منذُ أسطورة "قايين وهابيل" والعالم لا يعرف إلاّ الصراع أو العنف الذي بدأ بين الأخوين، ونما وتوسّع في تجمعات كالأسر والقبائل والمدن والدّول والدّول القوميّة وسواها فإلى التحالفات والمعسكرات المؤدلجة.
كل ذلك كان فيه المحور هو الإقتصاد اللاعب الأكبر الذي يتجسّد بمبدأ المنفعة والمصلحة الذي يستلزم النفوذ والهيمنة والسيطرة والإستعمار والإمبريالية.
القوميّة زنبرك القرن:
كان على الصعيد الأوراسي والإفريقي في ذلك العصر عدّة أمبراطوريّات: البريطانية – الفرنسية – الألمانية – النمساوية – المجريّة – الإيطالية – الروسية والعثمانية، والتنافس فيما بينهما كان على أشدّه سيّما بعد الثورة الصناعية التي زلزلت طبيعة الأسواق كما طوّرت تقنيّة الأسلحة وقوّت قدرتها الناريّة وكذلك غيّرت منهجيّة القتال. وبما أن في قانون الصراع أو الحرب يسيطر مبدأ البقاء للأقوى فإنّ الإنتصارات العسكرية يفرضها ليسَ السلاح فحسب بل الجُنْدُ والقيّمون عليهم من قادة عباقرة.
والحرب غالباً ما تكون بين قادة عسكريين وسياسيين يعرفون بعضهم البعض. أمّا الجنود فهم يتحرّكون –معظم الأحيان– كالبيادق بل كالقطعان البشريّة ولا يدرون من الأمر إلاّ القليل الذي لا يكون عادةً سوى الخطاب السياسي الذي قد لا يفهمه معظمهم… وواحدهم ما رأى سابقاً الذي عليه قتله في المواجهة.
والدولة والقوميّة منها بشكل خاص يقودها صنفان متوائمان غالباً هم الساسة ورجال الأعمال… والمقودون دائماً العسكر حسب سلمهم التراتبيّة.
أرضيّة الحرب جاهزة واشتعالها رهن شرارة:
الدّول كالشركات ترصد بعضها البعض ليلتهم كبيرها الصّغير في الوقت المناسب وهذا ما يدفع الدول إلى التحالف مع دول أخرى لتحمي نفسها من جهة وتقتسم الغنائم مع الأقوى من جهة ثانية.
ناهيكَ عن بؤر حربٍ سابقة ينتظر الحاكمون حلّها في الوقت المناسب كمقاطعتي الألزاس واللورين اللتين ضمتهما ألمانيا من فرنسا عام 1870 بعد معركة سدان الشهيرة، فلهذا هناك إتفاق دفاعي بين فرنسا وبين روسيا وبين اليابان وأنكلترا منذ 1902 فالمطلوب إذن توزيع القوة الروسية بين الشرق الأقصى والغرب الأوروبي كتحرير ضفاف المانيا في عزّ توسّعها وتريده أكثر فأكثر فيثير أزمة طنجة عام 1905 وأغادير عام 1911.
أضف إلى ذلك تحضير خطط حربيّة للمستقبل من جانب القيادات العسكرية العليا لمهاجمة مجاوريها أو منافسيها.
الثورة الصناعية تدفع العلم والتكنولوجيا في أوروبا إلى الأمام. وألمانيا في مجال العلوم تفوز بحصة الأسد من جوائز نوبل تتجاوز جارتها اللدودة فرنسا بمسافة بعيدة ساطعة والتفوّق الألماني بدا بارزاً للعيان فالجميع يرصدون النّمر الإقتصادي الألماني الذي ضاقت عليه ألمانيا الدّول الأوروبيّة بإمتياز تتربّص بعضها البعض، والأقوى يسنّ نواجذه لإفتراس الأضعف منه حالما تسمح الظروف بذلك. كذلك هناك موضوع الخلاف بين الأمبراطورية النمساوية والأمبراطوريّة الروسيّة بخصوص البلقان المتصلة بالمسألة الشرقية، فروسيا حامية السّلاف العرقيّة والدينية (الأرثوذكسية ديانتهما المشتركة) تبحث عن مدّ نفوذها هناك نحو المتوسط.
