توسّع الاحتلال الصّهيونيّ بعد حرب 1967
حرب 1967 تُعرف أيضاً في كلّ من سوريا والأردن باسم نكسة حزيران وفي مصر باسم نكسة 67 وتسمى في إسرائيل حرب الأيّام السّتّة (بالعبريّة: מלחמת ששת הימים، ملحمة شيشيت هياميم) هي الحرب الّتي نشبت بين إسرائيل وكلّ من مصر وسوريا والأردن بين 5 حزيران/يونيو 1967 والعاشر من الشّهر نفسه، وأدّت إلى احتلّال إسرائيل لسيناء وقطاع غزّة والضّفّة الغربيّة والجولان، وتعتبر ثالث حرب ضمن الصّراع العربيّ الإسرائيليّ؛ وقد أدّت الحرب إلى مقتل 15,000 – 25,000 إنسان في الدّول العربيّة مقابل 800 في إسرائيل، وتدمير 70 – 80% من العتاد الحربيّ في الدّول العربيّة مقابل 2 – 5% في إسرائيل، إلى جانب تفاوت مشابه في عدد الجرحى والأسرى؛ كما كان من نتائجها صدور قرار مجلس الأمن رقم 242 وانعقاد قمّة اللاءات الثلاث العربيّة في الخرطوم وتهجير معظم سكان مدن قناة السّويس وكذلك تهجير معظم مدنيي محافظة القنيطرة في سوريا، وتهجير عشرات الآلاف من الفلسطينيّين من الضّفّة بما فيها محو قرى بكاملها، وفتح باب الاستيطان في القدس الشرقيّة والضّفّة الغربيّة.
لم تنته تبعات حرب 1967 حتّى اليوم، إذ لا تَزال إسرائيل تحتلّ الضّفّة الغربيّة، كما أنّها قامت بضمّ القدس والجولان لحدودها، وكان من تبعاتها أيضاً نشوب حرب أكتوبر عام 1973 وفصل الضّفّة الغربيّة عن السّيادة الأردنيّة، وقبول العرب منذ مؤتمر مدريد للسّلام عام 1991 بمبدأ «الأرض مقابل السّلام» الّذي ينصّ على العودة لما قبل حدود الحرب لقاء اعتراف العرب بإسرائيل، ومسالمتهم إيّاها؛ رغم أنّ دولاً عربيّة عديدة باتت تقيم علاقات منفردة مع إسرائيل سياسيّة أو اقتصاديّة.
ويبدو أحياناً وكأنّ الاحتلال أصبح اعتيادياً فالتّقارير المتتالية عن نساء اضطررنَ للولادة على الحاجز أصبحت دارجة، والأخبار المتعلّقة بعمليّات القتل والعنف والهدم أصبحت غير مفاجئة وأصبحت مجرّد أحداث تدقّ في ناقوس النسيان، وكأنّ الوضع في فلسطين هو الوضع العادي الطّبيعيّ، إلّا أنّ الاحتلال ما يزال في فلسطين منذ خمسين عاماً وهناك جيل ثالث وحتى رابع من الفلسطينيّين وُلدوا أثناء الاحتلال وهو الواقع الوحيد الّذي يعرفونه.
وقد جاءت اتفاقيّة أوسلو الّتي وُقّعت قبل نحو 20 عاماً لتخلق وهماً بأنّ تأثير "إسرائيل" على حياة الفلسطينيّين أضحى هامشيّاً تقريباً. ولكن وحتى اليوم ما تزال إسرائيل والاحتلال الإسرائيليّ العامل الأكثر تأثيراً على الحياة اليوميّة لجميع سكان الأراضي العربيّة المحتلّة.
فتحت غطاء استغلال الإطار القضائيّ الملائم لواقع قصير الأمد، خلق "الاحتلال الإسرائيليّ" في الضّفّة الغربيّة واقعاً لا ينحصر في السّلب والقمع والدّوس على حقوق الإنسان منذ نحو خمسين عاماً فحسب، بل يُعبّر عن نوايا بعيدة الأمد.
إنّ الوهم القاضي بأنّه بالإمكان المضيّ قدماً على هذا الشكل آخذٌ في التجذّر، في الوقت الّذي يقوم فيه هذا الواقع بتثبيت الظّلم الأمر الّذي يعني بالضرورة انتهاكاً يوميّاً لحقوق الإنسان الخاصّة بالسكان الفلسطينيّين الّذين يعيشون تحت الاحتلال. إنّ هذا الواقع لن يتغيّر إلا لحظة انتهاء الاحتلال.
الاحتيال الإسرائيليّ لتبرير الاحتلال
فور انتهاء حرب 1967 احتلّت إسرائيل نحو 70,000 دونم من مناطق الضّفّة إلى منطقة نفوذ القدس (الغربيّة) وسيّرت عليها القانون الإسرائيليّ. وجرى هذا الاحتلال خلافاً لأحكام القانون الدّوليّ، إذ أنّ مكانة القدس الشرقيّة كمنطقة محتلّة لا تختلف عن سائر أرجاء الضّفّة الغربيّة. يعاني سكان المنطقة من انتهاكات حقوق الإنسان من طرف الاحتلال الإسرائيليّ.
في سنة 1967 كانت المكانة القانونيّة لجميع سكّان الأراضي المحتلّة متشابهة. على مرّ السّنين جرى ضمّ عشرات آلاف الدونمات إلى إسرائيل، وجرى إعلان قطاع غزّة "كياناً سياسيّاً معادياً"، أمّا الضّفّة الغربيّة فقط جرى تجزئة أراضيها إلى عشرات من القطع الصّغيرة.
لقد جزّأت إسرائيل هذه المناطق إلى وحدات منفصلة ومعزولة، تتمايز عن بعضها في طريقة تعريفها من قِبَل الاحتلال الإسرائيليّ، وفي المكانة القانونيّة لسكّانها، وفي الغايات الّتي وضعها المحتلّ الإسرائيليّ لكلّ منها.
وبالرغم من التوقيع على اتفاقيّات أوسلو، وإقامة السّلطة الفلسطينيّة، وخروج قوّات الجيش من قطاع غزّة، فإنّ إسرائيل ما زالت تسيطر على جميع الفلسطينيّين الّذين يعيشون في الضّفّة الغربيّة، بما في ذلك القدس الشرقيّة وكذلك قطاع غزّة، وبذلك فإنّ هؤلاء الفلسطينيّين ليسوا شركاء في القرارات الّتي تتّخذها إسرائيل، ومن خلالها تدير حياتهم وتسيطر على مستقبلهم وسوف نتطرّق إلى كافّة أبعاد ما جرى على الأرض المحتلّة في القدس الشرقيّة والضّفّة الغربيّة وغزّة.
الاحتلال في مدينة القدس… بداية المؤامرة
كان من نتائج التّركيز الصّهيونيّ على القدس أن بدأ الاستيطان فيها، منذ مطلع القرن العشـرين، أي في وقت مبكر بالمقارنة مع بدء الاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة الّتي تمَّ احتلّالها فيما بعد. وكان لتلك المحاولات الاستيطانيّة المبكرة أهداف عديدة أبرزها:
1) طمس الطابع العربيّ/الإسلاميّ للمدينة.
2) تغيير الوضع الديموغرافي فيها، منذ البداية، لصالح اليهود، كي يغدوا أكثرية فيها، ويغدو العرب أقليّة.
وقد أتت هذه المحاولات ثمارها المرجوّة صهيونيّاً، حين أصدرت سلطات الانتداب البريطانيّ قرار ترسيم حدود بلديّة القدس مراعيةً فيه ما أسمته "الوجود اليهوديّ الجغرافيّ والدينيّ في القدس". وبناء على هذه المراعاة، امتدّت حدود هذا الوجود نحو سبعة كيلومترات غرب البلدة القديمة، ومئات الأمتار شرقاً وجنوباً. وحين أعاد البريطانيّون ترسيم حدود القدس، بين عامي 1921 و1948، ركَّزوا على توزيع قسمها الغربيّ كالتالي:
(40%) أملاك إسلاميّة، (26.12%) أملاك يهوديّة، (13.86%) أملاك مسيحيّة.
أحدثت هذه النتيجة ردَّ فعل غاضباً من قبل العرب المقدسيّين، تمخَّض عنه توترٌ في علاقاتهم مع المستوطنين اليهود الّذين هاجروا إليها. ومما زاد هذا التّوتر حدَّةً، بشكل ملحوظ، تناغم تقسيم المستعمر البريطانيّ للقدس مع ما تضمَّنه قرار التّقسيم رقم (181) الّذي صدر بتاريخ 29/11/1947، بخصوص القدس، فقد جاء فيه:
(تُوضَع القدس تحت إدارة دوليّة، كمنطقة منفصلة، ويقوم مجلس وصاية بتلك الإدارة نيابة عن الأمم المتّحدة، وتشمل حدود القدس القرى والمناطق المحيطة بها وهي: "أبو ديس" من الشّرق، و"عين كارم" من الغرب، و"شعفاط" من الشّمال، و"بيت لحم" من الجنوب).
وظلَّ التّوتر يزداد حدّة بين العرب واليهود، في القدس، حتّى بلغ ذروته قبيل الإعلان الرّسميّ عن قيام الكيان الصّهيونيّ عام 1948. وبعد توقُّف الصّدام المسلّح الّذي وقع بين الطّرفين آنذاك، تمَّ تقسيمُ المدينة بموجب اتفاقيّة الهدنة الّتي وُقِّعَت بين الأردن وذلك الكيان بتاريخ 03/04/1949، والّتي نصّت على أنّ يتمَّ التّقسيم كما يلي:
القطاع اليهوديّ: وتعادل مساحته (84.13%) من مساحة القدس.
القطاع العربيّ: وتعادل مساحته (11.48%) من مساحة القدس.
قطاع هيئة الأمم والأراضي الحرام: وتعادل مساحته (3.49%) من مساحة القدس، أو (4.4%)، حسب مصادر أخر
وهكذا احتلّت إسرائيل في جولتها الأولى من الصّراع مع العرب، حول القدس، الجزء الأكبر منها، إلا أنّ أطماعها ظلّت تحوم حول الجزء المتبقّي، محاولةً ابتلاعه، كي تتمّ لها السّيطرة الكاملة على المدينة، لكنّها لم تستطع تحقيق تلك الأطماع، إلا بعد عدوان حزيران عام 1967، حين احتلّت القسم الشرقيّ منها.
