبَ غیرِك تُصْرَمي

    وأُوذِنْتِ إیذانَ الخلیطِ المزايلِ


ویری کعب أنّ الحبَّ لا یمکن أنّ یعیش في جوٍّ من النّمیمةِ والأنانّیة والوشايّة، وعلی المحبِّ أنّ یدفع عن حبیبتهِ هؤلاءِ الواشین:


تعاوَرَها الوُشاةُ فعیَّروها

    عن الحالِ الَّتي في الدّهْرِ حالا


ومَنْ لا یفثإ الواشینَ عَنْهُ

    صباحَ مَسَاءَ یَبغُوهُ الخَبَالَا


- الجمال الأنثوي في شعر کعب:


تحوّلت المرأة في آخر طور من أطوار الجاهلیة إلی قیمة معنویة کالجمال أو الحریّة أو السّعادة أو العدالة، وتحول الحبُّ إلی تعلّقٍ بتلكَ القیمة وتضحیة في سبیلها، وإقدام علی المخاطر من أجلها ، رغم أنّ الشّعر الجاهلي قد عرف الغزل الحسِّي المبني علی جسد المرأة وکذلك الغزل العذري المبني علی روحها وجاذبیتها، إلّا أنّ الإسلام عندما جاء کان له دور في تفضیل وتغلیب النّوع الثّاني من الغزل «العذري» من حیث أنّ الإسلام اتجه إلی «الإعجاب بالأخلاق الفاضلة والحث علیها» ، وقد ظهر هذا المیل واضحاً في شعر کعب الغزلي، فهنا نحن نجده یؤکِّدُ صفة الصّدق في الوعد التي یفتقدها في حبیبته فلا یملك إلّا أنّ یأسفُ لأنَّها ضلَّلتهُ بالوعود والأماني الکاذبة:


یا ویحها خُلَّةً، لو أنَّها صَدَقَتْ

    ما وَعَدَتْ أو لو أنّ النّصْحَ مَقْبُولُ


لکِنَّها خُلّةٌ قد سِيطَ مِنْ دَمِهَا

    فَجْعٌ، ووَلْعٌ وإخلافٌ، وتبدیلٌ

فما تَدومُ علی حالٍ تکُونُ بها

وما تَمَسَّكَ بالوَصْلِ الّذي زَعَمَتْ

    کما تَلَوَّنُ في أثوابِها الغُولُ

إلّا کما تُمسِكُ الماءَ الغَرابِیلُ


أرجُو وآمُلُ أنّ یَعْجَلْنَ في أبدٍ

    وما لهُنَّ طوالَ الدّهرِ تَعْجیلُ


فلا یغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ

    إنَّ الأمّانيَّ والأَحلامَ تضلیلُ


أمسَتْ سُعادُ بأرضٍ لا یُبَلِّغُها

    إلّا العِتاقُ النّجیباتُ، المراسِیلُ


وَلَنْ یَبَلّغَها إلَّا عُذافِرةٌ

    فیها علی الأینِ إرَقالٌ وتبغِیلُ


أرجُو وآملُ أنّ یَعْجَلْنَ في أبدٍ

    وما لهنَّ طوالَ الدّهرِ تعجیلُ


فلا یغُرَّنْكَ ما مَنَّتْ وما وَعَدَتْ

    إنَّ الأمّانيَّ والأَحلامَ تضلیلُ


کما أنَّ کعباً ینکر علی محبوبتهِ أنّ تبخلَ علیه في الوصال المجرّد حيثُ رأتْ المشیبَ في مفارقه:


فأصبحتُ قد أنکرتُ منها شمائلا

    فما شِئْتَ مِنْ بُخلٍ  ومن مَنعِ نائلِ


وماذاك عن شيءٍ أکونُ اجْتَرمْتُهُ

    سوی أنّ شیباً في المفارقِ شاملي


وإنّ مثل هذا التَحول الذي یصیبُ الحبیبة فتصدُّ عن حبیبها وتتنصَّلُ من وعودها معه وتتنکَّرُ له، إنّ مثلَ هذه الصّفات هي ما کان کعب یعاني منها، ویتمنّی ألّا تکونَ في حبیبته، ولکن هیهات فنحن لم نعثر ما یُفیدُ أنّ کعباً قد عثر علی غایتهِ المنشودة، ولنستمع إلیه یقول:


