إن مقاربة الواقع الثقافي لأي مجموعة بشرية يقتضي بالضرورة متابعة تلك المجموعة عبر تاريخها أولاً؛ ومن ثم الأخذ بالاعتبار المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والجغرافية، وطبيعة النظام السياسي، والتعليم والقضاء إلى غير ذلك، مما تستند إليه حياة الفرد في الجماعة.
إن تحول الإنسان من كائن بيولوجي إلى كائن معرفي، لا يتحقق ما لم يتوفر له المناخ المناسب؛ والذي يحتاج إلى معطيات متداخلة، ومترابطة، ليكون. وقد توفر للسوريين ما لم يتوفر لكثير سواهم من سكان الأرض، عبر تاريخها، فالبعد التاريخي للإنسان السوري، والذي يمكن اعتباره الأس الذي يرتكز عليه وجوده، والموقع الجغرافي، قد ساهما إلى حد بعيد في تشكيل هوية ثقافية، ذات بعد إنساني، استندت إليه غالبية الحضارات التي قامت، والتي كان التعايش أحد سماتها، وقد استمرت بذلك حتى العصر الحديث، حيث أخذت تتبلور تلك المعطيات، وتؤسس لوجودها المستقبلي، الذي بدأت معالمه تأخذ شكلها في الأدب والفن؛ فأبدع الأديب السوري، وانتشرت الدراما السورية، وأخذت موقعها المتقدم على الشاشة الفضية، وكان للفنانين التشكيليين تميزهم الملحوظ، واحتضنت المهرجانات الأصوات الأدبية، في الشعر والقصة، وقد ساهم دخول الأنترنت إلى حياة السوريين بنقلة نوعية على المستوى المعرفي، إلا أن معوقات التنمية، هي ذاتها معوقات أي نهضة، في أي مجال، وجزء من مشكلة سورية تتمثل في التنمية التي تعاني من معوقات كثيرة؛ حالها حال بقية البلدان العربية، والعالم الثالث. فالفن والأدب هما انعكاس لصورة المجتمع، وخاصة في البلدان النامية، إلا أن الواقع السوري الحالي تخطت قسوته ما تواضع عليه الناس في حروب العصر الحديث؛ لدرجة أصبحت معها فانتازيا الخيال في الفن والأدب تحتاج إلى إعادة تأهيل، لتستوعب الواقع، وتعيد إنتاجه.
إن الدم الذي لم يجف بعد، يحتاج إلى أدب يؤرخه، والموت الذي يسير في الطرقات، يحتاج إلى فن يخلده، والدمار والرعب والتشرد، وغير ذلك من نتائج الحرب، جعل من سورية احتمالاً يبحث عن اليقين الإنسانيّ. أما الكلام عن مواكبة الثقافة لتحولات المجتمع فله شجون، إذ أن أدب الوقت الراهن يُمكن أن يُسمى أدباً وصفياً؛ ولا يمكن أن يتجاوز هذا المسمّى، ما لم تتغير الظروف. فالأدب والفن لا يستطيعان أن يحدثا التغيير ما لم يسترح المتلقي، ويتابعهما، والمتلقي السوري يُدفع باتجاه استحقاقات شديدة القسوة، وتلك الاستحقاقات قد أخذت في طريقها كل الشعب السوري، المنتج والمتلقي على حد سواء. إننا جميعاً نعيش وفق مبدأ الاحتمال..!، ما زال اليقين بأي شيء بعيداً، وأبعد من تصورات بعض الأدباء والفنانين، لهذا تراهم في سورية قد تعطلوا تماماً إلا من رحم ربي من المناضلين الذي يتابعون اللحظة ويؤرخونها بأدق تفاصيلها، والطارئين أدبياً وثقافياً وهؤلاء لن تخلدهم الألقاب المجانية، أما النتاج الذي زحف ليظهر الآن، ما كان له أن يظهر، لولا الأزمة التي عصفت بالبلد، وزعزعت مقومات وجوده، لذلك فإن هذا النتاج يعتبر طارئاً، وآنيّاً، تسلق الفراغ، ولم يملؤه، إنه ابن الأزمة، وأبناء الأزمات كلهم غير شرعيين، إذا ما استثنينا بعض النتاج الأدبي الثقافي الحقيقي الذي قارب الوجع السوري بشكل أربك متشددي السلطة والمعارضة على حد سواء.
يحدث في سوريّة الآن..!
120