وخلال فترة ما بين الاحتلالين، أي بين عامي 1948 و1967، قام الإسرائيليّون بتدمير الشّطر الغربيّ من القدس الّذي احتلّوه عام 1948، تدميراً شبه كامل، بعد أن طردوا خارجه أكثر من (98000) نسمة من سكانه الفلسطينيّين، كانوا يمثّلون الغالبية فيه. وقد غادروه من دون أملاكهم بالطّبع.
وفور احتلال شطر القدس الشرقيّ، بعدوان 1967، بادر عدد من كبار المسؤولين الإسرائيليّين إلى إعلان عزم حكومتهم ضمّه إلى سابقه المحتلّ منذ عام 1948، وتوحيد المدينة تحت السّيطرة الإسرائيليّة. وكانت ذريعتهم في تسويغ ذلك الضمّ زعمهم (أن القدس، بقسميها، كانت "مدينة يهوديّة"، منذ أقدم العصور، وينبغي أنّ تعود كذلك). وبالفعل، ضَمَّن عددٌ من قادة إسرائيل الأوائل هذا الزّعم في تصريحاتهم الّتي أعقبت عدوان 1967 مباشرة.
فعلى سبيل المثال، بدا هذا الزّعم التّسويغيّ واضحاً في التّصريح الّذي أدلى به ديفيد بن غوريون، يوم 12/06/1967، قائلاً: إن اليهود "قرّروا، بشكل نهائيّ، دمج قطاعي القدس في دولة إسرائيل، وتحويل القدس وضواحيها، عملياً، إلى مدينة يهوديّة إسرائيليّة، إلى أبد الآبدين… تلك المدينة العاصمة الأبديّة لشعب خالد، منذ أيام داوود الملك، حتّى نهاية جميع الأجيال، إذا وجدت مثل هذه النّهايّة".
ولا يكاد يختلف تصريح ليفي إشكول، أحد رؤساء وزراء إسرائيل السّابقين، عمّا قاله بن غوريون، في نفس جلسة الكنيست الّتي انعقدت يوم 12/6/1967، فقد قال إشكول: "القدس وُحِّدت، وهذه هي المرّة الأولى، منذ قيام الدّولة، الّتي يصلّي فيها اليهود بجوار حائط المبكى/بقايا دار قدسنا وماضينا التّاريخيّ، وكذلك يصلّون عند قبر أمّنا راحيل…".
وبنفس المعنى والصّياغة تقريباً، صرّح موشيه دايان، في 07/06/1967، أمام (حائط المبكى) قائلاً: "لقد أعدنا توحيد المدينة المقدّسة، وعدنا إلى أكثر أماكننا قدسيّة، ولن نبارحها أبداً".
• قرار ضمّ القدس عام 1967
وفي خضمّ هذه الانتهاكات بدأت أسطورة الحقّ الإسرائيليّ في القدس أو ما يسمى "حقّ" اليهود فيها، عقب احتلالها كاملة عام 1967، وحاولوا إضافة الطابع اليهوديّ على تلك الأساطير، وإعطاءها بُعداً دينياً وآخر تاريخيّاً، لتبرير ابتلاع شطرها الشرقيّ الّذي كان ابتلاعه أحد أهم أهداف عدوان 1967؛ في خضمّ ذلك كلّه، سارعت حكومة إسرائيل، آنذاك، إلى الإعلان رسميّاً عن ضمّ شرقيّ القدس المحتلّ حديثاً إلى غربيّها المحتلّ قديماً، واعتبارها بشطريها معاً جزءاً من إسرائيل، يقع ضمن حدودها. وهكذا، وقبل أنّ تبرد نيران العدوان، أقرَّ الكنيست يوم الثلاثاء 27/06/1967، قرار الضمّ الّذي تمّ الإعلان عنه في اليوم التّالي 28/06/1967، ونشـره في (الوقائع الإسرائيليّة/كتاب القوانين) ذي الرقم (499).
ومنذ ذلك التّاريخ، بذلت الحكومات الإسرائيليّة المتعاقبة جهوداً كبيرة في سبيل تغيير الطّابع العربيّ/الإسلامي للقدس، ملكيةَ أرضٍ ومعالمَ وسكاناً، عن طريق القيام بممارسات متعدّدة الأساليب والصّور، كان أبرزَها السّعيُّ إلى تغيير رجحان الميزان السّكانيّ فيها لصالح اليهود، كي يغدوا غالبية سكانها. ولا شكّ أنّ هذه الممارسة كانت الأبشع أيضاً لأنّ تنفيذها كان يعني المباشرة بطرد أكبر عدد من سكان القدس العرب، وتكثيف مشاريع الاستيطان فيها وحولها، وترغيب اليهود في سكناها، كما أفصح بن غوريون صراحةً، أمام الكنيست في جلسته الّتي انعقدت في 31/07/1967، مقترحاً توسيع أعمال الاستيطان في كلا شطري القدس، بعد إزالة كلّ الحواجز الموجودة بينهما، وتوفير كلّ الخدمات اللازمة لإقامة اليهود في كليهما إقامةً مريحة من كلّ النواحي. لأنّ تنشيط مشاريع الاستيطان، كما قال: "داخل القدس وضواحيها، هو وحده الّذي يكفل إعادة القدس للشّعب، إلى الأبد".
أي يُثبِّت بقاءها موحَّدة تحت الاحتلال، كما رجَّح المستشار الاستراتيجيّ لـنتنياهو، في فترة رئاسته للوزارة. وذلك بدعوى أنّ الإسرائيليّين صاروا غالبية سكان القدس، وما عاد ممكناً، بالتالي، إخراجهم منها مجدّداً. وهو ما يعني في منظور التّفاوض الإسرائيليّ، تقليص الخيارات السّياسيّة والضّغوط الدّولية الّتي قد تُكرِه إسرائيلَ على الانسحاب من القدس، كلّياً أو جزئياً، أو تُكرهها، في أيّ مفاوضات تسوية مقبلة، مع العرب، على القبول بإعادة تقسيمها إلى شطرين، يكون أحدهما عاصمة للفلسطينيّين.
وبالإضافة إلى محاولة تغيير الميزان السّكانيّ، في القدس، لمصلحة اليهود، قام الإسرائيليّون بإجراءات أخرى لتهويد المدينة، نفَّذوها بالتّزامن مع جهودهم لتغيير طابعها السّكانيّ، كما يُبيِّن استقراء تواريخ تلك الإجراءات، كتغيير ما كان سائداً فيها من أنظمة وقوانين، وتغيير معالمها العربيّة الإسلاميّة والمسيحيّة، وأسماء مدنها وأحيائها، وغير ذلك.
منذ أنّ احتلّت إسرائيل تلك المناطق اتّخذت سلطات الاحتلال الإسرائيليّة سياسات تميّز ضدّ السّكان الفلسطينيّين القاطنين فيها، وتعمل بطرق عديدة على رفع نسبة اليهود في المدينة وتقليص نسبة الفلسطينيّين؛ وذلك بهدف خلق واقع ديمغرافيّ وجغرافيّ يكبح أيّة محاولة مستقبليّة لزعزعة السّيادة الإسرائيليّة في القدس الشّرقيّة. في سبيل ذلك صادرت السّلطات آلاف الدونمات من السّكان الفلسطينيّين وبنت 12 حيّاً مخصّصة كلّها لليهود فقط، وذلك فوق المناطق المحتلّة الّتي جرى ضمّها إلى إسرائيل. مكانة هذه الأحياء، من ناحية القانون الدّولي، لا تختلف عن مكانة المستوطنات في أراضي مناطق الضّفّة الغربيّة.
• جدار الفصل العنصريّ في القدس… والقدس الكبرى
لم يأتِ بناء جدار الفصل العنصريّ في القدس نتيجة لمنع ما أسمته إسرائيل "العلميّات الإرهابيّة والتخريبيّة" بل جاء بناؤه من أجل استكمال فصل وعزل القدس بشكل مطلق عن واقعها الجغرافيّ ولتحقيق مخطّط القدس الكبرى.
فبعد نكسة حزيران في عام 1967، احتلّت "إسرائيل" الجزء الشرقيّ من القدس حيث كانت مساحتها كمدينة تبلغ 6000 دونم، وأصبحت مساحة مدينة القدس بفرعيها، الشرقيّ والغربيّ 44,100 دونم. لكن "إسرائيل" أقدمت على مصادرة 64 ألف دونم من أراضي الضّفّة الغربيّة (أي أكثر من ضعف مساحة المدينة بحدودها التّاريخيّة)، اقتطعتها من أراضي أكثر من 28 مدينة وقرية بعضها تمّ إلغاؤها كلّياً مثل قرى صور باهر وجبل المكبر والنبي صموئيل وحوّلتها إلى أحياء داخليّة في مدينة القدس ومن بيت جالا وبيت لحم وبيت ساحور وبيت إكسا وقطنة. ونتيجة لذلك أصبحت مساحة مدينة القدس ما يقارب من 126 ألف دونم بعد أنّ ضمّت 12 ألف دونم من مناطق فلسطينيّة احتلّت قبل عام 1948 إلى القدس.
وبعد أنّ فرضت حقائق على الأرض بدأت إسرائيل في عام 2002 بإجراءات عمليّة لإقامة القدس الكبرى الّتي تمتدّ من كتلة مستعمرات غوش عتصيون في محافظة بيت لحم (جنوب القدس)، وكتلة مستعمرات غفعات زئيف في شمال غرب القدس ومستعمرات بنيامين في الشّمال ومعاليه أدوميم والمستعمرات القريبة منها البالغة 8 مستعمرات من الشّرق. وبالإضافة إلى ذلك، توجد في منطقة برية القدس (المسمّاة إسرائيليّاً صحراء يهودا) مناطق تدريبات عسكريّة إسرائيليّة ومتنزّهات طبيعيّة متنوّعة. وتصل مساحة برية القدس إلى ما يقارب 600 كم وتصل حتّى مشارف البحر الميت وأريحا وتصل مساحة القدس طبقاً لخطّة القدس 2000 والّتي نشرها مركز "بمكوم" إلى أكثر من 250 كم
خطّة القدس الهيكليّة
إنّ جمعيّة "بمكوم" الّتي تطالب منذ سنين بتغيير سياسة التّخطيط في القدس الشّرقيّة أخذت على عاتقها دراسة الخطّة الجديدة، وشكّلت الجمعية لدى عرض الخطّة مجموعة عمل قامت بجولات ميدانيّة وأمعنت النّظر في وثائق هذه الخطّة، ثمّ قدّمت استنتاجاتها إلى رئيس طاقم التّخطيط الهيكليّ السّيّد موشيه كوهين خلال لقاء عقد معه، كما إلى رئيس مديريّة التّخطيط في وزارة الدّاخليّة المهندس المعماريّ شماي أسيف والطّاقم المهنيّ الّذي يعمل معه.