وتنکَّرتْ لي بعدَ وُدٍّ ثابتٍ

    أنّي تجامُعُ وصلِ ذي الألوانِ


النّموذج العذري للجمال عند کعب بن زهیر إذن هو ذلك الذي یتمَّثلُ في الحبیبة الرّاعیة لعهود حبیبها المخلصة به البارَّة بوعدها له، الغیر متلوّنة ومتبدلة في علاقتها به.


وتکتمل الصّورة بعد أنّ نستعرض رأي کعب في الجمال الجسدي للمرأة، وهنا نجدُ أنّ کعباً لا یدخل في زمرة الحسّیین، فحتَّی إذاما تَعَرَّضَ لوصف حبیبته فإنَّ هذا الوصف داخل ضمن الغزل العذري الرّقيق المتعفِّف، کما یصفُ کعبٌ حبیبته:


وما سُعادُ غَدَاةَ البَیْنِ إذ رحلوا

    إلَّا أَغَنُّ غضیضُ الطّرفِ مکحولُ


تجلو عوارضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابتسمتْ

    کأنّـَهُ مُنْهَلٌ بالرّاحِ مَعْلُولُ


وإلی قریب من هذا الوصف البريء المتفق مع الفضیلة، یقول کعب عن أمِّ شداد:


أری أمَّ شدّادٍ بها شِبْهَ ظبیبةٍ

    تُطِیفُ بمکحولِ المَدامعِ خاذلِ


أغنَّ غضیْضِ الطّرفِ رَخْصٍ ظُلُوفُه

    تَرُودُ بمُعْتَمٍّ من الرّملِ هائلِ


وتَرنُو بِعَیْنَي نعجةٍ أمِّ فرقدٍ

    تظلُّ بِوَادي روْضةٍ وخمائلِ


وتحظُو علی بردَّیتينِ غَذَاهُما

    أهاضِیْبُ رجّافِ العشیَّات هاطلِ


وتفترُّعن غُرِّ الثّنایا کأنّها

    أقاحٍ تَرَوَّی من عُرُوقٍ غلاغلِ


وهکذا فإنّ کعباً لم یفحش ولم یخرج عن جادة الفضیلة في غزله، وفي رأیه الذي أخذ به في الحبِّ، وهذا هو قصاری ما وصل إلیه من وصفٍ وتغزلٍ بالمرأة، رقّة وسلاسة تبدو في مثل قوله:


وإذ هِي کغُصْنِ البانِ خفَّاقةَ الحشی

    یرُوعُكَ منها حُسْنُ دلِّ وطِیبُها


وهو قول یثبت لکعب أصالته وفي نفس الوقت تأثّره بالجاهلیین من جهةٍ وبروحِ الإسلامِ من جهةٍ أخری.


الخاتمة:


أهمُّ نتائج البحث.


حاولت في الصّفحات الماضیة أنّ ألْقیَ ضوءاً متواضعاً علی شعر الغزل عند کعب بن زهیر، وعذري في أيِّ قصورٍ یشوبُ البحث، قلَّة ما کتب عن ذلك الشّاعر واقتصار أغلب ما کتب عنه علی قصیدته الشّهیرة «البُردة».


ویمکن أنّ نلخّصَ النّتائج التي یمکن أنّ یکون البحث قد لمسها في:


1- احتلَّ الغزل مکانة وحجماً واضحاً من شعر کعب بن زهیر، فمن بین بضع وعشرین قصیدة احتواها دیوانه، توجد سبع عشرة قصیدة بدأها الشّاعر بالغزل واصفاً محبوبته أو واقفاً علی الأطلال، أو معاتبة عرسه، أو شاکیاً من الهجرِ أو معلناً عن کبریائهِ في الهوی، وتراوحت هذه بدایات هذه القصائد من بیتین کحدٍّ أدنی إلی اثني عشر بیتاً کحدٍّ أقصی، وقد بلغ مجموع هذه الأبیات، الغزلیّة في القصائد السّبع عشرة عدداً یفوق المائة بیت، وبالتَّحدید 115 بیتاً.


