Tahawolat
هل نشهد اليوم عودة السوفسطائية؟ إذ نعتبر أن بعض ما نقرأة في الصحف ونشاهده في الإعلام هو صورة مكررة من تجربة السوفسطائيون في الزمن الغابر. هذه الدراسة تسلط الضوء على ماضي السوفسطائية علاّ السوفسطائيون الجدد يستفيدون من عبرها .

كان أنغزاغوراس خاتمة تلك المرحلة الأولى من مراحل الفلسفة اليونانية، وقد خطى بالفلسفة خطوة جريئة فأخرجها من الطبيعة المادية، ونحى بها نحواً جديداً في البحث. إذ أيقن أن المادة وحدها لا يمكن أن تنتهي إلى هذا التناسق والتناغم والجمال، بل لا بد ان عقلاً حكيماً مدبراً يسلك بالمادة سبيلاً سوياً في هدى وبصيرة، إلى غاية معلومة مقصودة. وبهذا فرّق انغزاغوراس للمرّة الأولى في تاريخ الفلسفة بين المادة المجسدة وبين القوة العقلية المجرّدة التي تتحكم في تلك المادة، بين الجسم والعقل، بين الطبيعة والإنسان، فانصرفت الفلسفة منذ ذلك الحين إلى هذا الإنسان وخصته بالبحث والدرس. وكان أوّل من شق هذا الطريق هم جماعة السوفسطائيين.

ويحمل بنا قبل أن نتناول بالشرح أراءهم، أن نلقي نظرة عجلى على بلاد اليونان في عصرهم، حتى نلمّ إلمامة سريعة بحالتها الدينية والسياسية والإجتماعية. وسنرى في وضوح وجلاء ان السوفسطائيين لم يحققوا فلسفتهم من عدم، بل انتزعوها من بيئتهم فجاءوا صورة دقيقة لعصرهم، ولساناً ناطقاً يعبّر عما كان يخالج النفوس في ذلك الحين.

أرض اليونان وعرة المسالك ملتوية الأديم، تنهض على صدرها الحزْن الجبال، (الغليظ في ارتفاع)، تنحصر بينها طائفة من الأودية، نشأت في اكنافها مدن متفرّقة لا يتصل بعضها ببعض في سهولة ويسر، فلم تكن اليونان أمة واحدة تشرف عليها حكومة واحدة، بل كانت كل مدينة من تلك المدن مستقلة تحكم نفسها بنفسها، وتضع ما يطيب لها من قوانين. وكان معظم تلك المدن بالغاً من الصغر حداً بعيداً حتى لم يتجاوز عدد سكان بعضها عدداً ضئيلاً من الناس. يستطيع أفرادها أن يلتقوا جميعاً في مكان بعينه، يناقشون في أمور الدولة ويتناولون قوانينها ونظمها بالتعديل والتهذيب. إذن لم تكن المجالس النيابية كما نعرفها اليوم معروفة لديهم، لان الحاجة لم تضطرهم إلى طريقة الإنتخاب، فكان كل يوناني يمثل نفسه ويساهم في السياسة والتشريع. وقد ادّى تفرّق القوم في مدائن مستقلة إلى تنافرهم وتناكرهم، فتوّلد بينهم شعور المنافسة، وتمكّنت من نفوسهم العصبية للبلد، بحيث كانت مصلحة المدينة فوق مصلحة الدولة، وأخذت نزعة الأنانية تتسع من عصبية المدينة إلى عصبية الفرد لشخصه، فأصبح صالح الفرد فوق صالح مدينته، وهكذا استولى على الناس حبّ النفس واعتقد كل فرد بذاته، يودّ لو يرتفع على حساب مواطنيه. ولعل هذا التطرّف في تقدير الشخص لنفسه نتيجة طبيعية لما أصاب الفرد من إهمال وإذلال أيام كانت زمام الأمور في أيدي النبلاء.