الأمبراطورية النمساوية تحوي أقليّات قوية من السّلاف تريد أن تكسّر القوميات المدعومة من الخارج من قبل صربيا منذ وصول الملك بطرس الأول 1903.
الأزمة التي أحدثتها ثورة تركيا الفتاة في الأمبراطورية العثمانية عام 1908 كانت الفرصة للأمبراطورية النمساوية المجرية لضم البوسنة والهرسك بالقوّة وبالنسبة لبلغاريا فرصة لإعلان لإستقلالها.
حروب البلقان 1912 – 1913 جزّأت تركيا الأوروبية وكبّرت بشكلٍ بارز صربيـا (معاهـدة بوخارست عـام 1913).
النمسا أرادت الحسم مع معقل السّلافية في صربيا وذلك بالتنسيق مع ألمانيا إثر دخول القوات الألمانية، هدّدت فرنسا ألمانيا باللجوء إلى القوّة ولكن في نهاية الأمر اضطرّت فرنسا التنازل عن جزء من مستعمرة الكونغو لألمانيا مقابل إطلاق أيديها في المغرب الأقصى طنجة وأغادير وهذا ما كان. وهذا ما يندرج في مبدأ "إعطني أعطك"… و"دعني أدعك حسب المُتفق عليه" أي التراضي الذي عليه ميزان توازن القوى.
الشّـرارة:
لم يكن ينتظر إشغال هذا الغاب الواسع من المتناقضات سوى شرارة، فكان إغتيال ولي عهد أمبراطور النمسا–المجر فرنسوا فرديناند في سراييفو عاصمة البوسنة والهرسك من قبل صربيّ قومي متطرّف فاشتعل العالم القديم وتمخّضت عنه نتائج خطيرة جديدة بالنسبة للعالم القادم والعالم الذي يقدم بعده.
فبريطانيا سارعت لإحتلال قبرص وحشدت قواتٍ لحماية قناة السويس وأنزلت قوّات في جنوب العراق، وأقنع ثعلبها الشهير لورنس شريف مكّة بالدّهاء والرياء إلى المشاركة فيها في الوقت الذي كان مشروع سايكس-بيكو يرسم معالم تقسيم المدى العربي سيما الشرقي منه بينَ فرنسا وأنكلترا وروسيا عام 1916، وهنا تنتصب أمامنا علامة إستفهام عالية كالمئذنة؛ لماذا إذاً دائماً الحرب؟
يعطينا الجواب بكل بساطة كلاووزفيتز المنظّر العسكري الألماني الشهير: "لأنّها إمتدادٌ للسياسة بوسائل أخرى يقصد منهُ الخضوع لإرادتنا"، أو تُفْهَم بشكل عام بأنها ظاهرة إستخدام العنف والأكراه كوسيلةٍ لحماية مصالح أو لتوسيع نفوذ أو لحسم خلاف حول مصالح أو مطالب متعارضة بين جماعتين من البشر.
الحرب التي أرادوها نزهة تحولت إلى مجازر جيل:
كل امبراطورية أو دولة تصوّرت الحرب العظمى التي غدت عالمية – ميداناً لتوسّعها الاقتصادي والحدودي والعسكري فكان الجندي بإتجاهه إلى الجبهة تودّعهُ حبيبتهُ كأنّهُ ذاهبٌ من عرسهِ الذي لم يتم بعد إلى عرسهِ الوطني أو القومي الآخر الذي في دور الإتمام.
فالقادةُ والصحافيون والسياسيون مغنطوا الناس سيما السّذج منهم فأعطوهم الإنطباع العابق بالنصر السريع والغنائم السريعة وهذا ما ثبتَ بطلانه بل العكسُ تماماً، وهناكَ دول في حلفٍ تريثت طويلاً إلى حدّ السنة قبل دخولها الحرب لأنَّ لكلِّ دولةٍ حساباتها الخاصة تريدُ "المغامرة المضمونة" النتائج لأنَّ الحرب تستلزم المال والرجال والخراب فالتدمير أسهل بكثير من التعمير والإبن الذي تربيه والدته كي يغدو رجلاً يستوجب عقدين من الزمن بينما رصاصةٌ واحدة تختطف روحهُ في ثانية.
