Tahawolat
لعلني أردتها رواية، لهذا طالت مدة تأخري في كتابة هذه القصة، والتي ما كانت لتخرج للعلن رغم جهوزيتها التامة في ذهني، ومنذ الثانية الأولى لرؤيتي الصور التي ألهمتني إياها، إلا لإدراكي أن زمننا لم يعد زمن الروايات الطويلة،  فجلد الناس انقرض، فحتى الروايات القصيرة لم تعد مطلوبة بسبب أزمة القراءة والقراء، فنحن في زمن الجهل الأكبر، عصر الأمية بامتياز، فجاءت  قصتي على هذا الحال، وأنا على يقين أنه وإن لم يقرأها الكثيرون،  فلا شك أن التاريخ  لقارؤها، كما قرأها دائماً لأنها قصة كل زمان ومكان من بلادي، قصة أرضنا الخالدة، قصة إنساننا المخلص وقصة هويتنا.
لقد رددها الراوي الفذّ وخلّدت أصابع النحات العنيد ذكراها في حجر بلادي الأزلي، الأضخم على وجه البسيطة، حجر حرم لا تعصى عليه عواتي الزمن، حجر الهياكل الشامخة في بعلبك-هيليوبوليس، حيث يكتب التاريخ مجده وعزته فقط، ولهذا بنيت المعابد تلك.
أسطورة "أمبروزيا" و"ليكورغوس"
   بعد اجتياز الباب العملاق في معبد باخوس في بعلبك، نلج الى القاعة المربعة  والمحافظة بطريقة مدهشة على شكلها، حيث يطالعنا أحد أجمل التصميمات الهندسية والأكثر جرأة على الإطلاق من حيث تنفيذ الديكور الداخلي على الحجر الجيري. فجدران القاعة تغطيها أنصاف الأعمدة، تعلوها التيجان الكورنثية ويتخللها صفوف من الكوى، تعلوها كوى أخرى مزينة بالمثلثات المزخرفة، أعدّت لعرض التماثيل التي فقدت كلها. أما الرواق المركزي لقدس الأقداس،  وهو مكان محرّم الدخول اليه إلا لخدمة المعبد، فيصعد إليه بواسطة سلم من سبع  درجات، تحدّه من الجانبين  مصطبتان (socles) عريضتان  تحمل كل منهما  لوحة حجرية (frises)  زينت بالمنحوتات الناتئة، ما زالتا في موقعهما الأصلي، إلا أنهما مشوّهتان بشكل شبه كامل ولا يظهر منهما إلا بعض التفاصيل ذات الأهمية الكبرى في دراسة رمزية المعبد.  فهذان الإفريزان عبارة عن لوحتين ناتئتين متوازيتين (طول= 2,70م / ارتفاع=  0,78 م) تحملان مشهدين من سيرة باخوس نستعرض وصفهما بتفصيل:
لوحة الإفريز الأيمن: تقسم إلى جزئين وتُظهر ملامح لرجل منحنٍ يميل الى الخلف، وهو يترنّح على وشك أن تلامس ركبته الأرض. إلى يساره رجل، ربما ينحني لمساعدته، وفي عمق اللوحة، وراءه، نلمح رجلاً لابساً الزي السوري المحلي وإلى جانبه إمرأة ورجل واقفان يراقبان المشهد. والى أقصى اليمين، شجرة وبقربها يبدو الإله بان-الماعز وتحت الشجرة حيوان رابض. أما المشهد الأيسر من هذه اللوحة فواضح أكثر وفيه زوجان من الساتيرات والباخيات (أتباع باخوس وراقصوه) يرقصون على نغم عازف ناي، كما يظهر طفل قد اعتلى ظهر لبؤة، وسط جعجعة فرقته الصاخبة الحركة ومن ضمنها شخص بزي آسيوي.
لوحة  الإفريز الأيسر: تقسم الى ثلاثة أجزاء: في الوسط، يبدو ساتير راقصاً ومينادتان يتبعهما خادمان يحملان جرة كبيرة. إلى اليمين، مجموعة من الأشخاص يحيطون بكرمة وساتير قادم من اليمين يساعد إمراة تترنح  وعلى وشك السقوط. وإلى اليسار، يظهر باخوس فتياً بيده قرن للشرب ومتكئاً على كعب الكرمة، حيث افترشت امرأة الأرض، تنظر إليه بتوسّل، وحولهما راحت الفرقة الصاخبة ترقص بجنونها المعتاد، وإلى أقصى اليمين وقف شيخ ضخم يراقب.