وقد ساير الديموقراطية في تطوّرها إنحلال في العقيدة الدينية، فلم يلبث الناس أن نبذوا آلهتهم القديمة وراء ظهورهم، لأنهم شعروا بعد أن استنارت عقولهم أن تلك الآلهة لم تكن جديرة

بالعبادة والتقديس. وما ظنّك بآلهة نسبت اليها كل صنوف النقص والفجور، كما صوّرهم شعراء اليونان فيما رووا من شعر وأساطير، هذا إلى تقدم العلم والفلسفة من ناحية أخرى، فاكتسحت العقائد العتيقة البالية من الصدور، وأصبح الناس يعللون ظواهر الكون تعليلاً طبيعياً دون أن يردّوها إلى قوى الآلهة. وكان قد مهّد إلى ذلك بعض الفلاسفة الذين كانوا يناصبون الدين العداء في غير تكتم ولا خفاء، فنقد اكزوفينيس آلهة الشعب، وحاول ديمقريطس ان يفسّر تقديس الآلهة بالخوف من ظواهر الكون.

طغت على اليونان موجة من الشك، وعمد الناس إلى القديم يهدمونه بكل ما في وسعهم من معاول، فاندكت الأرستقراطية دكاً، وقام على أنقاضها بناء الديموقراطية، ومحى العلم والفلسفة عقائد الدين الجامدة، ولم تكد تهوي هاتان الدعامتان حتى انهار في اثرهما كل شيء، فانحلّت الأخلاق والعادات، وذهبت هيبة السلطان واحترام التقاليد، واتخذ الجيل الناشئ من عقائد أسلافه موضوعاً للسخرية والفكاهة، وحطّم القوانين والاخلاق باعتبارها أغلالاً تلجم الإنسان، وتعوق غرائزه الطبيعية. ولم يكن السوفسطائيون إلا مرآة مجلوّة انعكست على صفحتها صورة هذا التيّار الجارف، فمثلوا بفلسفتهم وتعاليمهم ما بدا من قومهم في حياتهم العملية من ميول ونزعات.

لم يكن السوفسطائيون مدرسة فلسفية، كالفيتاغوريين أو الإيليين، لها اراء خاصة تربطها عقيدة فلسفية، إنما كانوا طائفة من المعلمين متفرقين في بلاد اليونان إتخذوا التدريس حرفة، فكانوا يرحلون من بلد إلى بلد يلقون المحاضرات ويتخذون لهم طلبة ويتقاضون على تعليمهم أجراً. وكان هذا من أسباب كرههم، لان ذلك لم يكن عادة الشعب اليوناني من قبلهم.

وكانوا يعلّمون موضوعات مختلفة يتطلبها الشعب إذ ذاك، فبروتاغوراس، مثلاً، كان يعلّم قواعد النجاح في السياسة، وغورجياس كان يعلّم البلاغة وعلم السياسة، وبروديكوس قواعد النحو والصرف، وهيبياسي التاريخ والطبيعة والرياضة. وعلى العموم كان غرضهم تعليم اليونان ليكونوا وطنيين صالحين للحياة، وكانت السياسية والإشتغال بها أكبر شاغل لعقل اليونان، إذ ذاك، وكان الطموح لشغل منصب سياسي كبير مستولياً على أذهان كثيرين، وقد ساعد على ذلك سيادة الديموقراطية يومئذٍ، وصراع التأويلات في ميدان العلم والفلسفة، فكان أهم ما يحتاج اليه الطالب البلاغة والإلقاء والقدرة على الجدال حتى يستطيع أن يواجه كل مسألة تعرض، إما بفكرة صحيحة أو باللعب بالألفاظ لإفحام السائل، لذلك كان من أهم تعاليمهم على البلاغة، وهم يعدّون بحق مؤسسي هذا العلم، وكان ذلك يكون محموداً لو أنهم وقفوا موقفاً صحيحاً في تعليم البلاغة، وخدموا بها الحقيقة حيث كانت، ولكنهم قصدوا إلى تعليم الشباب كيف يخدمون الفكرة كائنة ما كانت، وعلى أي وجه كان، بالحق أو بالباطل، فكان شأنهم شأن محام يخدم قضيته من أي سبيل، حتى روي عن أحدهم "غورجياس" أنه قال: "ليس من الضروري أن تعلم شيئاً عن الموضوع لتجيب". وقال: "إن في استطاعته أن يجيب كل سائل