في يونيو/حزيران 1967 تمّ ضمّ أراضي شرقيّ القدس مع سكّانها إلى منطقة نفوذ المدينة لتزداد مساحة "المدينة الموحّدة" ثلاثة أضعاف تقريباً أي من 38 ألف دونم إلى 108 آلاف كما زاد عدد السكّان العرب تسعة وستين ألف نسمة. وقد صودر على مدار السّنين ثلث المساحة المضمومة لصالح بناء أحياء جديدة من أجل السكّان اليهود ممّا أدّى إلى تقليص مساحة السّكن والتّطوير للسكّان الفلسطينيّين.
قامت في المدينة طفرة هائلة من العمران والتّطوير لا سيّما في الأحياء اليهوديّة الّتي أقيمت على الأراضي المصادرة. تمّت بلورة خطط هيكليّة لكلّ حيّ على حدة بعيداً من النّظرة الشّموليّة العامّة، وبتجاهل الوضع التّخطيطي المركّب السّائد في المدينة إجمالاً وفي قسمها الشّرقيّ على وجه الخصوص. أضف إلى ذلك أنّ الخطط المذكورة أخرجت إلى حيّز التّنفيذ سياسة تخطيط معلنة تتمحور حول الحفاظ على نسب السّكان العرب واليهود، بحيث تسعى للإبقاء على التفوّق الدّيموغرافي الواضح للسّكان اليهود رغم نسبة النموّ الأسرع للسّكان العرب. وكثيراً ما تترجم هذه السّياسة بعدم التّخطيط أو التخطيط المحدّ من البناء.
بعد إقرار الحاجة إلى تخطيط شامل للقدس بكاملها وبأجزائها كافة، بدأت عمليّة تخطيط بعيدة المدى وواسعة النّطاق يفترض أنّ تنتهي ولأوّل مرّة بطرح تخطيط هيكليّ خاصّ بمدينة القدس.
وبذلك تحدّ القدس أكثر من سبعة مدن عربيّة هي رام الله والبيرة وبيتونيا وبيت لحم وبيت جالا وبيت ساحور ومنطقة أريحا ومنحدرات البحر الميّت. ويبدو لي أنّ لا الدّراسات الفلسطينيّة ولا العربيّة تحدّثت عن مساحة مناطق التّدريبات العسكريّة ولا المتنزّهات الطّبيعيّة الإسرائيليّة ولا المخطّطات المستقبليّة لهذه المنطقة من بناء مستوطنات جديدة ومناطق سياحيّة وغير ذلك، الّتي تمتدّ حتّى منحدرات البحر الميّت والّتي لا تعرف مساحتها على وجه الدّقّة رغم أنّ بعض المصادر الإسرائيليّة تتحدّث عن 600 كم.
• תכנית אלון خطّة ألون القدس الكبرى
طُرح موضوع القدس الكبرى لأول مرّة في شهر أيلول من عام 1967 من قِبَل وزير التّعليم الإسرائيليّ حينها يغيئال ألون الّذي طرح خطّة حلّ شاملة مع العرب سميّت بخطّة ألون. وفي ما يتعلّق بمدينة القدس الشرقيّة تحدّثت الخطّة عن القدس الموحّدة بشقيّها الشرقيّ والغربيّة تحت السّيادة الإسرائيليّة ومدّ تدريجيّ للسّيادة الإسرائيليّة على برية القدس الممتدّة حتّى مداخل مدينة أريحا ومنحدرات البحر الميّت حتّى منطقة مستعمرات غوش عتصيون في منطقة بيت لحم في الجنوب وجبال رام الله والبيرة في الشّمال.
كتاب خطة ألون الّذي يأتي بتفاصيل المخطّط وقد ألّف هذا الكتاب ضابطُ الاستخبارات الإسرائيليّ والدّبلوماسيّ يروحام كوهين وقامت بنشره دار هاكيبوتس همؤحد عام 1973
وجاء في الكتاب أنّه بُعيد حرب 1967، باشر حزب العمل عمليّات البناء الاستيطانيّ في الأراضي المحتلّة؛ انطلاقاً من كونها منطقة أمنيّة من الدّرجة الأولى، إضافة إلى ما تحويه من مساحات هائلة للزّراعة، ومصادر المياه الجوفية، وقد بدأت عمليّات الاستيطان على يد سلاح (الـ ناحل הנח"ל) (נוער חלוצי לוחם نوعار حلوتس لوحيم) وتعني "شبيبة الطّليعة المقاتلة"، إذ بُني العديد من المواقع الاستيطانيّة الّتي سمّيت باسم (ناحل)، وذلك على طول خطّ الهدنة ومناطق الغور.
وما لبثت هذه العمليّة أنّ تحوّلت إلى سياسة ذات مخطّط عُرف باسم "مشروع ألون" الاستيطانيّ، الّذي أعدّه يغال ألون، وزير العدل الإسرائيليّ في حينه؛ وذلك بناء على استراتيجيّة تضييق مجال الخيارات المتاحة للحلّ (التسوية)، بشأن السّيادة على الأرض المحتلّة، عبر تطبيق الأمر الواقع بالاستيلاء على الأرض وتنفيذ عمليّة استيطانيّة واسعة، على طول غور الأردن، من جنوب غور بيسان، وحتى جنوب صحراء الخليل، بطول 115 كلم وعرض 20 كلم.
وفي ضوء هذا المخطّط، بُني في عهد حزب العمل وحتى عام 1977م، 34 مستوطنة، (منها 12 في مدينة القدس)، وكانت مستوطنة كفار عتصيون هي الأولى الّتي بُنيت سنة 1967م، ثمّ كريات أربع سنة 1968م، ممّا يدل على أنّ الاستيطان كان يتجاوز حتّى مشروع ألون، والمفهوم الأمنيّ الاستراتيجيّ نحو استيطان متنوّع الأهداف في أماكن ومواقع في محيط القدس وبيت لحم، وكذلك على طول الخطّ الأخضر.
وقد قال ألون نفسه عن مشروعه الاستيطانيّ في صحيفة (דבר دافار الإسرائيليّة) بتاريخ 17/02/1974: "لقد أقيمت: المستعمرات الإسرائيليّة في ضوء الأهميّة الاستراتيجيّة لمتطلبات الأمن، وكحافز للنّضال السّياسيّ من أجل حدود آمنة".
ولتحقيق مشروعه عملياً، دعا إلى تجنّب ضمّ مناطق بها كثافة سكانيّة فلسطينيّة، قائلاً إنّه في المناطق المذكورة بخطته يجب إقامة مستعمرات مدنيّة وريفيّة وقواعد عسكريّة دائمة، بأسرع وقت ممكن، وفق متطلبات الأمن، ويشمل ذلك شرقيّ القدس وبلداتها القديمة.
أمّا في قطاع غزّة، فقد تأخرت عمليّة البناء الاستيطانيّ حتّى أواخر عام 1970م، وقد جاء في مشروع ألون – ضرورة وضع حزام استيطانيّ في محيط القطاع، وتقسيمه إلى ثلاث كتل فلسطينيّة، تفصلها حواجز ماديّة، وكانت المستوطنات هي هذه الحواجز الماديّة المطلوبة، وهي عبارة عن ثلاث مجموعات من المستوطنات.
1- مستوطنات في شمال القطاع (إيرز، إيلي سيناي، نيسانيت ونتساريم).
2- مستوطنات دير البلح ومركزها مستوطنة كفار داروم.
3- كتلة مستوطنات خانيونس (غوش قطيف، جاني طال، نتسار حزاني، نفيه دكاليم، دوغيت، جديد، موراغ، غان أور ورفيح يام).
وفي نهاية عام 1994 وضع الجنرال إيلان بيران قائد ما يسمّى بالمنطقة الوسطى ورئيس إدارة الاتفاق المرحليّ في نفس القيادة التّابعة للجيش الإسرائيليّ خطّة إعادة انتشار الجيش الإسرائيليّ في الضّفّة الغربيّة الّتي تضمّنت إقامة القدس الكبرى الّتي تضمّ معاليه أدوميم وغفعات زئيف وغوش عتصيون، والسيطرة على كلّ محاور الطّرق المؤديّة إليها مثل شاع 45 الّذي يتعمّق في أراضي بلدة بيتونيا ويصل إلى عين عريك وهو يبعد 3-4 كم عن شارع 443 وشارع 60 في الجنوب الموصل إلى القدس من غوش عتصيون وشارع 80 (شارع ألون). وسُمّيت تلك الخطّة بخطّة حاضن القدس.
وبناء على المخطّطات المذكورة بُني الجدار الفاصل في مدينة القدس مع إدخال بعض التّعديلات الطّفيفة والتي لا تكاد تُذكر لصالح الفلسطينيّين، وذلك لتحقيق الأهداف التالية:
1. عزل وفصل القدس الشّرقيّة عن بقية أراضي الضّفّة الغربيّة وإقامة القدس الكبرى.
2. تهجير وتفريغ القدس الشّرقيّة من السّكان العرب وترحيلهم من الضّفّة الغربيّة أو إلى أيّ مكان آخر.
3. في حال عدم تمكّنها من تهجير العرب، فعلى الأقل حشرهم في أحياء صغيرة محاطة بالمستوطنات والجدران والشّوارع، وتكون غير قابلة للنموّ والتطوّر السّكانيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والسّياسيّ.