في هذه الحرب المتميّزة، فرنسا تحديداً، كان عدد الأساتذة والطلبة والأطباء والمهندسين والفنانيين والكتّاب الذين شاركوا فيها قد استشهدوا بالمئات بلْ بالآلاف.
في حربٍ كهذه ِتسودُ المكيافلية بإمتياز، فالوسيلةُ تبررّها الغاية إذ المهمّ والمهمُّ فقط هو كسب الحرب كيفما اتفق فلذلك لأول مرة ٍانقصفَ المدنيون من السماء كما استخدمت الأسلحة الكيماوية وسواها التي مُنِعتْ فيما بعد بقوانين دوليّة، كذلك سقطَ الحياد المعترف بهِ دوليّاً تحتَ الجزمات، فألمانيا ضربت حياد بلجيكا بعرض الحائط لتسريع اجتياحها لفرنسا، وظهرت حرب الخنادق التي يصبحُ فيها التقدم مسألةً صعبة، فاستمرت المعارك أربع سنينٍ ونيف، ففي منطقة فردان تساقط مئات الآلاف من الألمان والفرنسيين (الألمان تكبدوا 240.000 قتيل وجريح، والفرنسيون 275.000) وبنيت مَستودعات هرمية هائلة لاحتواء عظم مئات الآلاف من الضحايا.
كان هناك نوع من التوازن العددي من حيث الدول، فهناك الوفاق الثلاثي والحلف الثلاثي الأول يشمل: روسيا وفرنسا وبريطانيا والثاني: النمسا–المجر وألمانيا وإيطاليا.
لقد أدّت هذه التحركات إلى تمديد سنوات الخدمة العسكرية وزيادة عدد القوات المسلحة في كلٍّ من ألمانيا وفرنسا وروسيا… علماً أنَّ هذا النهج قد بدأ مع الثورة الفرنسية عام 1789.
الولايات المتحدة كانت معزولةً عزلاً ذاتياً إراديّاً وراء البحار لا تريد الحروب. الدولة العثمانية عدوّ روسيا الأول تأخرت كثيراً فدخلت الحرب في 29/10/1914 بقصفها الموانيء الروسية على البحر الأسود.
أعلنت اليابان الحرب على ألمانيا في آخر آب 1914، وطردت الألمان من عدة جزر من المحيط الهادىء واستفادت أوستراليا ونيوزيلندا من الفرصة فاحتلتا مستعمراتٍ ألمانية مجاورة وذلك لأنَّ الخطوط اللوجستية غدت طويلة على ألمانيا في الوقت الذي تحتاجُ فيهِ إلى جنودها في جبهاتها القريبة والمباشرة.
إيطاليا بقيت خارج جهنم الحرب طيلة عام 1914.
الروس في بعض إنتصاراتهم على الألمان تكلّفوا 325.000 أسير مما منعَ الجيش الروسي من استرداد قوته.
اثناء القتال بدأت تتوالى الإختراعات فظهرت الدبابة والغواصة "الألمانية" التي أرادت أن تصدّعَ سيطرة بريطانيا على البحار.
هزيمة الإسلام في إسلام ضدّ إسلام:
معروف عن الإنجليز أنّهم شياطين الدبلوماسية وثعالب السياسة، ولولا ذلك لما كانت الجزيرة البريطانية المحدودة سيطرت على المحيطات وحكمت يابسة أوسع منها وأكثر سكاناً أضعافاً مضاعفة. فمن هنا، ارتأت كسر الجناح الغربي للنسر الألماني في المدى المشرقيّ العربيّ فدخلت في مفاوضات سرّية عبر مراسلات حسين–مكماهون التي كان يكتب فيها الثاني بإنجليزية عربية بينما الأول بعربيّة إنجليزية خادعة غامضة كان بيت القصيد فيها: اتركوا الأتراك وحاربوا معنا وخذوا منّا دولة عربية كبرى تشمل مختلف أرجاء الوطن العربي بإستثناء مصر والشمال الإفريقي. لقد كان الاختلاف بيّيناً حول حدود الدولة العربية الموعودة… ولكنّ العرب بلعوا الطعم رغم فضح الأمير شكيب أرسلان للمخطّط الغربي آنذاك وتنبيهه المتكرّر. أضف إلى ذلك كان هناك دور بريطاني موازياً في نفس الوقت تقريباً يتجسّد في وعد ٍبإنشاء كيان قومي لليهود. والإنجليز لم يعترفوا بملكيّة الشريف حسين إلاّ على الحجاز وشرق الأردن. وبعد تمليك الملك فيصل على سـوريّة الدّاخلة في إتفاقية سايكس–بيكو في حصّة فرنسا هاجمت فرنسا الجيش السّوري الناشىء في معركة ميسلون وسحقته، وبعد ذلك أرضت الملك فيصل الأول بتمليكه على العراق تعويضاً عن سوريّة.