عن كل ما يسأل". لذلك كانوا يعلّمون كيف يكسبون خصومهم بكل الوسائل، باللعب بالألفاظ، بالإستعارات والكنايات الجذابة، بخداع المنطق وتمويه الحقيقة. ومن أجل ذلك سمّي اللعب بالألفاظ والتهريج في الحجج "سفسطة" اشتقاقاً من السوفسطائيين.

نرى من ذلك أن السوفسطائيين قد اتجهوا بعنايتهم إلى الحياة العملية دون الفلسفة النظرية التي تبحث عن الحقيقة الخالدة لا بل دون الإعتقاد بمعايير قيمية تحكم السلوك العام، وانصرفوا إلى تدريب الشبان لنيل مجد الحياة السياسية من أخصر الطرق. وقد وصف السوفسطائيون بأنهم كانوا يعلّمون الفضيلة، ولكن يجب أن نشير إلى أن كلمة فضيلة في ذلك الحين لم يقصد بها المعنى الأخلاقي الذي تدل عليه الآن، بل عبّر بها اليونان عن مقدرة الشخص على أداء وظيفته في الدولة بكفاية ونجاح، (تكنوقراط) ففضيلة الطبيب معالجة المرضى، وفضيلة الرائض تدريب الخيول، ولما كان السوفسطائيون، يدربون الشباب ليجعلوا منهم مواطنين صالحين للظروف السياسية التي تحيط بهم، فهم معلمو فضيلة بهذا المعنى.

وأقدم السوفسطائيين عهداً هو بروتاغوراس الذي اخرج كتاباً في الالهة استهله بهذه العبارة: "أما الالهة فلا أستطيع أن أجزم وجودهم أو عدم وجودهم، ولا أتصوّر أشكالهم، وهناك من العوائق الكثيرة ما يحول دون الوصول الى المعرفة الصحيحة، منها غموض الموضوع وقصر حياة الإنسان". ولكن ما أن ظهر الكتاب بين الناس حتى رمي بالإلحاد، واحرق الكتاب علناً.

أما المحور الذي دارت حوله فلسفة بروتاغوراس بل فلسفة السوفسطائيين جميعاً، فهو عبارته الشهيرة: "الانسان مقياس كل شيء". وكانت هذه الجملة تمثل ميول الناس في ذلك العصر وهي أساس تعاليمهم كلها، وسنتناولها بالشرح والتعليق.

كل الفلاسفة قبل السوفسطائيين يفرقون بين الحسّ والعقل، ويفرقون بين ما يدرك بالحس وما يدرك بالعقل، ويرون أن الحقيقة تدرك بالعقل لا بالحس. وممن ذهب الى هذا الفلاسفة الايليون، فقالوا ان الحق يدرك بالعقل، أما الحواس فغاشة خداعة. وكان هؤلاء الذين يرون التفريق بين الحس والعقل يقولون أن حس كل إنسان خاص به، أما العقل فقدر مشترك عام، ومن أجل هذا لا يستطيع الإنسان أن ينقل إحساسه إلى إحساس غيره، فأعمى اللون الذي لا يدرك اللون الأحمر مثلاً لا يمكنك أن تنقل إحساسك باللون الأحمر إليه، ولكن يمكن أن تنقل فهمك لشيء إلى شخص آخر. كذلك إذا عرض مثلثان على جماعة من الناس فقد يراها شخص متساويين، وقد يراهما الآخر مختلفين، ولا سبيل عن طريق الحس لتفاهمهما، ولكن يمكن أن يقام البرهان العقلي على تساويهما، فإحساسي خاص بي لا يشاركني فيه غيري، أما عقلي فعام، أعني أن فيه قدراً ًمشتركاً بيني وبين الكائنات العاقلة.