4. خلق حقائق على الأرض مثل إقامة مستوطنات ومناطق صناعيّة وسياحيّة يهوديّة ودعم هجرة اليهود إلى المدينة وضواحيها بهدف إيجاد أغلبية يهودية في القدس الشرقيّة.
5. المحافظة على سيادة إسرائيل على الأماكن المقدّسة الإسلاميّة والمسيحيّة نظراً إلى ما تدّعيه من حقوقها في الحرم القدسيّ الشّريف وفي غيره من الأماكن، ومنع الوصول إليها.
هدم قرية الكعابنة من بيت حنينا-بلد شماليّ القدس.
ولإتمام هذه المخطّطات قامت إسرائيل بالتّلاعب في القوانين وأدخل الكنيست تعديلات على قانون "ترتيب السّلطة والقانون" الصّادر في 26/07/1948 يخوّل بموجبه الحكومة بضمّ أيّة مساحة من "أرض إسرائيل السّابقة" إلى حدود دولتها. ووفق ذلك نشرت سكرتارية الحكومة في 28/06/1967 أمراً تضمّ بموجبه البلدة القديمة في القدس ومساحات واسعة أخرى (لم تذكر مساحتها) من جميع المناطق. خاصّة من الشّمال والجنوب إلى دولة إسرائيل. وبالإضافة إلى القانون المذكور، ألغت الحكومة الإسرائيليّة البلديّة الأردنيّة والمؤسّسات الأردنيّة الأخرى الموجودة في القدس الشرقيّة، وحوّلتها إلى بلدية موحّدة – بهذه الطّريقة تم ضمّ 80 ألف دونم إلى حدود مدينة القدس منها ستة آلاف دونم مساحة البلديّة الأردنيّة أي ما يعادل أكثر من 1.5 من مساحة الضّفّة الغربيّة.
ولتثبيت ما تمَّ القيام به من إجراءات تهويدها، منذ صدور قرار ضمها عام 1967، ولإضفاء لون من "الشّرعية" على تلك الإجراءات، أصدر الكنيست، عام 1980، ما عُرِف بـ "قانون القدس" الّذي أكّد في بنده الأوّل إعلان القدس بشطريها، عاصمةً موحّدة لإسرائيل. فماذا تضمَّن هذا القانون أيضاً، وما أهم أهدافه؟
• قانون القدس الصّادر عام 1980 وأهدافه
في عام 1980، تقدّمت عضو الكنيست جيئولا كوهين، من حركة "هَتْحِيَّا"، بمشروع سُمّي، "قانون القدس". وفي ذات الوقت، طرح إمري رون من حزب "مبام"، مشـروعاً مماثلاً. وبعد مناقشة كلا المشروعين، استُخلِصَ من مضمونيهما ما صار يُعرَف، فيما بعد، بـ "قانون القدس" الّذي صادق أعضاء الكنيست على صيغته النّهائيّة، بتاريخ 20/07/1980، بأغلبية (69) صوتاً ضدّ (15)، وامتناع ثلاثة أعضاء عن التّصويت. وقد تضمّنت تلك الصيغة، كما نشـرتها صحيفتا (هتسوفيه، 31/07/1980)، و(هآرتس، 01/08/1980)، البنود الأربعة التالية:
1) القدس الموحدّة هي عاصمة إسرائيل.
2) تبقى الأماكن المقدّسة محفوظة من إلحاق أيّ ضرر بها، أو أيّ شيء يسيء إلى حريّة وصول أبناء الديانات السّماويّة إلى أماكنهم المقدّسة.
3) تحرص الحكومة الإسرائيليّة على تطوير وإنعاش القدس ورفاهية سكّانها، عن طريق رصد الطّاقات الخاصّة، ولا سيما تقديم منحة سنوية خاصّة لبلديّة القدس تسمى "منحة العاصمة".
4) تُمنح القدس أفضليّة خاصّة بشأن ما يتعلق بنشاطات الدّولة، لتطويرها في المجالات الاقتصاديّة وغيرها من المجالات الأخرى.
وبالإضافة إلى ذلك، أصدرت محكمة العدل الإسرائيليّة قراراً في عام 1988 اعتبرت فيه سكّان القدس الشرقيّة سكاناً دائمين وليسوا مواطنين، لا يحقّ لهم الحصول على كلّ الامتيازات الّتي يحصل عليها اليهوديّ في المدينة، وعلى نفس الصّعيد صدر عن الحكم العسكريّ الإسرائيليّ في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة أوامر عسكرية تلغى بموجبها القوانين الأردنيّة أو تعدّلها من أجل استكمال السّيطرة على أراضي الفلسطينيّين وتهجيرهم بما في ذلك القدس الشّرقيّة ومحيطها، وبلغ مجموع هذه الأوامر (الجديدة والمعدّلة) أكثر من 1500 أمر عسكريّ شملت مختلف مناحي حياة الفلسطينيّين.
وتتجاهُل السّلطات الإسرائيليّة احتياجات السّكّان الفلسطينيّين، وتعامُلها معهم كغرباء أو كأجانب، انعكس على نحوٍ واضح في إقامة الجدار الفاصل داخل المدينة. المسار الّذي جرى اختياره لبناء الجدار أبقى 8 أحياء فلسطينيّة وراء الجدار، بما فيها مخيّم شعفاط للاجئين. يعيش في هذه الأحياء أكثر من مئة ألف إنسان، وفقاً للتقديرات. وهي تشكّل جزءاً من منطقة نفوذ بلديّة القدس، ويدفع سكّانها الضرائب لبلديّة القدس. ولكن بلديّة القدس والوزارات الحكوميّة المختلفة تتجاهل تلك الأحياء فتمتنع عن دخولها وترفض تزويد سكّانها بالخدمات الحيويّة، وبذلك تحوّلت هذه الأحياء إلى مناطق يبدو عليها الإهمال الشّديد. هذه الأحياء محرومة من الخدمات البلديّة الأساسيّة والحيويّة، مثل إخلاء النفاية، شقّ الطّرق، وخدمات التّربيّة والتعليم. كما أنّها تعاني نقصاً حادّاً في عدد الصّفوف التّعليميّة ورياض الأطفال. البنية التّحتيّة للمياه والصّرف الصّحّيّ في تلك الأحياء لا تكفي لسدّ احتياجات السّكّان، ولم يطرأ عليها أيّ تطوير. يعاني السكّان أيضاً من قيود شديدة على حركتهم وتنقّلهم، وذلك جرّاء عرقلتها على الحواجز والازدحام الّذي تسبّبه تلك الحواجز في الطّرق المؤديّة إليها.
الاحتلال في الضّفّة الغربيّة
مناطق السّلطة الفلسطينيّة في الضّفّة الغربيّة حسب اتفاق أوسلو، حيث يشير اللون الأصفر الغامق إلى المناطق ذات السّيادة الفلسطينيّة التامّة، بينما اللون الأصفر الفاتح فهو مناطق ذات سيطرة فلسطينيّة – إسرائيليّة مشتركة، أمّا اللون الأبيض فهو مناطق تحت السّيطرة الإسرائيليّة الأمنيّة المباشرة. اللون البنيّ يبيّن التّجمّعات الاستيطانيّة الإسرائيليّة منذ حرب 1967
الضّفّة الغربيّة منطقة جيوسياسيّة تقع في فلسطين، سُمِّيَت بالضّفّة الغربيّة لوقوعها غرب نهر الأردن. تشكل مساحة الضّفّة الغربيّة ما يقارب 21% من مساحة فلسطين الانتدابيّة (من النّهر إلى البحر) – أي حوالى 5,860 كم². تشمل هذه المنطقة جغرافيّاً جبال نابلس وجبال القدس وجبال الخليل وغربيّ غور الأردن وتشكل مع قطاع غزّة الأراضي الفلسطينيّة المتبقيّة بعد قيام إسرائيل على بقيّة فلسطين عام 1948، كما قامت إسرائيل باحتلال الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة عام 1967. تطلق إسرائيل على الضّفّة الغربيّة اسم "يهودا والسامرة" وذلك استمرار منها في عمليّة تهويد الأرض والتّاريخ في فلسطين.
لم تكن الضّفّة الغربيّة جسماً متمايزاً قبل حرب 1948 وقيام إسرائيل، وبعد الحرب؛ ضُمَّت الضّفّة الغربيّة إلى الأردن في مؤتمر أريحا عام 1951، ثم احتلّتها إسرائيل خلال حرب 1967، وظلّت الأردن تعتبرها قانونياً أراضي أردنية محتلّة حتّى عام 1988. تشكّل أراضي الضّفّة الغربيّة الجزء الأكبر مساحة من الأراضي الّتي اصطُلح على تسميتها الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة (التي تضمّ الضّفّة الغربيّة – بما فيها القدس الشرقيّة – وقطاع غزّة)، الّتي يؤمل أنّ يحصل عليها الفلسطينيون ضمن مفاوضات حلّ الدّولتين الّتي تفاوض على إقامتها منظّمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1991. بدءاً من عام 1994، يقع الفلسطينيّون تحت سلطة حكم ذاتيّ فلسطينيّ في التّجمّعات السّكّانية الفلسطينيّة الكثيفة ضمن أراضي الضّفّة الغربيّة كجزء من اتفاق أوسلو باستثناء مدينة القدس.
الاستيلاء على أراضٍ فلسطينيّة.. بادّعاء أنّها أراضي دولة
בג"ץ 390/79 דויקאת נ’ ממשלת ישראל, עמ’ 4 לפסק דינו של מ"מ הנשיא (כתוארו אז) לנדוי.
قرار محكمة العدل العليا 390/79 المُسمّى "ألون موريه" الّذي قيّد من إمكانيّات قيام الحكومة بإعلان إقامة مستوطنات على أراض بملكية خاصّة صُودرت بأوامر عسكريّة
في عام 1979 صدر قرار المحكمة العليا المُسمّى "ألون موريه" الّذي قيّد من إمكانيات قيام الحكومة بإعلان إقامة مستوطنات على أراض بملكيّة خاصّة صُودرت بأوامر عسكريّة، وحصرها في الحالات الّتي يكون فيها الاعتبار الأساسيّ من وراء مصادرة الأراضي اعتباراً أمنيّاً. وفي أعقاب هذا القرار، أعلنت الدّولة أنّ المستوطنات لن تُبنى إلا على أراضٍ أُعلنت أنّها أراضي دولة. ولكنّها عندما رغبت بإقامة مستوطنات على مثل هذه الأراضي، اصطدمت الحكومة بمشكلة: مساحة الأراضي الّتي كانت مسجلة كأراضي دولة في عام 1967 كانت محدودة (قرابة 527,000 دونم)، وتركّزت غالبيتها في غور الأردن وصحراء "يهودا"، في حين رغبت الدّولة بإقامة المستوطنات في مناطق "منصّة الجبل" (سلسلة الجبال بين القدس والخليل).