   في الواقع، كثيرة هي التفسيرات التي أعطيت وكثر أيضاً الباحثون الذين اجتهدوا في تحديد موضوع هذين المشهدين. وبعد دراسته لكل النظريات والآراء المقترحة في تفسير منحوتتي "قدس الاقداس" هذه، في معبد باخوس، قام عالم الآثار الفرنسي "شارل بيكارد" بدوره بدراسة معمّقة لهما ورأى موضوعين مختلفين تماماً عما خرج به الباحثون إلى حينه، موضوعان لهما علاقة بأسطورة ديونيسوس-باخوس، وهما قصة "أمبروزيا" و"ليكورغوس". ويقول "بيكارد" شارحاً الصورتين:"...مبدئياً، لقد بدا، في الواقع، أن الدارسين أهملوا الى الآن الإيزائية بين اللوحتين وهي واضحة جداً. وكان خطأ كبير لا شك، أن تفسّر كل منحوتة على حدى دون ربطها بالأخرى، لأن وضعية الإفريزين البارزة جداً في المبنى والمنحوتيّن تحديداً عند "قدس الأقداس"، جُعلت في الأساس بهدف أن يقرأا معاً وأن يكمّلا بعضهما البعض بشكل متوازن وأن يكون الإفريز الأيمن كما الأيسر شاهداً على انتصار الإله المعبود في المكان. واللوحتان تحاكيان الواحدة الأخرى على طريقة اللحن المتعاقب، الذي يتخلله المطلع ثم اللازمة وهكذا...".
ماذا تخبر إذن قصة "امبروزيا" و" ليكورغوس"؟
   تقول الرواية إن ليكورغوس كان ملك الأدونيين في تراقيا، وكان قد لاحق جماعة ديونيسوس واعتدى بالضرب على النمفيات-الحوريات وعلى مرضعات باخوس. وعاقبه الإله زوس، والد باخوس، بأن أفقده البصر. ويخبر هوميروس في "الإلياذة" أن الآلهة الأولمبيين، إقتصاصاً من ليكورغوس، أفقدوه البصر. وبعدها أعلن باخوس الحرب عليه وخلّص تابعاته من السجن حيث رمى بهن الملك الشرير. وكان باخوس الفتى قد اختبأ لينجو من نقمة هيرا زوجة أبيه زوس لأنه ثمرة علاقة غير شرعية بين  زوس وأمه  "سيميليه"، وهذا ما لا ترضى عنه هيرا، وهي إلهة الوفاء الزوجي، فضربت ابنهما باخوس بالجنون وراح يتنقل من بلد الى آخر، فالتجأ الى مصر وسوريا وآسيا الصغرى ووصل أخيراً الى فريجيا، فاستقبلته أم الآلهة والطبيعة "سيبيل" وأدخلته في جماعتها التي تمارس شعائر سرّانية قائمة على المجون والعربدة والهلوسة الروحانية. وبمساعدتها، تحوّل جنون باخوس الى قوة جعلته يستخدمها ضد أعدائه وأصبح سيداً. فتوجّه عندها إلى تراقيا، حيث حاول الملك ليكورغوس جذبه للنيّل منه، ولكن باخوس تمكّن من الفرار عند "تيتيس" في أعماق البحر، تاركاً تابعاته الباخيات مسجونات وفريسات بين يديّ الملك الشرير. ولكن ما لبث أن أحتدّ غضب باخوس، فضرب الملك بالجنون والبلاد بالعقم وتمنى لدى الوحيّ الخاص به أن يموت ليكورغوس. ويظهر توزع مراحل هذه الأسطورة إيكونوغرافياً في منحوتتي "قدس الاقداس" في معبد باخوس البعلبكي والذي منحه اسمه. وفي الواقع، لا يغيب عن ذهننا أنه يجب تفسير اللوحتين معاً وبإيزائية محورية بسبب الصلة المباشرة والأساسية التي تربطهما معاً. فهما صورتان تتحاوران: اليمنى ذكورية الطابع، واليسرى أنثوية، على حد تعبير "بيكارد"، محاطة ومغلفة بالكرمة وبأغصانها وأوراقها المشعّبة الكثيفة بحيث يخرج كعب الكرمة من الأرض ليلف المشهد. وهي تمثل قصة النمفيا أمبروزيا التي أنقذها التحوّل من إمرأة الى كرمة ديونيسية، حين راح ليكورغوس يتودد اليها في أسرها. ونرى هذا الأخير في اللوحة الثانية كما يبرز أشخاص حول شخصين جاثيين على الأرض في حالة دوران هائجة، ووراء الرجل الذي يهوي تلفّه أغصان الكرمة القوية، رجل آخر ينحني باتجاهه وإلى اليمين امراة واقعة أرضاً وأوراق العنب تحيط بهم جميعاً. وفي هروبهن من وجه الملك المجتاح، هلعت الباخيات وأسقطن الأوعية التي كن يحملنها وهذا ما يفسّر وجود أوعية مترامية في أرضية اللوحة. ثم يأتي مشهد رقص عنيف أفراده من جماعة ديونيسوس المحتفلين. وباختصار، المشهدين الأيمن والأيسر عبارة عن حركة مساعدة ومساندة مستمرة وهزيمة الملك الظالم وابتهاج بالإنتصار وبتحرّر أمبروزيا. ويبدأ المشهد من الجهة التي فيها الشجرة وتحتها الإله بان-الماعز حيث ترك النحات علامة (A). وبناء على هذا التفسير، "أطلق بيكارد" على المنحوتة اليسرى اسم "انتصار أمبروزيا" وعلى المنحوتة اليمنى "هزيمة ليكورغوس"،  وهذه هي الصيغة التي اعتمدت نهائياً والتي عزّزت من تملك باخوس للمعبد.