2- حمل غزل کعب بن زهیر خصائص الغزل الجاهلي وخاصة الغزل العذري منه، فلم نعثر علی بیتٍ واحد لکعب یتَّجهُ فیه إلی وصف مغامرته مع النّساء مثلما فعل امرؤالقیس مثلاً، ولا عمد إلی وصف حسّي للمرأةِ یتناول مفاتنها الجسدیِة، بل إنّ لفظة مثل «نهد» أو «ثدي» أو «فخذ» - وهي ألفاظ شائعة في الغزل الحسّي – لیس لها وجود في شعر کعب الغزلي.


3- یغلبُ علی الظّنِّ أنّ کعباً لم یکن شاعراً عاشقاً یعبِّرُ عن تجاربه في الحبِّ والعشق من خلال غزله، ذلك أنّهُ أکثر من إیراد أسماء المحبوبات، فذکر ثمانیة أسماء من دون أنّ یلاحظ المرء تفوّق اسم محبوبة علی اسم محبوبة اُخری، فکل اسم منها ورد في قصیدة خاصة به وروداً یحملنا علی القول بأنَّ هؤلاءِ المحبوبات لسن سوی وهم وخیال محض یتطلّبه الغزل التَّمهیدي، علی نحو ما کان شعراء الجاهلیة یفعلون في غزلهم التّمهیدي، فینتقلون من سلمی إلی سعدی إلی لیلی بلا أيِّ حرجٍ وبدون أیة محاذیر، المنافیة لأخلاق الإسلام، ولیس هذا غریباً عن شاعر ذهب للّرسول الکریم (ص) بنفسه وتاب بین یدیهِ وأسلم، ومدحه ومدح قریشاً ثمَّ مدحِ الأنصار، فکان من المنطق بعد ذلك أنّ يراعي حرمة المرأة، لأنَّ الإسلام کدین یراعي حرمتها وکرامتها.


5- إنّ کعباً لم یکن في تأثُره بالغزل الجاهلي مقلّداً وحسب، بل کانت له أصالته الخاصة التي جعلته یبشّر بنبذ البکاء علی الأطلال، وهو أمر سیجنّد له أبو نواس شعره في العصر العباسي، کما تتجلَّی أصالة کعب أیضاً في صورة وتراکیبه ومباراتهِ الخاصة التّي ترفعه إلی منزلةِ المبدع، کما تشهد أبیاته الرّقیقة التّي یصف فیها «سعاد» في البردة، وکذلك وصفه لأمِّ شدَّاد بأبیات رقیقة لا نجدُ لها مصدراً مباشراً في الشّعر الجاهلي.


وتخطو علی بردّیتينِ غَذَاهُما

    أهاضیبُ رجَّافِ العشیَّاتِ هاطلِ


وتفترُّ عن غُرِّ الثّنایا کأنّها

    أقاحٍ تَرَوَّی من عُرُوقٍ غلاغلِ


6- کان کعب بن زهیر کما یتَّضِحُ من قصائده، غیر سعید في حیاته الزّوجیة، ولذلك خَلَتْ قصائده من الغزل بزوجته، والقصائد التي تحدَّث فیها صراحة عنها ملیئة باللّومِ والعتاب والتجلّد کما یبدو في قصیدته:


ألَا بَکَرَتْ عِرْسي تلُومُ وتغْذُلُ


وقصیدته:    وَغیرُ الذي قالتْ أعَفُّ وأجْمَلُ




ألا بَکَرَتْ عِرسي تُؤائمُ من لَحَی

    وَأقْرِبْ بأحلامٍ النّساءِ مِنَ الرّدی



وقصیدته:


إنَّ عِرْسي قد آذَنَتْني أخِیرا

    ولم تُعَرِّجْ ولم تُؤامِّرْ أمِیْرا


وقد کان کعب کما یبدو في قصائده یتذرَّعُ بالصّبر والتَّجلّدِ أمام مثل هذه الزّوجة، ویبقي علیها علی الرّغم ممّا تسبّبُهُ له من متاعب، لأنّهُ رجلٌ ذو مبادئ وفي هذا ما یؤکد أثر الإسلام علیه من جهة، وما یبرر لجوءهِ إلی الغزل التَّمهیدي والإکثار من أسماء المحبوبات من جهة أخری.