وعليه، سعت السّلطات من أجل إعلان أراض إضافيّة كأراضي دولة بغية زيادة موجودات الأراضي الّتي يمكن أنّ تكون متوفرة لغرض إقامة المستوطنات. وقد جرت هذه الإعلانات عبر إعادة كتابة التعليمات والنُّظم وتبنّي تفسير مختلف تماماً لقانون الأراضي العثمانيّ (الذي ينظّم مسألة الملكيّة على الأراضي في الضّفّة الغربيّة)، عن التّفسير الّذي كان متّبعاً في الفترة العثمانيّة وأيّام الانتداب والحكم الأردنيّ. وعبر هذه الوسيلة، أعلنت إسرائيل بين الأعوام 1979-2002 أكثرَ من 900,000 دونم على أنّها أراضي دولة، أي زيادة مقدارها قرابة 170% عن نسبة أراضي الدّولة الّتي كانت في الضّفّة قبل الاحتلال. وتوجد اليوم في منطقة C الواقعة تحت السّيطرة الإسرائيليّة التامّة قرابة 1.2 مليون دونم من أراضي الدّولة، ما يعادل 36.5% من مساحة المنطقة C (21% من مساحة الضّفّة الغربيّة). كما توجد قرابة 200,000 دونم إضافية من أراضي الدّولة في منطقتي A وB، حيث تتبع صلاحيّة التّخطيط فيها للسّلطة الفلسطينيّة.
يقوم التّفسير الجديد الّذي اتّبعته إسرائيل بالتسهيل للغايّة عمليّة إشهار الأراضي كأراضي دولة، حتّى لو اعتُبرت هذه الأراضي قبل ذلك أراضيَ بملكيّة فلسطينيّة خاصّة أو جماعيّة وفق التّفسير الّذي اتّبعته سلطات الانتداب والحكومة الأردنيّة لقانون الأراضي. وجرى ذلك، من ضمن مجمل الأمور، عبر فرض مطالب متشدّدة أمام الفلسطينيّين تتعلّق باستصلاح زراعيّ متواصل كشرط لازم للحصول على حقوق ملكيّة الأرض من خلال تجاهل تعليمات القوانين المحليّة الّتي تمنح التجمّعات الأهليّة الفلسطينيّة حقّ استخدام جماعيّاً لأراضي الرّعي وأراضٍ عامّة أخرى.
مسحٌ مقارنٌ أجرته بتسيلم في منطقة رام الله، لغرض التّقرير "تحت غطاء الشّرعيّة" الّذي نُشر عام 2012، يكشف فوارق دراماتيكيّة في نسبة المساحة الّتي عُرفت كممتلكات حكوميّة على يد الحكومة الأردنيّة في المناطق الّتي سُجّلت في السّجل العقاريّ (الطابو)، وبين نسبة المناطق الّتي أشهرتها إسرائيل كأراضي دولة، في المناطق الّتي لم يسجّلها الأردنيّون في السّجل العقاريّ (الطابو). وتُعزّز نتائج المسح من الاستنتاج القاضي بأنّ قسماً كبيراً من الأراضي الّتي أُشهِرت كأراضي دولة هي في الواقع ممتلكات فلسطينيّة خاصّة، سُرقت من أصحابها الشّرعيّين عبر تدليس ومناورات قضائيّة، ومن خلال انتهاك القوانين المحلّيّة والدّوليّة.
يتمّ إجراء السّيطرة على الأراضي خلافاً للقواعد الأساسيّة الخاصّة بالإجراء النّزيه ولمبادئ العدالة الطّبيعيّة. وفي أحيان كثيرة لم يكن السّكّان الفلسطينيّون على دراية بأنّ أراضيهم سُجّلت على اسم الدّولة، وعند اكتشافهم لذلك كان موعد الاستئناف قد فات؛ كما أنّ عبء الإثبات يقع دائماً على الفلسطينيّ الّذي يدّعي أنّ الأرض تابعة له؛ وحتّى إذا نجح صاحب الأرض بإثبات أنّ الأرض ملكيّته حقاً، فستجد في بعض الأحيان حالات سيُجرى تسجيل الأرض فيها على اسم الدّولة برغم ذلك، بادّعاء أنّها مُنحت للمستوطنة بحسن نيّة.
وحتّى لو كان الحديث يدور عن مناطق أُعلِنت جميعها أراضي دولة وفقاً للقانون، فإنّ القانون الدّوليّ ينصّ على أنّ هذه الأراضي – وتلك الّتي أُعلنت قبل عام 1967 – يُفترض أن تكون أراضي عامّة مخصّصة لاستخدام سكّان المنطقة المحتلّة، أي الجمهور الفلسطينيّ، وليس لاستخدام إسرائيل أو مواطنيها. إسرائيل، كدولة محتلّة، ليست صاحبة السّيادة على الأرض ولذلك فهي لا تتمتّع بملكيّة الأراضي، حتّى لو أُعلنت هذه الأراضي بأنّها "أراضي دولة". وفي واقع الأمر، تحظر إسرائيل بشكل شبه كلّيّ البناء والتّطوير الفلسطينيّين في هذه الأراضي، وهي تخصّصها بشكل شبه حصريّ للمستوطنات والجيش ومنشآت البنى التّحتيّة الإسرائيليّة: قرابة 94% من أراضي الدّولة في منطقة C موجودة في مناطق نفوذ المستوطنات والمجالس الإقليميّة التّابعة لها.
الإدارة المدنيّة لا تكاد تخصّص أراضيَ من تلك الّتي أُعلنت أراضي دولة لصالح الفلسطينيّين. ووفق معطيات وفّرتها الإدارة المدنيّة في أعقاب التّماس قدّمته جمعيّة حقوق المواطن وجمعيّة "بمكوم"، فإنّ الإدارة المدنيّة خصّصت للفلسطينيّين منذ احتلّال الضّفّة الغربيّة عام 1967، ما لا يزيد عن 0.7% من الأراضي الّتي أعلنت أراضي دولة في منقطة C (قرابة 8,600 دونم). ويأتي هذا في مقابل 31% من الأراضي (ما يقرب 400,000 دونم) الّتي خُصّصت للهستدروت الصّهيونيّة الّتي تنشط في مجال تطوير المستوطنات؛ و8% (قرابة 103,000) دونم خُصّصت لمجالس المستوطنات المحليّة ولشركات الهواتف الخلويّة الإسرائيليّة؛ و12% (قرابة 160,000 دونم) خُصّصت للوزارات الحكوميّة وشركات البنى التّحتيّة الإسرائيليّة مثل بيزك وشركة الكهرباء ومكوروت. وقد جرى حساب هذه النّسب بالاعتماد على تقديرات الإدارة المدنيّة الّتي وردت في أعقاب ردّ الدّولة على الالتماس، من خلال التّشديد على أنّ الحديث يجري عن تقديرات فقط، وهي تستند بدورها إلى خرائط "ليست دقيقة بتاتاً"، والّتي تفيد بأنّ حجم أراضي الدّولة في مناطق
C يبلغ 1.3 مليون دونم
اتفاقيّة أوسلو والحكم الذّاتيّ
خلافاً لأهدافها المعلنة، فإنّ اتفاقيّة أوسلو تسمح لإسرائيل بالذّات بتثبيت سيطرتها على جميع مناطق الضّفّة، واستغلالها لأغراضها والتّأثير على النّواحي المهمّة في حياة سكّانها الفلسطينيّين اليوميّة.
كيف؟ قُسّمت السّيطرة على الضّفّة الغربيّة لفترة مؤقتة كان من المفترض أنّ تستمرّ لخمس سنوات إلى حين التّوقيع على اتفاقيّة الحلّ الدائم، وفق ما يلي: نحو 40% من مناطق الضّفّة، الّتي كانت في غالبيتها منطقة فلسطينيّة عمرانيّة أثناء التّوقيع على الاتفاقيّة والّتي كانت تعيش فيها الغالبيّة الساحقة من السّكّان الفلسطينيّين نُقلت إلى السّيطرة الكاملة أو الجزئيّة للسّلطة الفلسطينيّة وعُرّفت هذه المناطق كمناطق A وB. وأبقت إسرائيل تحت سيطرتها الكاملة نحو 60% من مناطق الضّفّة وسُمّيت مناطق C والتي شملت – من ضمن ما شملت – مناطق المستوطنات برُمّتها.
تتعامل إسرائيل مع منطقة C وكأّنها مخصّصة لخدمة احتياجاتها فقط، من خلال تجاهل تامّ لكون الاتفاقيّة مؤقتة: فقد استغلّت المنطقة من أجل توسيع المستوطنات، حيث زاد عدد المستوطنين منذ ذلك الحين أكثر من ثلاثة أضعاف.
وفي الوقت ذاته لا ترى نفسها ملتزمة بتاتاً أمام السّكّان الفلسطينيّين الّذين يسكنون هذه المنطقة والذين يتراوح تعدادهم وفق التّقديرات بين 200-300 ألف نسمة، وتمنعهم بشكل شبه تامّ من أيّ بناء وتطوير بمسوّغات مختلفة.
لقد أعلنت إسرائيل مساحات واسعة جداً في الضّفّة كمناطق عسكريّة وأراضي دولة يُحظر البناء فيها. وفي المنطقة الضّيّقة الّتي بقيت تمتنع الإدارة المدنيّة عن تجهيز مخطّطات هيكليّة تلبّي احتياجات السّكّان. وعندما يبني الفلسطينيّون مجبَرين من دون تصاريح بناء تهدّد الإدارة المدنيّة بهدم بيوتهم، وفي كثير الحالات تنفّذ هذه التّهديدات.