ولكن ما هي رمزية هاتين الروايتين؟
   في الواقع إن المنافسة والعداوة الحادة بين ديونيسوس وليكورغوس تحمل رمزية مهمة تاريخياً، فهي تعبّر عن مرحلة نزاع سياسي كبير في ذلك الزمن، كان قد أخذ اهتماماً كبيراً في كل من سوريا والعربية وقد جسدته فيما بعد (نهاية القرن الرابع) ملحمة "الديونيزياكا" للشاعر الملحمي "نونوس البانوبولي" بشكل مطوّل. وفي المنحوتات الناتئة موضوع دراستنا، يبرز شخص عارٍ، ملتحٍ  وله شعر كثيف يقع أرضاً مرتكزاً على ركبته اليسرى  وتبيّن من تحليل "بيكارد" أنه "بربري"، وفي سقوطه تعبير عن إنهزام مردّه الى تدخل الآلهة. وهذه السقطة معبرة جداً لأنها عقاب الذين يضربهم غضب الآلهة وتذكِّر بالمنحوتات الإغريقية التي تصوّر صراع القوى الهمجية ضد قوى الخير المتمثلة بالشبان الجميلي الطلعة، بينما يُمثل الأشرار بشعر أشعث كثيف، أشبه بالحيوانات الكاسرة منهم بالبشر. وفي اللوحات المربعة التي تزين الإفريز الخارجي لمعبد البارثينون على أكروبوليس أثينا، نلاحظ في مشهد صراع "العمالقة واللابيت" أن أغلب التيتان العمالقة، أعداء ديونيسوس، يقعون أرضاً مسحوقين مثل "البربري" الساقط في منحوتة بعلبك، يعزز هذا الرأي الشيء الذي يمسكه في يده اليمنى ويتكيء عليه والشبيه بما يتسلح به عادة التيتان، أعداء الآلهة. وأما الشخص الآخر في المنحوتة، فيلبس الزي السوري المحلي وهو رداء قصير، طويل الكميّن ويعتمر قبعة مستطيلة طويلة، تنتهي كما يظهر على شكل تاج، ولباسه هذا يشبه ما يرتديه عادة الوجهاء في منطقة كوموجين (شمالي سوريا) وتدمر. وقد رأى فيه الباحثون ليكورغوس السوري المعروف في الأسطورة أنه ملك دمشق الذي اضطهد رفيقات ديونيسوس الذي حاربه، وحاصره بالنبات وخاصة الكرمة المتجذرة في الأرض، وهزمه وجعل من جلده وجلد مرافقيه زقاقاً للخمر، ومن هنا أخذت دمشق اسمها.
تتكرر القصة في مشهد أثري آخر من أفاميا
 ومشهد صراع "أمبروزيا وليكورغوس" هذا يتكرر في أفاميا حيث عثر على بقايا قوس في الساحة العامة، مزيّن بمنحوتات ناتئة تمثله، ويدل هذا على رواج الأسطورة الباخوسية التي انتشرت في إيكونوغرافيا الصروح الهندسية في سوريا. وتجدر الإشارة  إلى أن الفنان يركز في إفريز بعلبك على الوحشية والهمجية في هجوم الملك على رفيقة باخوس وهي أمبروزيا، وذلك من خلال رمزية صورة بان-الماعز ممسكاً عصا الراعي عند زاوية الإفريز بجانب شجرة ممتلئة فاكهة، تنحني أغصانها إلى الشمال؛ وقد علق عليها مزماره وتحتها يربض كلب مذعور، حيث يبدو أن "بان" المتوحش نفسه، وقد فاقت وحشية الشر المتمثلة بليكورغوس كل همجية أخرى وحتى كل شريعة الغاب، قد هرب من هوّل الهجوم الذي لحق بمساعدات باخوس، وقد هلع من مرأى العقاب النازل بالملك وهذا ما يدل عليه وجهه المعبّر الناظر الى الوراء، بينما راح أصدقائه من الساتير والمينادات وكل الخوّرس في الجهة المقابلة، ينشدون ويرقصون فرحاً لخلاص أمبروزيا من براثن ليكورغوس، وهم متحلّقون حول سنديانة قزمة من النوع الذي يكثر في سوريا، وهذه السنديانة ترمز هنا الى روح ليكورغوس المنهزم. وراحت المينادات يرقصن أزواجاً وفرادى وقام الطفل ديونيسوس يشاركهن الرقص ممتطياً لبؤته ويظهر في ظهره جناحان مفردان علامة النصر والخلود، بينما يظهر الإله في المشهد الأيسر في الأسفل وقد أصبح مراهقاً منغمساً في ملذات الشرب والفرح بالإنتصار. والمعنى العام واضح وهو انتصار الخير على الشر.