حصلت تطوّرات، فقد عُيّن الملك الشريف حسين ملكاً في الجزيرة العربيّة ونصّبَ الأنجليز إبنهُ عبدالله إميراً على شرقي الأردن الذي غدا ملكاً فيما بعد.
نظراً لنجاح هذه الخطّة الرهيبة، أعاد الفرنسيّون لعب نفس الدور بشكل آخر كي لا يدخل الأتراك في جانب الألمان في الحرب الكونية الثانية فأقطعوهم لواء اسكندرون مقابل ذلك.
وهكذا أصبحت تركية مبتورة عن البلقان وبلاد المسلمين العرب وجهها تجاه أوروبا التي لا تريدها وتجاه المسلمين الذين أنهت خلافتهم عام 1923 وغدا العداء متبادلاً بين الطّرفين فهي محاصرة من الغرب والشريف.
نتـائج الحـرب:
الحرب العالمية الأولى كانت أُمّ الحرب العالميّة الثانية وقابلتها، فالحروب لا تحسم دائماً المسائل المعلّقة للأبد فأقوى اليوم ليسَ بالضرورة أقوى الغد وروح الشعوب الحيّة قد تخسر معركةً أو حرباً ولكن لا يمكن أن تستمر مهزومة للأبد فهي تتمسكن حتى تتمكّن من جديد وتعود إليها الراية من جديد كما جرى لألمانيا على سبيل المثال التي خسرت الحرب وأذلّوها بمعاهدات وشروط يصعب على السلطة تنفيذها على المدى البعيد ولئنْ نقّذت على المدى القريب.
وهكذا تراها قد فرّخت النازية التي أذهلت العالم إذ فعلت في ست سنوات 1933 – 1938 ما لا تفعله أمم في عقودٍ وقرون، إلاّ انها خسرت الحرب الكونية الثانية بعد أن أربكت العالم الأوروبي ودمّرت فيه الأخضر واليابس والبشر غير أنها عادت من جديد هذه المرّة ولكن على ريح سلاح الإقتصاد الذي هو الوسيلة والغاية، فأصبحت الدولة السادسة بين أعضاء مجلس الأمن الدولي والقوة الثانية بعد الولايات المتحدة في الغرب وأوروبا التي لم تستطع توحيدها بالقوّة المعرّاة وحّدتها بالإقتصاد. ففرانكفورت غدت عاصمة للإتحاد الأوروبي السائر نحو الأمام. وما الفضل في ذلك إلاّ للعملاقين أدينار الألماني وديغول الفرنسي اللذين فهما التاريخ واستشرفا المستقبل بعد أن أيقنا أنّ السّلاح وحده لا يمكن أن يوحد أوروبا بل الإقتصاد وحده.
من نتائج الحرب:
– عادت الألزاس واللورين إلى فرنسا بعد أن ضمّتهما ألمانيا إثر هزيمة فرنسا في معركة سيدان 1870.
– سقط النظام القيصري في روسيا وسيطرت البلشفيّة فيها وخرجت موسكو من الحرب بعد أن وقّعت معاهدة لتوفسك مع المانيا.
– انتصر الدولار الأمريكي الذي وظّف الكثير وأصرّ على استرداده كما اصرَّ على توسيع أسواقه المزدهرة في اوروبا المدمّرة، كذلك قالت أمريكا كلمتها في أنّهُ لا يحلمنَّ أحد بالسيطرة على أوروبا أو العالم طالما هي موجودة في العالم وهذا ما برهنه التاريخ.