تهدف هذه السّياسة – من ضمن ما تهدف إليه – إلى إقصاء الفلسطينيّين عن المنطقة بغية تسهيل ضمّها إلى إسرائيل مستقبلاً. وتتجسّد هذه السّياسة بشكل عنيف جداً في تعامل إسرائيل مع عشرات التجمّعات شبه الرّحّالة المنتشرة في منطقة C حيث تطرد السّلطات سكّانها – أو تحاول طردهم – من بيوتهم ومن مناطق سكناهم.
إن المناطق الّتي نُقلت إلى السّلطة الفلسطينيّة والتي سُمّيت منطقتا A وB، ليست متواصلة بل مركّبة من عشرات "الجزر" المحاطة بمناطق عُرّفت كمناطق C. فمثلاً، ورغم أنّ الغالبيّة السّاحقة من الفلسطينيّين في الضّفّة يعيشون في هذه المناطق، إلا أنّ الغالبية الكبيرة من احتياطي الأراضي الضّروريّ لتطوير هذه البلدات ظلّ في منطقة C، ومن ضمنها أراضٍ كثيرة كانت في مناطق نفوذ بلديّة والموجودة في قسم منها بملكيّات خاصّة. أيّ أنّ استخدام هذه الأراضي من أجل توسيع البلدات الّتي ظلّت في منطقتيْ A وB، لإقامة مشاغل صناعيّة ومدّ خطوط مياه أو شقّ الشّوارع، كلّها خاضعة لموافقة من إسرائيل الّتي تمتنع في الغالب عن إصدار هذه التّصاريح.
وتواصل إسرائيل أيضاً السّيطرة بشكل شخصيّ على جميع سكّان الضّفّة الغربيّة، الّذين يتبعون ظاهريّاً لحُكم السّلطة الفلسطينيّة: كلّ انتقال لفلسطينيّ من مدينة إلى أخرى ومن منطقة إلى منطقة منوط بعبور منطقة خاضعة لسيطرة إسرائيل الحصريّة، وبهذا يُفرض عليهم الاحتكاك مع قوات الأمن الإسرائيليّة. تواصل إسرائيل أيضاً السّيطرة على سجلّ السّكّان وتحديد من يُعتبر من سكان الضّفّة وتواصل تسيير جهاز القضاء العسكريّ في الضّفّة، والتي تحاكم فيه آلاف الفلسطينيّين سنوياً ومن ضمنهم سكان منطقتيْ A وB. إلى جانب ذلك لا يمكن لجميع سكان الضّفّة الغربيّة السّفر إلى الخارج من دون تصريح إسرائيليّ ولا يمكن للمواطنين الأجانب الدّخول إلى الضّفّة من دون مثل هذا التّصريح. إنّ السّلطات الإسرائيليّة مخوّلة باعتقالهم وطردهم حتّى لو كانوا موجودين في منطقتيْ A وB.
تقسيم الضّفّة الغربيّة من الوضع المؤقت للوضع الدائم
كما ذكرنا لقد جرى تقسيم الضّفّة الغربيّة في اتفاقيّات أوسلو إلى ثلاثة أنواع من المناطق:
مناطق A وB: لدى توقيع الاتفاقيّات كانت هذه المناطق في معظمها مساحات فلسطينيّة مأهولة، سكن فيها، حينئذٍ واليوم – معظم السّكّان الفلسطينيّين. تشكل المنطقتان A وB نحو 40% من مساحة الضّفّة، وقد تمّ نقلها رسميّاً إلى السّلطة الفلسطينيّة لتكون تحت سيطرتها الكاملة أو الجزئيّة. ليس هنالك تواصُل جغرافيّ بين هذه المناطق، وهي مكوّنة من 165 "جزيرة" متناثرة في أنحاء الضّفّة.
שטח مناطق C: كلّ المساحة المتبقيّة تمّ تعريفها على أنّها مناطق C، وتوجد تحت سيطرة إسرائيل الكاملة. هذا مجال متواصل، توجد داخله "جزر" من مناطق تمّ تعريفها كمناطق A وB، ويشكل حوالى 60٪ من مساحة الضّفّة الغربيّة. هذه المساحة تشمل تقريباً موارد أراضي البلدات الفلسطينيّة كافّة والمستوطنات والمناطق كافّة الّتي تستهدف إسرائيل تنميتها.
كان يُفترض أنّ يستمرّ هذا التقسيم لخمس سنوات فقط، إلى حين توقيع الاتّفاق النهائيّ؛ ولكن إسرائيل ما زالت تطبّقه حتّى اليوم وبعد مضيّ أكثر من عشرين سنة على وضعه. ولا تستجيب إلى احتياجات التّطوير المدنيّ والإقليميّ للسّكّان الفلسطينيّين، كما تعيق احتمالات النموّ الاقتصاديّ. كذلك، يُنشئ هذا التقسيم وهماً بأنّ السّلطة الفلسطينيّة هي المسؤولة الرّئيسية عن حياة معظم السّكّان الفلسطينيّين في الضّفّة الغربيّة، ولكنّ ما يجري فعلياً هو أنّ أيّ قرار تتّخذه هذه السّلطة – مهما كان هامشيّاً – يتطلّب موافقة (ولو بالسّكوت عنه، أحياناً) السّلطات الإسرائيليّة.
تمييز المناطق C عن المناطق الّتي نُقلت إلى السّلطة الفلسطينيّة وفصلها عنها، هو إجراء اصطناعيّ لا يعكس الواقع الجغرافي أو الحيّز الفلسطينيّ. المناطق A وB غير متّصلتين جغرافيّاً، وإنّما تتشكّل من عشرات "الجُزر" المحاطة بمساحات شاسعة وممرّات ضيّقة جرى تعريفها على أنّها مناطق C. وهكذا، فإنّه برغم أنّ الغالبيّة العظمى من سكّان الضّفّة الغربيّة الفلسطينيّين يعيشون في هذه المناطق، إلاّ أنّ احتياطيّ الأرض الّلازم لتطوير البلدات في تلك المناطق قد بقي ضمن المناطق C، ويشمل ذلك أراضي كانت ضمن نطاق نفوذ مجالس تلك البلدات، بل وجزء منها أراضٍ بملكيّة خاصّة. أيّ استخدام لهذه الأراضي لغرض توسيع البلدات الّتي بقيت ضمن المناطق A وB، إقامة المصانع والمنشآت الزّراعيّة ومدّ شبكة المياه أو تعبيد الطّرق، يحتاج إلى مصادقة من إسرائيل، وإسرائيل تمتنع عن ذلك.
يقرّ البنك الدّولي – في تناوُله معطيات عام 2011 – أنّه لولا القيود الّتي تفرضها إسرائيل على التّطوير الاقتصاديّ في مناطق C، لسجّل النّاتج المحليّ الإجماليّ الفلسطينيّ ارتفاعاً قيمته 4.3 مليار دولار سنوياً. منذ ذلك لم يطرأ أي تغيّر ملحوظ في سياسات إسرائيل. علاوة على ذلك، تسيطر إسرائيل على جميع معابر الحدود بين الضّفّة والأردن، وعلى جميع الطّرق المؤدّية إلى المناطق A وB؛ وعليه فإنّها تملك مطلق الصّلاحيّة لتقرّر أيّ البضائع تدخل إلى الضّفّة عموماً وإلى المناطق الّتي نُقلت إلى السّلطة الفلسطينيّة خصوصاً.
الاحتلال وكارثة المستوطنات
إن المستوطنات اليوم هي العامل الأكثر تأثيراً على واقع الحياة في الضّفّة الغربيّة: إنّ مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليّين يعيشون في أكثر من 200 مستوطنة وبؤرة استيطانيّة في أرجاء الضّفّة حيث شُيّدت كلّها خلافاً لأحكام القانون الإنسانيّ الدّوليّ، وبعضها حتّى خلافاً للقانون الإسرائيليّ.
مئات آلاف الدّونمات من الأراضي بما فيها مناطق رعي ومناطق زراعيّة انتُزعت من الفلسطينيّين لصالح إقامة المستوطنات. لقد أُعلن عن قسم كبير من هذه المناطق كـ "أراضي دولة"، من خلال الاستناد إلى تفسير مشكوك به للقانون؛ وقد نُهبت مناطق أخرى من الفلسطينيّين لهذا الغرض بواسطة فرض الوقائع على الأرض ومن خلال اللجوء إلى القوّة. إلى جانب ذلك خُصّصت لصالح المستوطنات – وبسخاء كبير – مساحات شاسعة تزيد مساحتها كثيراً عن المنطقة العمرانيّة فيها. وقد أُعلنت جميع مناطق المستوطنات "مناطق عسكريّة مغلقة" يُحظر دخول الفلسطينيّين إليها من دون تصريح.
تتجاوز إسقاطات المستوطنات على حقوق الإنسان الخاصّة بالفلسطينيّين حجمَ الأراضي الّتي استولوا عليها لغرض إقامتها بكثير: فقد صُودرت أراض أخرى لصالح شقّ مئات الكيلومترات من الطّرق والشّوارع الالتفافيّة لصالح المستوطنين؛ كما نُصبت الحواجز والوسائل المُقيّدة الأخرى الّتي لا تقيّد إلا حركة الفلسطينيّين وفقاً لموقع المستوطنات؛ فضلاً عن إغلاق أراض زراعيّة كثيرة بشكل فعليّ – تقع داخل مناطق المستوطنات وخارجها – بوجه مالكيها الفلسطينيّين. كما تقرّر مسار جدار الفصل الملتوي داخل مناطق الضّفّة، وذلك بالأساس من أجل إبقاء أكثر ما يمكن من المستوطنات والمساحات الشاسعة الّتي تخصّصها إسرائيل لتوسيع هذه المستوطنات في الجهة الغربيّة للجدار.
وتؤدّي إقامة الجدار في مساره الحاليّ إلى إلحاق ضرر شديد بحقوق الفلسطينيّين الّذين يسكنون بجواره، حيث حُبس بعضهم في داخل "مُسوَّرات"، إذ أيضاً يشوّش روتين حياتهم: فهو يحدّ من قدرتهم على الوصول إلى أراضيهم الزراعيّة ويحدّ من إمكانيّة الحصول على الخدمات الحيويّة والالتقاء بأفراد العائلة والأصدقاء الّذين ظلّوا في الجهة الأخرى من الجدار ويحول دون تطوير هذه المناطق.