جاء السوفسطائيون فأنكروا هذا. كان الإعتقاد من قبلهم أن هناك فرقاً بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وبعبارة أخرى أن هناك فرقاً بين الوجود الذهني والوجود الخارجي، وبعبارة أخرى أن هناك فرقاً بين ما أدركه أنا من الشيء، وبين الشيء في الخارج. فقد أنظر إلى الأرض فأراها مسطحة وهي في الخارج وفي حقيقة الامر مكوّرة، وقد أرى السراب ماء وفي الخارج لا ماء، فالشيء في الخارج موجود استقلالاً عن ذهني وحواسي. ولكن هؤلاء السوفسطائيين أتوا ينكرون ايضاً فبروتاغوراس كان يعلم أن ليس هناك وجود خارجي مستقل عما في أذهاننا. فما يظهر للشخص أنه الحقيقة يكون هو الحقيقة، فاذا اختلفنا في رؤية شيء، فما اراه أنا حق بالنسبة لي وما تراه أنت حق بالنسبة لك، واستمر بروتاغوراس في نظريته فقال: «ليس هناك خطأ، بل مستحيل وجود الخطأ، فكل ما تراه صواب لك، بل لفظتا الخطأ والصواب لا معنى لهما، فليس هناك شيء يسمّى حقاً في ذاته أو في الواقع أو نحو ذلك». ويظهر أن الذي دعا بروتاغوراس إلى هذا أنه رأى أن المعلومات التي تصل الينا إنما تصل من طريق الحواس، وإدراك الحواس مختلف عند الناس، فلا يمكن الإعتماد عليها لإدراك أن هناك شيئاً حقاً خارجياً في الواقع.

وتابعه على ذلك غورجياس السوفسطائي، فوضع كتاباً عنوانه "الطبيعة أو اللاوجود"، حاول فيه أن يقيم الدليل على هذه القضايا الثلاث: "لا شيء موجود"، "إن وجد شيء فلا يمكن أن يعرّف"، "وإذا أمكن أن يعرّف فلا يمكن إيصاله إلى الغير".

أما القضية الأولى التي تقررّ أن لا شيء موجود، فقد تابع فيها الفلاسفة الايليين الذين أنكروا وجود الأشياء التي تقع تحت الحواس، والذين أثبتوا أن صفة الوجود وحدها الموجودة. أما كل هذه الأشياء التي تملأ جوانب الكون والتي تطرأ عليه الحركة والتغيّر فباطلة خدعتنا بها الحواس. وكان غورجياس يستعير منهج "زينو" من قبله في الجدل، ويعتمد على "بارمنيدوس" في أرائه في أصل الكون ليثبت بذلك بطلان المحسّات، فكان مثلاً يقول: "اذا كان ثمة في الوجود شيء، فلا بد أن تكون له بداية، وهو إما أن يكون قد نشأ من العدم، أو من وجود سابق له، فأما النشأة من العدم فمستحيلة لأن شيئاً لا يخرج من لا شيء، وأما تسلسله من وجود قبله فهذا ينفي أن تكون له بداية، وإذن فلا شيء موجود".

وأما القضية الثانية التي تقرر أنه حتى لو فرضنا وجود شيء فلا يمكن معرفته، فهي نتيجة لازمة لعقيدة السوفسطائيين في اعتماد تحصيل المعرفة على الحواس وحده دون العقل، وما دامت إدراكات الحواس تختلف عند الأشخاص، بل تختلف عند الشخص الواحد في الظروف المختلفة، فلا يمكن الجزم بحقيقة الشيء كما هو، وترتيب المعرفة على الحواس يؤيد أيضاً قضية غورجياس الثالثة، لأن ما يصل عن طريق الحسّ لا يمكن نقله إلى شخص آخر.