– ظهرت الفاشيّة وسقطت فيما بعد في الحرب العالمية الثانية.
– تراجعَ الدّور الرائد لأوروبا بقيادة العالم إلى حدٍّ كبير.
– اختفت الأمبراطورية النمساوية–المجريّة من الخارطة والعودة إلى دولتين من الدرجة العشرين أو ما شابه.
– كلّفت الساعة في الحرب بمقاييس ذلك الزّمان عشرة ملايين دولار ومئات المليارات من الدولارات والخسائر وأكثر منها للعودة إلى إعادة البناء.
– كلّفت الحرب عشرة ملايين قتيل وواحد وعشرين مليون جريح وثلاثة ملايين أصحاب عاهات دائمة عدا الملايين التي فتكت بها الأمراض والجراد والمجاعات.
– إقتُطعت 25.000 ميل مربع من ألمانيا وضُمّت إلى بولندا والدنمارك (مستحيل جرد كلّ شيء في هذه العجالة).
أمريكا أجهضت انتصار المانيا وعادت إلى جزيرتها:
وافقت أوروبا برؤساء وفودها المشاركة في مؤتمر الصلح بالإجماع على قيام منظمة "عصبة الأمم"، وأقرّت أن تكون جنيف مقرّها، إلأّ أنّهُ لم يكن مخططاً منذُ إنشائها قيامُ أيةِ قوّةٍ عسكريةٍ قادرةٍ على تنفيذ ِمقرّراتها، فكانت في الواقع أداة مصالح المنتصرين وهذا ما دفع امريكا إلى عدم المشاركة في عضويتها رغم أنها صاحبة الفكرة.
تطاحن الحيتان الكبار: التاريخ في مصلحة الجغرافيا والجغرافيا في مصلحة التاريخ:
لقد كانت الحرب الكونيّة الثانية وليدة الأولى اخطر وأعنف وأكلف على العالم استخدمت فيها الأسلحة الذريّة وغدا يسيطر على العالم قطبان فقط: السوفياتي والأمريكي. إلا أنَّ الحرب استمرّت إنّما عن طريق دول وسيطة ككوريا وفيتنام واليونان وخيّم على العالم "الحرب الباردة" لأنَّ مخزون الحرب الساخنة بإمكانهِ تدمير العالم عدة مرات. فلذلك مدَّ الخط الأحمر بين موسكو وواشنطن كي لا تنفجر الحرب فجأةً نتيجة خطأ عارض.
أمّا في بلدان العالم الثالث كأفريقيا وآسيا العربية فالحروب شبه متواصلة.
إنَّ الولايات المتحدة الأمريكية كلّما بدت عليها معالم الضعف الإقتصادي كونها أكبر بلدٍ مدين في العالم، كلّما تلجأ إلى قوتها العسكرية الأولى في العالم لتكبحَ التطور الذي ليس في مصلحتها وتوجّههُ كما يناسبها.
والبدعة الأخيرة للمحافظين الجدد كانت بشنّ حربين كبيرتين في العالم بأفغانستان والعراق وذلك باختراع الأرهاب وصياغة قانون الحرب على الأرهاب. هاتان الحربان اللتان أنهكتا امريكا وكرّهت العالم بها دفعت غرفتها الشيطانية القياديّة الخفية على إطلاق رئيسٍ أسود علّهُ ينقذها بشكلٍ من الأشكال من محنتها السوداء التي لن تمحى في القريب العاجل، مما دفعَ القيادة الأمريكية (حفاظاً على حياة الإنسان الأمريكي) من الإعتماد على الآلة التي تقتل الإنسان كالطائرة دون طيّار لتوفير الإنسان الذي أخذَ يتململ منها لا بلْ يثور.
إنَّ أمريكا وليدة الحروب بحاجةٍ دائماً إلى حروب وتاريخها يشهدُ على ذلك فهي تعتبر أكبر مصدرٍ للسلاح في العالم ولديها الأساطيل في المحيطات ومئة وسبع وخمسين قاعدة عسكرية موزّعة على العالم وتعتمد أكبر ميزانية عسكريّة بينَ الدّول تقفُ وراءها بعيداً بعيداً ميزانيةُ أية دولة ثانية أخرى.