الرمزية القومية والوطنية لهذه القصة
   في الواقع، إن الوصف المفصل للمنحوتتين مكّننا من تبيان فصول الأسطورة موزّعة على مشهدين. فاللوحة اليمنى تصوّر معاقبة ليكورغوس البربري الذي لم يكتف بشتيمة مرضعات باخوس بل حاول التعدي على أمبروزيا التي تظهر في اللوحة اليسرى وقد برز ديونيسوس بجانبها متكئاً على كعب الكرمة. ومقارنة مع مشاهد أخرى شبيهة مثل قاعدة أفاميا وفسيفساء "سانت كولومبيز" في فيينا (فرنسا) ؟؟، حيث اكتملت عناصر الأسطورة وأحداثها، نرى ليكورغوس يعتدي على الحورية بفأسه ثم ما يلبث أن يهوي بعد أن تضرّعت الضحية الى أمها الأرض وقد جثت صريعة فوقها، فهبت الأرض "جيا" إلى نجدتها وبمساعدة ديونيسوس، حوّلتها إلى كرمة راحت تلتف بأغصانها حوّل المعتدي حتى خنقته. وهكذا نجت أمبروزيا بفضل تدخل باخوس والأم الأرض بنباتها وأشجارها. هنا تبرز الرمزية القومية للمشهد وهي اللجوء الى الإله المخلص الذي يرتجى منه نجدة المريدين المتأهلين في طقوسه للنجاة والخلاص لهم وللأرض، تماماً ومثلما أنقذ أمبروزيا من براثن الجحيم المتمثل في ليكورغوس. ثم يأتي مشهد الراقصين السعداء المحتفلين بنهاية المعاناة، ممهدين لعرس بهيج يرمز للقيامة برفقة إلههم المخلص.
غاية القصة
   بالتأكيد إن من يقرأني الآن يطالب برؤية هذه الصور المنحوتة، والتي جئت على وصفها، وكما يفترض من عالمة آثار أن تفعل  بحيث تزاوج النص بالصورة ليكتمل المنهج العلمي، وأنا لا أخرج عن هذا المنهج بتاتاً. ولكن حرصاً مني أن أقرن الماضي بالحاضر وبالمستقبل ليقيني أن بلادي تنتج دائماً وأبداً هذه الفصيلة من الشجعان المؤمنين بأرضهم، والراسخين كالجذور في ترابهم، والمتشبثين بجذوع الأشجار التي تقيهم شرّ الفناء، أقدم إليكم  أمبروزيا العصر في هذه المشهد المهيب، حيث لا زالت حية وتعيش من خلال نبض حفيداتها  السوريات الفلسطينيات العنيدات، المتحديات بأجسادهن كل قوى الشر والهمجية.  هاكم أمبروزيا جديدة، وهي تماماً كما جدتها هوجمت أرضها وهدّم منزلها وأحرقت أشجار حقلها من أجل اقتلاعها من موطنها، فتصدّت للجنود الصهاينة، وتشبثت بجذع الشجرة التي رعت نموها لسنين عديدة ، وتضرّعت قائلة: "والتين والزيتون وطور السنين وهذا البلد الأمين..." (سورة التين،95)، فهي لا تؤمن إلا بأرض بلادها وترابها من شمالها لجنوبها وشرقها وغربها وبجهاتها الأربع متحدة، تؤمن بجبال بلادها، وبجمال بلادها وخلود بلادها، فإلى أين المفر؟ فهي من ترابها وإلى ترابها تعود ومن ترابها تبعث وتقوم وفي كل يوم قيامة ومقاومة جديدة منذ البدء وحتى الأزل، هي قيامة متجددة بتجدد التين والزيتون وتألق جبال بلادي واتحادها. فبالحجر قاوم أطفال بلادي وبالشجرة احتمت أمهات بلادي، ومن أرضنا يطلع الأمل ومنها يشرق الصباح.

آراء القراء

0

أضف تعليقاً



الرسالة البريدية

للاتصال بنا

هاتف +961 1 75 15 41
موبايل +961 71 34 16 22
بريد الكتروني info@tahawolat.net