Tahawolat
غالباً ما يتم تناول العقلانية في التفكير السياسي العربي اليوم، على نحو شديد العمومية والتجريد، الأمر الذي رتّب أطروحات ومواقف ومسالك تنزع في الكثير من الأحيان إلى تسويغ ما يخالف مقاصدها وحقيقتها الواقعية. ولعلنا نجد في محاكاة الثقافة السياسية العربية الراهنة حيال التحولات الحاصلة، ما يبيّن عمق الاضطراب في التعامل مع المصطلح. لنقرأ بشيءٍ من التأنّي في حقيقة الإشكال.

لقد مضى زمن مديد بدا فيه أن اللحظة لم تَحِنْ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. ثمة مَن يزعم، وفي زعمه اقتراب من حقيقة المشهد في الغرب، أنَّ الحداثة وهي تنجز آخر تقنياتها لا تنفك تستغرق في غفلتها التي أدَّت إليها عقلانيتها ذات البعد الواحد. لم تعد العقلانيةـ كما حملت في نصوص التنوير الغربي- صالحة على ما يظهر للإحاطة بما صار يعرف اليوم بـ"ما بعد الحداثة". كذلك فإنَّ العقلانية التي نذرت نفسها لاستنقاذ التاريخ من بدائيته، وأوهامه، وفوضاه، دخلت في ما ينافي قيمتها الأصلية. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها عن طريقة فضلى لسيادة العقل، ما فتئ أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابياً في ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه. كأنَّما انقلبت هي أيضاً، على نفسها، فاستحالت “طوطماً” للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها "العظمى" في "تأليه" الإنسان.

جرى التنظير الفلسفي لعقلانية الامتداد مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس "روحياً" لحملات القوة، وسوَّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً ممتدّاً لم تنته أحقابه بعد. لقد اعتبرت عقلانية التنوير أنها هي نفسها التاريخ، وهي نفسها البديل للزمان اللاّعقلاني الذي استولد جهالة القرون الوسطى تحت تأثير المؤسسة المسيحية. ومعها أصبح زمن الإنسان أقرب إلى صحراء تيه لجهة كونه مجرد ما يدوِّنه هذا الإنسان عن تفوّقه وقسوته وفعاليته وجبروته.. أي كل ما يكتبه، أو يروي تقدمه. ولذلك فليس من قبيل التجريد أن يستنتج أيديولوجيو العقلانية الغربية -الأميركية- تعييناً، "أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق". لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعال فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاّعقلانية، بينما هم يدخلون الألف الثالث على حصان التهديد النووي واحتكار السيطرة المطلقة على العالم. إنَّ الخط الذي انتهت إليه العقلانية الحديثة - من خلال مطابقة العقل الكوني الإنساني بين الواقع والمعقول، أي إضفاء العقلانية على المعقول بدلاً من عقلنته - قد دفعت به إلى أن يقبل كشيء معقول عدداً من مظاهر الاستلاب الإنساني، لم يعد العقل مجسداً في الأفعال والأنظمة والعلاقات البشرية، أو أن يسعى إلى البحث عمّا يحرِّر من الاستلاب، بل أصبح يبرِّر أنواع الاستلاب الموجود. وبدا بوضوح أنَّ ضغط الواقع القائم في المجتمع الإنساني المعاصر قد دفع إلى أن يتراجع خطوات إلى الوراء عمّا كان قد أعلن عنه كغاية له في لحظة انبثاقه، وفي مراحل تطوره الأساسية. لم تعد غاية العقل هي الكشف عن جوانب اللاّمعقول في الواقع، بل غدت هي البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها اعتبار ذلك الواقع مطابقاً للمعقول. لم تعد الغاية هي التجاوز والتنوير والتغيير، بل أصبحت هي التبرير بعينه. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجِّهاً للواقع المعاصر له، أصبح خاضعاً لهذا الواقع...

تعبِّر اللاّعقلانية عن نفسها، دائماً، بوسائل عقلانية. ذلك أنَّ عقلنة ما هو غير معقول، أي منح المشروعية لسطوة رأس المال والشركات وامتداداتها يستلزم تأليف لغة ذرائعية قصدها إضفاء رداء المعقولية على الذي يحدث. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل الجدَّة. أصبحت بمثابة ايديولوجية تسوِّغ الربط بين الإجراءات والوسائل المتوفرة وبين ما هو مرسوم من أهداف واستراتيجيات. لعلَّ دولة ما بعد الحداثة (تحتل أميركا نموذجها الصارخ اليوم) هي أكثر النماذج اهتداءً إلى هذا التحويل الآيديولوجي للعقلانية. عند انتهاء الحرب الباردة أخذت الليبرالية قسطها الوفير من الراحة لكي تؤدلج انتصارها. زعم منظِّروها أنها نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة. ولقد تسنَّى لهم - بوساطة شبكة هائلة من الاتصالات البصرية والسمعية - أن ينتجوا المقدمات الأولى لمعارف ما بعد الحداثة. استطاعت "العقلانية الأميركية" أن "تفلسف" اللاّمعقول الدولي، و"تمفهم" لا توازنيته، وتؤدلج الاستهلاك فتمنحه صفة النظام المقتدر، الآيل إلى إنتاج حقائق معرفية تؤسِّس للديموقراطية الجديدة وحقوق الإنسان. كان على "عقلانية" ما بعد الحرب الباردة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. لقد حسمت مقالتها المدعاة بتقريرها إن تداعيات المشهد العالمي "لا يعكس فقط نهاية الحرب الباردة، أو نهاية حقيقة خاصة بعد الحرب، بل نهاية للتاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء". وفي ما يوحي إظهار عقلانيتها اعترفت الليبرالية بأنَّ انتصارها جرى في مجال الأفكار وهو لمّا يزل بمعظمه هناك، فلم يكتمل في العالم الواقعي. كأنَّما تريد بهذا أن تؤسِّس لـ"ما بعد" ولـ"ما ينبغي" أن تكون برامجها الميدانية في العالم. لكي تسود الليبرالية سيادة كاملة، مطلقة، تملك خلالها الزمان والكينونة معاً وبلا منازع.