إنّ وجود مستوطنين إسرائيليّين في الضّفّة ووجود المستوطنات والبؤر الاستيطانيّة المنتشرة في كلّ مناطقها يشكّلان السّبب الأساسيّ وراء وجود أعداد كبيرة من قوات الأمن الإسرائيليّة في الضّفّة. وتخصّص هذه القوات مواردَ جمّة بغية أنّ تضمن عدم خرق الفلسطينيّين الأوامر العسكريّة المخصّصة لإبعادهم من مناطق المستوطنات، وأيضاً بغية منعهم من المسّ بالمستوطنين والمستوطنات وهذا ليس أخلاقياً وليس قانونياً، رغم كون المستوطنات انتهاكاً لأحكام القانون الإنسانيّ الدّوليّ. يخلق وجود قوّات الأمن بهذا الشكل تماسّاً يوميّاً بينهم وبين السّكّان الفلسطينيّين ويؤدّي بدوره إلى انتهاك قوّات الأمن لحقوق الإنسان، بما في ذلك الممارسات العنيفة وإطلاق النّار خلافاً للقانون.
ورغم أنّ الضّفّة الغربيّة ليست جزءاً من مناطق الدّولة السّياديّة، إلا أنّ إسرائيل سيّرت غالبية القوانين الإسرائيليّة على المستوطنات والمستوطنين. ونتيجةً لذلك، يتمتّع المستوطنون بكلّ الحقوق المكفولة لمواطني الدّول الديمقراطيّة، على شاكلة مواطني دولة إسرائيل الّذين يسكنون في داخل حدود الخط الأخضر.
تتعامَل إسرائيل مع المناطق C على أنّها وُجدت لتخدم أغراضها فقط، وكأنّها تقع ضمن نطاق سيادّتها. إنّها تستغلّ هذه المناطق لأجل توسيع المستوطنات. وقد تضاعفت نسبة المستوطنين ثلاث مرّات وأكثر منذ توقيع اتفاقيّات أوسلو. يعيش اليوم آلاف المستوطنين الإسرائيليّين في أكثر من مئتي مستوطنة مرخّصة وغير مرخّصة في أنحاء الضّفّة، وجميعها أقيمت خلافاً لأحكام القانون الإنساني الدّولي، وجزء منها خلافاً حتّى للقانون الإسرائيليّ.
لأجل إقامة هذه المستوطنات جرى على مرّ السنين سلبُ مئات آلاف الدونمات، بما في ذلك أراضي مراعٍ وأراضيَ زراعية، لتُخصّص بكرَم للمستوطنات. لقد أُعلن جزء كبير من هذه المساحات "أراضي دولة"، وذلك استناداً إلى تأويل مشبوه للقانون وبتجاهُل لحقيقة أنّه في جميع الأحوال ـ يدور الحديث هنا عن أرضٍ عامّة ينبغي أنّ تخصّص لخدمة السّكّان الفلسطينيّين؛ وسُلبت أراضي أخرى بطريقة فرض الأمر الواقع وباستخدام العنف. جميع مناطق الاستيطان أُعلنت "مناطق عسكريّة مغلقة" يُمنع الفلسطينيون من دخولها من دون إذن مسبق.
سياسة التّخطيط والبناء في المستوطنات
بعد احتلال الضّفّة أصدر القائد العسكريّ أمراً صادَرَ عمليّة التّخطيط من أيدي الفلسطينيّين. ويسمح الأمر ذاته بعمل لجان التّخطيط في المستوطنات، فيما يحظى سكّانها – خلافاً للفلسطينيين – بتمثيل كامل في عمليّات التخطيط. حتّى أنّ الإدارة المدنيّة غيّرت لصالح المستوطنات غايات الأراضي الواردة في الخرائط الانتدابيّة: فبرغم أنّ الغالبية السّاحقة من المستوطنات في الضّفّة أقيمت على أراض مُعرّفة في هذه الخرائط بأنّها أراض زراعيّة، إلّا أنّ مؤسّسات التّخطيط التّابعة للإدارة المدنيّة صدّقت على مرّ السّنوات مئات الخرائط الهيكلية الجديدة، الّتي غيّرت غايات الأراضي وسمحت بتأسيس المستوطنات. وفي غالبية الحالات، جرى تصديق عمليّات البناء بأثر رجعيّ، أو وفق أوامر عسكريّة. وصدّقت الإدارة المدنيّة أيضاً إقامة مستوطنات صغيرة بلغ عدد سكانها عشرات أو مئات قليلة من السّكّان وقت تأسيسها، ومستوطنات تقع على بعد كيلومترات معدودة فقط عن مستوطنات قائمة. وفي عشرات الحالات صدّقت الإدارة المدنيّة البناء في مواقع أثريّة ومواقع طبيعيّة في نطاق المستوطنات، وبناء على المعلومات المتوفّرة لدى الإدارة المدنيّة، فقد جرى في قرابة 75% من المستوطنات بناء من دون التراخيص الملائمة.
وفيما أصدرت الإدارة المدنيّة بين السّنوات 2002-2010 ما لا يزيد عن 176 رخصة بناء للفلسطينيّين، جرى في تلك الفترة تشييد 15,000 وحدة سكنيّة على الأقلّ في المستوطنات، مع تراخيص أو بدونها. وفي مقابل التّخطيط الجزئيّ والمُقيّد في البلدات الفلسطينيّة في المنطقة C، فقد جُهّزت للمستوطنات الواقعة في نفس المنطقة خرائط هيكليّة عصريّة ومفصّلة، تشمل مساحات عامّة ومساحات خضراء، كما أنّ كثافة البناء فيها متدنيّة في حالات كثيرة. وخلافاً للخرائط الهيكليّة الّتي تحدّ وتحصر المساحة العمرانيّة في القرى الفلسطينيّة القليلة الّتي جُهّزت لها مثل هذه الخرائط، فإنّ مناطق نفوذ المستوطنات تمتدّ على مساحات شاسعة، تشمل المساحات الزراعيّة الّتي يمكن تطوير البلدة فوقها مستقبلاً، وذلك بما يخضع لتصديق الخرائط الهيكليّة.
ووفقاً لمعطيات الإدارة المدنيّة بخصوص السّنوات 2000-2012، فإنّ عدد أوامر الهدم وعدد عمليّات الهدم الّتي تمّت على أرض الواقع ضدّ بيوت تابعة لفلسطينيّين في المنطقة C، كانا أعلى بقرابة 3.5 أضعاف من عدد الأوامر وعمليّات الهدم ضدّ بيوت تابعة لمستوطنين، وذلك نسبة إلى عدد السّكّان.
إضافة إلى المستوطنات الّتي شُيدت بتصديق من الحكومة الإسرائيليّة والإدارة المدنيّة، أقيمت في منطقة C أكثر من 100 بؤرة استيطانيّة، من دون خرائط هيكليّة ومن دون قرار حكوميّ ومن دون تصديق من المستوى السّياسيّ. ومع ذلك، فإنّ إقامة جزء كبير من هذه البؤر تمّت بالتّنسيق مع جهات حكوميّة وأمنيّة مختلفة – بما فيها الإدارة المدنيّة – وبدعمها. وقد غضّت السّلطات الطّرف عن عدم قانونيّة البؤر الاستيطانيّة، ووصلتها بالبنى التّحتيّة المتقدّمة، ولم تسعَ في غالبية الحالات إلى هدمها.
قطاع غزّة
في عام 2005، أتمّت إسرائيل خطّة "الانفصال" عن قطاع غزّة: أخلت جميع المستوطنات، سحبت قوّات الجيش وأعلنت انتهاء الحكم العسكريّ. في أيلول 2007، في أعقاب سيطرة حماس على القطاع، أعلنته إسرائيل "كياناً معادياً"، لتصبح مكانة قطاع غزّة مشابهة لمكانة دولة معادية. وتتصوّر إسرائيل، وفقاً لذلك، أنّها في حِلّ من أيّ التزام أو مسؤوليّة تجاه السّكّان عدا أدنى الواجبات الإنسانيّة للحيلولة دون حدوث أزمة حادّة في القطاع.
لقد استغلّت إسرائيل سيطرتها على المعابر ففرضت حصاراً على قطاع غزّة قبل تسع سنوات تقريباً، في حزيران 2007؛ وما زال مستمراً حتّى اليوم. منذ فرض الحصار منعت وما زالت إسرائيل تمنع خروج السكّان من القطاع، سوى في حالات شاذّة. في سنوات الحصار الأولى منعت إسرائيل التّصدير من القطاع، وإدخال آلاف المُنتجات إليه، ضمنها أصناف غذائيّة كثيرة. اليوم، تمنع إسرائيل إدخال البضائع ذات "الاستخدام المزدوج"، وفق تعريف إسرائيل. ويُقصد بذلك أنّ هذه البضائع يمكن استخدامها لأغراض مدنيّة وعسكريّة في آنّ واحد. في هذا الإطار، فرضت قيوداً على إدخال مواد البناء كالإسمنت والحديد، والمواد الخام المستخدمة في صناعة الأثاث. أمّا التصدير فما زالت إسرائيل تمنعه منعاً شبه تامّ.
لقد تسبّب الحصار في انهيار اقتصاديّ في قطاع غزّة. لقد أُغلقت معظم المصانع ومئات المحالّ الخاصّة. وتتبدّى إسقاطات الحصار في انعدام الأمن الغذائيّ لشرائح واسعة من السكّان، وفي اعتماد واسع النّطاق على الإغاثة الإنسانيّة، كما في نسبة البطالة الّتي هي من الأعلى في العالم، وخاصّة في أوساط الجيل الشّابّ.
البنية التحتيّة والخدمات العامّة في قطاع غزّة في أسوأ حال: 95% من المياه المستخرَجة في قطاع غزّة ملوّثة وغير صالحة للشّرب؛ الكهرباء تصل إلى بيوت السكّان لساعات معدودة فقط في اليوم، ويعود ذلك في جزء منه إلى نقص الوقود. تقليص تزويد الكهرباء يؤثر على منظومتي المياه والصّرف الصحّي، من حيث يعتمد عملهما على توفّر كهرباء متواصلة. الخدمات الطبّية أصبحت في مستوىً لا يفي باحتياجات السكّان ولا يوفّر العلاجات اللازمة لهم.