إنَّ الدّول لا تبني سياستها على أساس الأخلاق بلْ على أساس الأرقام وما يردّد في الإعلام والدساتير والمواثيق ليسَ سوى حبرٍ على ورق وكمائن للتعمية ولاصطياد البشر.
إنَّ الحروب احياناً تستخدم لتخفيف الضغط السكاني فتلطقت الأنظمةُ أنفاسها بعدَ هدرها للآلاف والكرّات لا بلْ للملايين.
كيف ننقذ البشريّة من الحروب حسب منطق جبران ونعيمة؟
لقـد ردّد الناس بعد الويلات الرّهيبة التي عرفـوها في الحرب العالميّة الأولـى "أبداً لـن يعـود هـذا" Plus Jamais ça " " لكنّ الواقع كذّب هذا الشعار الصّارخ، فالحرب العالميّة الثانية كانت أكثر دماءً ودماراً وخراباً وأشدّ إيلاماً تتوّجت همجيّتها غير المحدودة باستخدام القنبلة الذريّة ذات التدمير غير المحدود، وتواصلت مئات الحروب المحلّية والإقليميّة الأوروبيّـة (حرب السويس 1956)، والحروب بالوكالـة وعبـر المحيطات (حرب مالوين بين بريطانيا والأرجنتين)، وتدخّلات الدول الكبرى والعظمى في الحروب حيث المواد الأوليّة فسقطت سقوطاً مدويّاً فكرة الإنسان صورة الله على الأرض والغاية الأسمى لأيّ عمل في الوجود وغدت مدعاة للسّخرية من قِبَل الأقوياء على إختلاف درجاتهم، وأحلام طاغور وتولستوي وسواهم بمستقبل البشر أثارت الإستهجان والإستغراب.
يقول جبران "ليس بمقدور المرء أن يتنفّس دون أن يحسّ بطعم الدّم.. لكن هذه الحرب ستقرّر مصير الجنس البشري لمئة سنة على الأقل وأنا واثق من أنّها ستعطي العالم رؤيا للحياة أفضل وأصفى."
إنّ القسم الأول من الفقرة يعكس حالة الشاعر جبران خليل جبران الوجدانية وهو صحيح.
أمّا توقّعاته في القسم الثاني فتعود إلى خياله وتمنّيه لا إلى الواقع الذي لا يدركه بالشكل الكافي فالتاريخ لا ينتهي كما الظلم والاستغلال بخطشة قلم.
جبران في تفاؤله (الخادع) في مكانٍ آخر يقول:
"إنّ الذين يعملون من أجل سلام دائم على الأرض لا يختلفون عن الشعراء الشباب الذين يأملون في ربيع دائم."
"إنّ هذه الحرب لم يكن منها بُـدّ كما الأيام والليالي لا بُـدَّ منها لم تشعلها أيّة بلاد من البلدان، الله هو الذي اشعلها"
"علينا تهيئة عقل الإسلام في حال كسب الحلفاء الحرب لإدراك أن النصر ليس قهراً للإسلام وإنّما هو تحرير له وتقديم فرصة له."
"هذه الحرب كان لا بُـدَّ منها" لا نخالفه في هذا الإفتراض الملموس بل "الله هو الذي أشعلها" يبقى في مجال المجاز المجنّح الذي يطلقه خيال شاعرنا الخصب.
إنَّ جبران يوحّد المستبدّين في منطق الدُول عندما تكون المصالح مسألة وجود فيضع انكلترا "أشد البلدان عدالة" في داخل جزيرتها مع تركيّا أشرسهم عنفاً فيقول:
"إنَّ حوادث الإعدام التي نفّذتها انكلترا في ثوار ايرلنده في تلك الأيام قد شجعت تركيا على القيام بعمل الشيء ذاته فقتلت الأطباء والقضاة والمحامين وأصحاب المصارف والأساتذة ورجال الدين والكتّاب والشعراء والفلاسفة والحكام والأمراء كما شنقت الأحرار في سوريّا ولبنان…"
إذ بعدما قامت انكلترا وهي أشدّ البلدان عدالة بإعدام الثوار فلماذا لا تفعل تركيا الشيء نفسه؟…
إنّه يدين كذلك شعراء إنكلترا "الذين لم يُعطوا قطّ مجالاً لأن يخدموا وطنهم كما يخدم شعراء الأقطار الأخرى أوطانهم." وهنا يغرز الإسفين أكثر في قلب بريطانيا فيصرخ بعنفوان: "على إنكلترا أن تموت قبل ان تتمكّن من أن نحيا خارج المحارة."