وقد تابع من أتى بعد ذلك من السوفسطائيين هذه التعاليم وطبقوها على السياسة والأخلاق. فقالوا إذا لم يكن هناك حق في الخارج، وكان ما يظهر للشخص أنه حق، فحق بالنسبة إليه وحده، فلا يمكن أن يكون هناك قانون خارجي أخلاقي عام يخضع له الناس جميعاً، وإنما المسألة ترجع إلى إحساس الشخص نفسه، فما تراه حقاً فحق لك، وما رأيت عمله فاعمله ويكون عمله مشروعاً.

ويتبع هذا رأيهم في القانون، فليس هناك قانون عام مؤسس على العدالة أو نحو ذلك لأنه ليس هناك عدالة عامة بالمعنى الذي يفهمه الناس، وليس هناك قانون عادل في نفسه، وإنما قوانين الدولة كما قال "بولوس" و"تراسيماكوس" إختراع الضعفاء ليخضعوا بها الاقوياء، وليختلسوا منهم ثمار قوتهم، وإذا بلغ إنسان من القوة مبلغاً يستطيع معه الخروج على القانون من غير أن يعاقب فله الحق في الخروج. لذلك يعدّون أول من رأى أن القوة هي الحق.

وهذه التعاليم هي تعاليم هدامة لكل نظام إجتماعي، للدين، للأخلاق، لكل نظم الدولة. ومن ثم كان مثاراً لسخط من أتى بعدهم من الفلاسفة، وموضعاً لانتقادهم وهدم تعاليمهم. ولكنهم من غير شك نشروا التعليم في بلاد اليونان، وهيّجوا الأفكار للبحث والمناقشة في أساس الأخلاق، فمهدوا الطريق لتعاليم سقراط وأفلاطون، وأسّسوا علم البلاغة، ووجهوا إهتمام الناس اليه. وكان لتعاليم السوفسطائيين أثر مختلف في عقول الباحثين في العصور المختلفة.

وتعاليمهم هذه هي السبب في أن ليس لهم تعاليم فلسفية إيجابية، فقد قنعوا بأن ليس هناك حقيقة، وإن وجدت فليس من سبيل إلى اكتشافها، ولهذا خصّصوا أنفسهم للبلاغة وللسياسة، وقالوا إن لم تكن هناك حقيقة تعرف وتعلم، فأمامنا باب الإستمالة والتأثير في الناس، وإن لم يكن حق وباطل في ذاتهما، فهناك طرق للإقناع، وهذا هو الطريق الذي سلكوه طريق البلاغة.

ومهما قال الناقدون في فلسفة السوفسطائيين، فلا سبيل إلى إنكار هذه الحقيقة، وهي أن عصرهم كان عصر نهضة فكرية كهذه النهضات التي تجيء في التاريخ على فترات متباعدة، والتي يظهر أنها تتبع عهوداً تنشط فيها الفلسفة والعلوم. قد جاء السوفسطائيون بعد تلك الفترة التي امتدت من طاليس إلى أنكسندر، والتي امتلأت بأعلام الرجال الذين أنتجوا في الفلسفة والعلم إنتاجاً خصباً غزيراً، فأخذت هذه الأكداس من المعرفة تتقطر على طول الزمن إلى الدهماء قطرة قطرة (العامة)، إذ لا سبيل إلى علم الدهماء لها في حينها ومتابعتها خطوة خطوة، فاستنار الشعب واتسع أفقه العقلي بعض الشيء، وبدأ ينظر إلى آرائه القديمة وعقائده البالية نظرة الناقد الساخط، ولم يتردد في نبذها وهجرها في ضوء فكره الجديد. هكذا تتابع ملفات الفكر في التاريخ، فيكون بنّاء في أوله وهداماً في آخره، يكون أفكاراً إيجابية عند صدوره من أصحابه، فإذا وجد سبيله إلى أذهان العامة، كان قوة سلبية تظهر في صورة الشك

والنقد والتحطيم، وهذا علّة ما تنطبع به النهضات الفكرية في كل العصور من طوابع الشك والإنكار التي تتناول بمعادلها النظم السياسية والعقائد الفكرية والقيم الإجتماعية، واذا ما انقضت هذه العمد الثلاثة فقد تقوض المجتمع من أساسه، وانمحت روح الجماعة وظهرت روح الفرد بكل ما تجره الأنانية وراءها من ذيول.