حاولتُ في هذه المقالة أنْ أَتعرَّضَ لغزل کعب بن زهیر، وکلُّ ما أرجوه أنّ تکون أخطائي حافزاً لي لتلافیها في المستقبل إنّ شاء الله تعالی.




المصادر والمراجع:


1- أحمد، أبولفضل؛ دراسات في العصر الجاهلي، القاهرة، المجلس الأعلى لرعايّة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعيّة، 1969م.

2- بدوي، طبانة؛ دراسات في النّقد الأدبي،، القاهرة، مكتبة الأنجلوا المصريّة، الطّبعة 3، 1960.

3- بروكلمان، كارل؛ تاريخ الأدب العربي. ترجمة الدّكتور عبد الحليم النّجّار، ج1، القاهرة، الطّبعة 2، دارالمعارف، 1968م.

4- الحتّي، حنا نصر؛ ديوان كعب بن زهير، قدم له ووضع هوامشه وفهارسه، بيروت، لبنان، دار الكتب العربي، ط 2، 1996هـ.

5- الحوفي، أحمد محمّد؛ التيارات الثّقافیة، القاهرة، الدّار القوميّة للطباعة والنّشر، بلا ت.

6- الحوفي، أحمد محمّد؛ الغزل في العصر الجاهلي، القاهرة، دار نهضة مصر، الطّبعة 3، بلا ت.

7- ح. هيوارت دن؛ الأدب العربي وتاريخه في العصر الجاهلي، بلا.ت.

8- السّكري، الإمام أبي سعيد بن الحسين بن عبدلله؛ شرح ديوان كعب بن زهير، القاهرة، الدّار القوميّة للطباعة والنّشر، 1965 م.

9- شراره،عبد اللطيف؛ فلسفة الحب عند العرب، بيروت، لبنان، دار مكتبة الحياة، ط 2، 1960م.    

10- فاعور. علي؛ شرح ديوان كعب بن زهير، بيروت، لبنان، دار الكتب العلميّة، الطّبعة 1، 1987م.

11- محمّد شرف. حنفي؛ النّقد الأدبي عند العرب، أصوله وقضاياه، تاريخه، القاهرة، مكتبة الشّباب، 1970م.

الدّوريات:

1- الكك، فكتور؛ لقاء الشّعر العربي والشّعر الفارسي، مجلة "الإخاء"، العدد 459، تشرين ثاني 1976م.


-

Sonnit in Ka'b bin Zuhair poetry

Abstract

Ka'b bin Zuhayr high-level companions, a senior stallions poets veteran glorious, and his genius has appeared at some of Islam conquered the Arabian Peninsula, Was occupies a prominent place Seen by most historians of literature, and describe his poet vigorously cohesion and abundance pronunciation and high status meaning.  In this article I tried to shed some light on the sonnet poem of  Ka'b bin Zuhayr ,the sonnet was occupied the position and  clear size in his poet, his poem is an ode twenties. There are seventeen poem initiated by the poet spinning, Spinning which carried the spinning pre-Islamic and specially clean poet, we not found even a bit of poetry tends to describe his adventure with women, and also we did not find him a poem which deals with the physical attractions for women, Despite the lyrical poetry lover's name gets mentioned a lot. But we can say that these mistresses are nothing but illusions are indispensable for this type of sonnet, as they did pre-Islamic poets of the period. In this article I realized that Ka'b bin Zuhair in his lyrics were influenced by Islam too. Lyrical images in his poetry was not incompatible with Islamic morality because he was the person adhere to value.



Key words: Ka'b bin Zuhayr, Mistress of Ka'b, Pictures lyrical, Sonnet with love



* عبدالعلي فیض الله زاده - أستاذ مساعد في قسم اللغة العربیة بکلیة الآداب والعلوم الإنسانیة بجامعة الشّهید بهشتي

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net