منذ انفصال إسرائيل عن غزّة دارت ثلاث جولات قتاليّة على القطاع: عمليّة "الرصاص المصبوب"، الّتي انتهت في بداية 2009، عمليّة "عمود السّحاب" في تشرين الثاني 2012، وعمليّة "الجرف الصامد" في شهرَي تمّوز وآب 2014. لقد كانت الأضرار الّتي سبّبتها إسرائيل لقطاع غزّة في أثناء هذه الحملات العسكريّة ــــ وخاصّة في الأولى وفي الثّالثة ـــــ جسيمة؛ فعدا الأعداد الكبيرة من القتلى والجرحى، تسبّبت إسرائيل في أضرار كبيرة للمباني السكنيّة، للزراعة، وللبنى التحتيّة الكهربيّة والصحيّة والمائيّة ـ والتي كانت أصلاً على وشك الانهيار بسبب الحصار المستمرّ.
لقد حذّرت لجنة الأمم المتّحدة للتّجارة والتّنميّة من أنّه ما لم يطرأ تغيّر في المنحى الاقتصاديّ فسوف تصبح غزّة مع حلول عام 2020 مكاناً لا يصلح للسّكن. كان ذلك في تقرير عن الوضع في غزّة نشرته اللجنة في بداية أيلول 2015. تطرّق التّقرير إلى الإسقاطات النّاجمة عن ثماني سنوات من الحصار (حينئذٍ) وثلاث جولات قتاليّة، فنوّه إلى أنّ نسبة البطالة في القطاع قد بلغت الذروة 44%، وأنّ نسبة 72% من الأسَر قد فقدت الأمن الغذائيّ، وأنّ مؤشّرات النموّ الاقتصاديّ تدلّ على منحىً عكسيّ، وأنّ إعادة إعمار القطاع تسير بوتيرة أبطأ ممّا ينبغي ـــــ فحتّى اليوم لم تتمّ إعادة بناء سوى جزء ضئيل من المباني والبنى التّحتيّة الّتي جرى تهديمها ـــــ. وفي هذا الواقع، من الحيويّ حقّاً تواصُل الدّعم الماليّ للقطاع واستمرار عمل منظّمات الإغاثة، ولكنّ ذلك لا يسعه إعادة إعمار القطاع وتأهيله. ما لمْ يطرأ تحوُّل كبير في سياسات إسرائيل، يشير معدّو التّقرير إلى أنّ فرصة إعادة إعمار القطاع معدومة.
إسرائيل وانتهاك قرارات مجلس الأمن
كيف يمكن السماح لدولة تتجاهل باستمرار قرارات مجلس الأمن الدّولي بالدّخول من بوابات الأمم المتّحدة؟
حسب المشهد الأممي وأرشيف القرارات الدّولية المتعلّقة بالشعب العربيّ الفلسطينيّ وحقوقه المغتصبة، فإن هناك اليوم نحو 845 قراراً دولياً صادراً عن الأمم المتّحدة ومؤسساتها ولجانها المختلفة. غير أنّ كلّ هذه القرارات المُلزمة منها وغير المُلزمة أصبحت متراكمة مغبّرة على رفوف المنظّمة الدّوليّة، بعد أنّ رفضتها الدّولة العبريّة وضربت بها عرض الحائط، أو بعد أنّ استخدمت الولايات المتّحدة "فيتو" الظّلم والعربدة والطّغيان ضدّها.
يجب فتح ملف العلاقات بين "إسرائيل" والأمم المتّحدة، وعلى نحو أدقّ ملف السّياسات الإسرائيليّة الاحتقاريّة تجاه الأمم المتّحدة وقراراتها في القضية الفلسطينيّة.
"الوصايا العشر تقول لا تقتل"
وعلى رغم تلك القوانين الواضحة، فبأيّ دين أو أيّ نظام قانونيّ يمكن أنّ تبرّروا مجازر الأطفال الأبرياء؟
"ينبغي منع إسرائيل من دخول مقرّ الأمم المتّحدة بسبب تجاهلها دعوة مجلس الأمن لوقف إطلاق النار في غزّة"، "إسرائيل لا تلتزم بقرار الأمم المتّحدة المُلزم في ما يتعلق بوقف إطلاق النار هذه عادة لإسرائيل، فإسرائيل دولة لم تلتزم بمئات من قرارات الأمم المتّحدة في الماضي.
استهدفت إسرائيل الأمم المتّحدة في غزّة أثناء وجود (الأمين العام للأمم المتّحدة) بان كي مون في إسرائيل، ما يشكّل تحدّياً للعالم وسخرية منه".
ففي أقرب وأحدث مواقف لها ولقادّتها، وبينما زعم الجنرال باراك في لقاء مع جنود إسرائيليّين "أن إسرائيل تحترم الأمم المتّحدة" ــــــ "يديعوت" 13/01/2009، أعربت وزيرة الخارجيّة الإسرائيليّة تسيبي ليفني عن "رفض الحكومة الإسرائيليّة القاطع لقرار وقف إطلاق النّار الصّادر عن مجلس الأمن"، بل ودعت نظراءها العرب الّذين قالت إنهم "انتقلوا إلى العيش في نيويورك" إلى فهم أنّ القرار "لا يعني لإسرائيل شيئاً ــــــ وكالات، 12/01/2009".
وقبل ذلك كتب روني سفير في "يديعوت" 04/01/2009 أنّ "الحكومة الإسرائيليّة أعربت عن ارتياحها لحقيقة أنه لم يتخذ مجلس الأمن قراراً يتعلّق بما يجري في غزّة".
وقالت مصادر سياسيّة إسرائيليّة: "حتّى لو اتّخذ مجلس الأمن قراراً ضدّ إسرائيل، فإنه لا يجب الانفعال من ذلك، وبالتأكيد فإنّ الأمر لن يعيق العمليّة البريّة".
واللافت أنّ هذا الاستخفاف الإسرائيليّ بالأمم المتّحدة وقراراتها ليس جديداً أو عابراً أو لمرّة واحدة. فهناك تراث من الاحتقار الإسرائيليّ للأمم المتّحدة رغم أنّ كلّ قراراتها تجاه "إسرائيل" مع وقف التنفيذ.
فقد كان دافيد بن غوريون أوّل رئيس للحكومة الإسرائيليّة قد كنّاها – وصفها – باحتقار قائلاً:
"أوم شموم" (أوم – اختصار هيئة الأمم المتّحدة بالعبريّة، شموم – لا شيء). في حرب عام 1948 ــــ عن "معاريف" العبريّة 13/08/2006.
ويوثّق لنا اوري افنيري اليساري الإسرائيليّ المناهض للسّياسات الإجرامية الإسرائيليّة عن بن غوريون قائلاً: "لقد خرق بن غوريون آنذاك من دون تردّد قرارات وقف إطلاق النّار الّتي أصدرتها هيئة الأمم المتّحدة عندما كان الأمر مريحاً له (لقد شاركت – اي افنيري – كجنديّ في عدّة حملات كهذه). لقد خرق هو ومن خلفه، طيلة عشرات السّنوات، معظم القرارات المتعلّقة بنا، بادّعاء أنّ هناك أغلبية مسيطرة للكتلة السّوفياتيّة ودول العالم الثالث ضدّ إسرائيل".
ويأتي المحلّل الإسرائيليّ المعروف ألوف بن اليوم في ظلّ المحرقة الإسرائيليّة في غزّة ليتحدّث عن هذا التعاطي الاحتقاري الإسرائيليّ مع الأمم المتّحدة وقراراتها في "هآرتس"، 12/01/2009: "عندما اتّخذ مجلس الأمن خلافاً لرأي إسرائيل، القرار رقم 1860، والّذي دعا إلى وقف إطلاق النّار في غزّة، فمن الّذي أعلن أنه لن يقبل به ومضى في القتال؟ إنّها بالطبع إسرائيل"، ويشرح بن الخلفيات قائلاً :"لم تقرّر إسرائيل بعد إذا كانت ترغب في أنّ تصبح عضواً طبيعيّاً في المجتمع الدّوليّ، وأن تدفع ثمن هذه "الطّبيعيّة"، أو أن تظلّ وحيدة في الخارج، بدأت هذه الحيرة منذ قيام الدّولة تقريباً واستمرّت منذ ذلك الوقت، هنالك ميلٌ طبيعيّ لدى السّياسيّين الإسرائيليّين بأن يروا الأمم المتّحدة ومؤسساتها "صحراء"، كما كان قال دافيد بن غوريون، منظّمة معادية، تسيطر فيها غالبية معارضة لإسرائيل، حيث لا ينقذنا من أيدي هؤلاء سوى الفيتو الأميركي".
وأبعد من ذلك – ففي تعقيبه على قرارات للجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة اتخذت في نهاية نوفمبر 2006، قال نائب المدير العام للمنظّمات الدّوليّة في وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، روني لاشنو – ياعر، إنّ هذه القرارات هي "نكتة"… وبرأيه: "الأمم المتّحدة تعتبر أنّ تلك القرارات "تقليديّة"، ويزيد: "لا تحمل الإدانة أيّ معانٍ خاصّة، فتلك قرارات متكرّرة تتخذ كلّ عدّة سنوات"، ويشرح: "قد يكون هناك من تفاجأ، ولكنّ القرارات أصبحت تقليداً، فقد حدث السّنة الماضية وقبل 20 عاماً وقبل 30 عاماً". ويلخّص: "لا جديد تحت الشمس".
وفي الختام نقول كلّما سمح العالم باستمرار هذا الواقع ازداد سوءاً. إنّ الوضع الرّاهن صعب، ولكنّ تقديراً واقعيّاً للموقف يجب أنّ يأخذ بالحسبان الاحتمالات المستقبليّة المتوقّعة. هل في في الأعوام المقبلة ستبقى هنالك تجمّعات سكّانيّة فلسطينيّة في منطقة الأغوار؟ كيف ستكون حالة الاقتصاد الفلسطينيّ المشلول؟ كم حيّاً فلسطينيّاً سيجرى فصله عن القدس الشرقيّة؟ وكيف ستكون حياة ملايين الفلسطينيّين في قطاع غزّة؟