وها نحن اليوم نشاهد عهداً جديداً للشك، بعد أن سبقه القرن التاسع عشر بطائفة كبيرة من الإنتاج العلمي، تسللت إلى العقول تدريجاً، فاتسع النطاق العقلي، لم يعد يرضى الناس ثوب «الفكر القديم»، وهم يحاولون اليوم أن يخلعوه ليستبدلوا به جديداً. ومما هو جدير بالذكر أن الفلسفة السائدة اليوم، وهي الفلسفة العملية - البراغماتية، وان شئت فسمها فلسفة الذرائع (مذهب نشأ من الأفكار الاميركية، وهو يرفض النظر في الحقائق الميتافيزيقية ويقصر نظره على البحث فيما يتصل بالوجود الواقعي، وعنده أن النظريات والحقائق ليست ثابتة بل متغيرة بتغيّر الأزمان، وأن الحق والفضيلة، ما رأه الناس انفع لهم). هذه الفلسفة التي لا تريد ان تعترف بحقيقة في ذاتها مستقلة عن الإنسان، بل الحقيقة عندها ما يكون نافعاً في الحياة العملية. قريبة الشبه بتعاليم السوفسطائيين. ولسنا نخطئ إذا قلنا أنها سوفسطائية العصر الحديث، تحاول أن تتخذ من الإنسان مقياساً لكل شيء، وكل الفرق بينها وبين سوفسطائية «بروتاغوراس» هو فرق في معنى "الإنسان"، فكان بروتاغوراس يعني به الفرد، ومذهب البراغماتيزم اليوم يريد به الإنسانية كلها. ولما كان ما ينفع الإنسان اليوم قد يضره غداً، وما ينفع هذه الأمة يضر أمة أخرى، إذن فليس ثمة حقيقة ثابتة خالدة.

ولا ريب في أن موضع الخطأ عند "بروتاغوراس" قديماً، وفي مذهب البراغماتية حديثاً، هو الإعتماد على حواس الإنسان (مع أن حواس الشخص خاصة به)، وتجاهل الجانب العقلي منه (مع أنه العنصر الذي يشترك فيه أفراد البشر جميعاً).

فلئن كنا ندين للسوفسطائيين حقاً بالإكبار من شخصية الفرد، والمطالبة بألا تفرض عليه الأراء والعقائد فرضاً، بل يقنع بها إقناعاً، فلا نذهب معهم إلى حد إهمال الحقيقة الخارجية مستقلة عن الإنسان. ولئن كنا نذهب معهم فيما ذهبوا إليه من أن لكل إنسان الحرية في الرأي واعتقاد ما يرى، فنحن نضيف إلى ذلك شرطاً وهو، أنه لا يجوز لفرد أن يرى رأياً إلا اذا قام عليه الدليل العقلي دون إحساسه وشعوره، وإن كنا نوافقهم على أن الأخلاق تختلف باختلاف الشعوب، إلا أننا لا نخلص من هذه المقدمة إلى النتيجة التي خلصوا إليها من أنه ليس هناك معيار خلقي حق في ذاته، لأن إختلاف الرأي في الأخلاق كاختلاف الرأي في أي ظاهرة أخرى لا ينهض دليلاً على إنعدام الحقيقة في ذاتها، فإذا اختلفت الأقوال في شكل الأرض، هل هي مسطحة أم كروية، فليس معنى ذلك أن ليس للأرض شكل ما. وهكذا الشأن في الأخلاق،

فإن أجازت أمة البغاء وحرمته أخرى، فليس ذلك دليلاً على أن الإنسان مقياس الأخلاق، وأن ليس هناك حقيقة خلقية ثابتة في ذاتها.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net