هل تشعر الليبرالية، في زمن الـ"ما بعد العالمي"، أنها بلغت حدود "الجنون" حين جانبت نظام القيم وجعلت العالم كينونة منزوعة الأخلاق.. ثم هل تجد نفسها واقعة في ما يشبه الخواء المفتوح على اللاّمتناهي؟!

لقد تنبَّهت الوجودية إلى هذا بصورة مبكرة. فأجابت فيما يشبه الفانتازيا الفلسفية حين وجدت أنَّ اللاّعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها، ثم لتظهر حسنها عارية أمام الملأ. ربما هي تدرك أنَّها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة والدوام وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون كأنها عودة إلى العقل بمخيلة أخرى. إنَّ هذه السيرورة التي ستؤول حتماً إلى مآل كهذا، لا بد أن تنتج معرفة على صورتها. معرفة تسعى إلى ملء الخواء، ولو بآيديولوجيات كاذبة. بحيث تكون المحصّلة شيوع قناعات واعتقادات كلية، غايتها عقلنة السائد السياسي ونمط حياة المتفوق، وغايتها تأسيس المزيد من القدرة على اكتساح العالم عبر تحويل التبرير الإيديولوجي إلى مقدس يدخل في ثنايا الوجدان العام للبشرية. بهذا يصير كل ما ومـن يســـاهم في تشكيل وترسيخ هذه الغايات معترفاً به، وعضواً في المشروع العقلاني وكل ما ومن يعرقله يــصبــح لا عقلانياً أو كائناً لا تاريخياً.

كان مؤلماً للفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتارأن يقف أمام صورة العالم فيجده على هذا النحو من الخواء والوحشية فإذا هو يقول: “لقد منحنا القرنان التاسع عشر والعشرون من الإرهاب قدر ما نتحمل. لقد دفعنا ثمناً باهظاً للحنين للكل وللواحد، للمصالحة بين المفعوم والمحسوس، بين الخبرة الشفّافة والخبرة القابلة للتوصيل. وتحت المطلب العام للنضوب وللتهدئة، يمكننا أن نسمع دمدمة الرغبة في العودة إلى الإرهاب، في تحقيق الوهم للإمساك بالواقع. والإجابة هي: لشن حرب على الكلية Totality لنكن شهوداً على ما يستعصي على التقديم، لننشط الاختلافات وننقذ شرف الاسم”.

كذلك سوف يأتي من الفلاسفة الفرنسيين المابعد حداثويين من يعيد التأكيد على أنَّ العقلانية وانتقاد العقلانية كلاهما ممارستان تحتاجان إلى العقل كمستند من ناحية، وكخطاب مُضمر أو صريح لكل العلاقات الأخرى، سواء منها المعترفة بسلطان العقل والداعية له، أو المنتقدة لبعض إنتاجه باسم إنتاجات أخرى أتت أو لم تأتي بعد. والطريق الذي يقترحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والمدعو بالتفكيك، إنَّما هو استراتيجية ممارسة مختلفة تأتي في الوقت الذي تهافتت فيه كل الخطط حسب رأيه، وقيل كل ما يقال، وفُعِلَ ما يمكن أن يُفعَل. فالخطاب المطلق قد أنجز وانتهى سلطانه. وفي هذه اللحظة بالذات يراد لنا أن نقول شيئاً مختلفاً، وأن نعمل العمل المختلف. ودريدا ليس يائساً من استراتيجية للتفكيك في حقل كلُّ شيء فيه بات خرباً وأنقاضا، بالرغم من كون التفكيك واقعاً بين الإحراج الفلسفي (العقلانية والنقد العقلاني للعقلانية). لكن له حيلته ومغامرته. فهو في الوقت الذي يقول فيه أمر الكلام فإنَّه يدحض، ولو صامتاً، كلام الأمر ذاك. كان يقول مثلاً إنَّ هذا هو الحق (وهو ليس الحق تماماً). وإنَّ هذا هو الخير (وليس الخير تماماً). وراء الأوامر المنطوقة يقف صف متراصّ من الأفكار الخلفية الصامتة الأخرى غير الملفوظة التي تقيم مملكة المختلف حتى في لحظة الإقرار بكل المزدوجات الفلسفية المعهودة. فتحتَ قبّة الخطاب المطلق ينتهي التاريخ. لكن لعبة التفكيك قادرة على استعادة البحث فيما وراء ذاكرة الرموز التاريخي هذا بعد تحققاته الشعورية ذاتها وليس والدلالات. إنها ليست الطريق المؤدية إلى اللاّشعور الذاتي للتاريخ ولكنها تصنع زمان اللاشعور قبلها. فهي ليست قراءة الحاضر لما وراء الماضي، وإنَّما قراءة ما وراء الماضي في الحاضر ذاته.


آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net