إنّ جبران في هذه التعبيرات الفائرات من القلب يبدو الشاعر الحقيقي المدافع في المطلق عن الإنسان الحقيقي خارج المصالح والمراءاة والدّجل.. إنّه محكمة لاهاي مبكّرة مجهولة في أمريكا برجل واحد أمام جبروت الظّلم.
يعرض جبران لوحة دراماتيكية أخرى من الوضع العربي فيقول "كان السوريون في فلسطين يتضوّرون جوعاً فأنقضَّ اليهود والأثرياء من إنكلترا وفرنسا وشرعوا يشترون أراضي القوم المتضوّرين جوعاً، كانوا يحصلون على أراضٍ ثمنها أربعون الفاً بمقدار خمسمئة."
ويقول في مكان آخر كالضوء السّاطع:
"أنا أعتقد أنّ اليهودية ستزول عن وجه البسيطة كلها فسيدرك اليهود انّه إذا شاؤوا أن يقبل بهم الآخرون فإنّ عليهم ان يتشتّتوا ويتفرّقوا بين الشعوب الأخرى ويبطلوا شعباً له خصائص فارقة."
رأي جبران بالثورة العربية ولبنان:
يقول بانتشاء "إنّ الثورة العربيّة هي حقاً أمر مدهش لا يعرف أحد خارج البلاد العربية إلى أي حدّ قد نجحت وأي شوطٍ ستصل، لكن حصول الحركة هو أمر عظيم جبّار، أمرٌ حلمتُ به وعملتُ لأجله خلال السنوات العشر الأخيرة. إذا حصل العرب على عونٍ من الحلفاء فإنّهم لن يخلقوا مملكةً فحسب بل إنّهم سيقدّمون شيئاً للعالم. أنا أعرف الحقيقة التي تجثم في النفس العربية. إنّ العرب ليس بمقدورهم أن ينظّموا بدون عون أوروبا، إنّ للعرب رؤيا للحياة لا يمتلكها أي شعب آخر."
في هذه الرؤيا الرائعة ينتصب أمامه العرب بطاقاتهم الخلاّقة عبر الماضي والحاضر والمستقبل، فكأنّه هو روحهم المتحركة الوثّابة التي لا تحكم إلاّ بالتحرّر والإنطلاق الذي سيدهش العالم.
أمّا عن لبنان الذي يصفه بمكان آخر بالجبل الأسود في "يوغوسلافيا" "المونتنغرو" فهو لن يقهر.
"إنني سوري أو بالأحرى لبناني ولبنان خلاّق، مدهش، ولا أشعر بأنّ الدول الكبرى ستصرّ على نواله الحرّية"… أشعر أنه سيضحّى به في سبيل رفاهية الدول الكبرى. هذا هو القلق الذي يعطيني صراعاً روحيّاً طيلة الوقت. لقد كان نبيّاً جبران بالفعل في هذا الصدَّد وما تزال تنسحب نبؤته حتى يومنا هذا وإلى أجل غير معروف ولكلام ٍكهذا كافأه الأتراك بإطلاق النار عليه في باريس.
كيف يرى نعيمة المدنيّة الغربيّة وكيف يرى الخلاص؟
لا أزال أعتقد أن المدنيّة الغربية قد أوشكت على نهايتها، في الوقت الحاضر اخذت عناصر تتجمع لخلق مدنية جديدة، وخلق المدنيّة لا يتمّ كولادة طفل في ساعات أو ايّام فهذا قد يستغرق مائة سنة أو أكثر.
علامات هذه الحضارة الجديدة هي القلق الهائل في العالم كله، وهذا الانسياق في ركاب التسلّح، والذّعر من حربٍ طاغية… يكفي أن تبلغ المدنيّة يوماً تخشى فيه من الأنهيار لتعرف أنها بلغت نهاية شيخوختها وأنّها تحيا بعقلها وقلبها يكاد يكون لا وجود له. مدنيّة تصنع الصواريخ ولا تعرف نتيجتها، مدنية تخلق وتخاف وتخشى صنع يديها وهذا يعني أن زمام أمرها أفلت من يدها. لقد تضخّم عقلها كثيراً على حساب قلبها، عقلها ينتج الصواريخ والأقمار الصّناعية وقلبها ينتج البغض والكراهية والقلق والذّعر….
(يكون) الخلاص أن نوجد توازناً بين العقل والقلب ندرب القلب على الصلاح والصفاء والمحبّة، مثلما ندرّب العقل على ارتياد الفضاء الأوسع وأن نتخلّص من مفاهيم كثيرة بالية مثل مفاهيم الحدود الجغرافية والحواجز واللون والدين واللغة وما أشبه.
إن لم نصل إلى عالم واحد فمصيرنا الهلاك….
الفكر البشريّ محا كلّ الحدود مع وجود الراديو والتلفزيون والسينما والطائرة والصاروخ والأقمار الصناعية أصبحت الحدود اشياءً وهمّية، فنحن اليوم نتناول أفكاراً من كل اقطار الأرض مثلما نتناول غذاءنا وكساءنا. فماذا يبقى لك من حدود وأنت تجتازها في كلّ دقيقة من وجودك؟ إنّها أوهام لا أكثر ودفاعنا عنها إنّما هو دفاع عن وهم، وهذا الوهم هو الذي يجعل الناس يتسلّحون وينفقون جلّ تعبهم ودخلهم لإقتناء سلاح قد يضطرّون غداً إلى حرقه أو طرحه في البحر… إنّ لم يكن هذا جنوناً فما هو الجنون أذن؟
2014 هل تكون قابلة لنظام عالمي إنسانيّ جديد بعكس سابقاتها؟:
في التحليل السياسي لا يدخل عامل إرادة الباحث بل الواقع الموضوعي كما هو منعزلاً عنه. فإذا نظرنا إلى البانوراما العالميّة، نرى بأنّ الإنسان هو الإنسان والدول هي الدّول والمصالح هي المصالح. هناك مشاريع حروب تحت الرّماد مُجمّدة كبيرة بين الكبار بالذّات:
1. مشروع حرب بين روسيا واليابان بسبب الجزر اليابانية التي احتلها الجيش الأحمر ولم ينجلِ عنها حتّى الآن.
2. مشروع حرب بين اليابان والصّين بسبب التنازع على جزر في المحيط الهادئ.
3. مشروع حرب بين الهند والصين بسبب الأراضي المتنازع عليها على الحدود والتي انفجرت سابقاً وبُرِّدَتْ.
4. مشروع حرب بين الهند وباكستان بسبب كشمير.
5. مشروع حرب بين روسيا والصين بسبب التنازع على مناطق حدوديّة كبيرة الذي التهب في الماضي القريب وهدَّأوه.
هذا غيض من فيض. أمّا على مستوى الدول الأخرى فهناك حروب سائرة مستمرّة وهناك حروب قابلة للتحريك يحرّكها تجّار الأسلحة الكبّار عندما يتدنّى إنتاج السّلاح ويزداد عدد العاطلين عن العمل.
ومجلس الأمن الذي يتوقف على سياسته مصائر الشعوب لا يبشّر بالخير طالما أعضاؤه لم يجمعهم الإنسان الإنسان لا دافع المصلحة الذي يفرض النفاق بجميع أشكاله وألوانه.
هناك تحرّكات على مستوى قطاعات من الشعوب لغسل الأدمغة وتعرية النفوس وتطهير الأيدي ولكنّها كقطرات ماء متفرّقة لا يمكن أن تروي الربع الخالي لتجعل منهُ جنّة الله على الأرض.
*مدير مكتبة الأمير شكيب أرسلان الدوليّة في مدينة الشويفات.
1914 قابلة الحرب التي لم تلد نظاماً عالميّاً إنسانيّاً
115
المقالة السابقة