هناك وفي ريف حمص الغربي تقبع مجموعة القرى السياحية التي أطلق عليها الآن، وبحسب أرشيف الحكومة السورية اسم وادي النضارة، وذلك بحسب ما اسماه عبد الناصر أيام الوحدة السورية المصرية، ولكن أهله رفضوا آنذاك وما زالوا غير خاضعين حتى بالتسمية فهم يصرون دائماً على تسميته وادي النصارى. يعود تاريخ المنطقة المسيحي الصرف إلى ذاك الاضطهاد الممنهج على يد الدولة العثمانية التي حاولت وبشتى الطرق إبعاد المسيحيين عن مركز السلطة حتى أنه لا زال العقل الجمعي يتخوف من كلمة (أشمل ولك) التي كان يستخدمها العسكر التركي عند لقائه بالمسيحي في قارعة طريق المدينة، خصوصاً أنه كان يفرض عليهم ارتداء أزياء معينة ليعرفوا أنهم ليسوا على دين الدولة. يعود تاريخ العائلات في وادي النصارى بأغلبيتهم الساحقة إلى قرى لبنان المسيحية عموما والشمالية منها على وجه الخصوص وقد بدأت رحلاتهم التهجيرية منذ العام 1856 يوم الحرب الطائفية الأولى اللبنانية فقد سكنت كل عائلة قرب ما يكفل استمرار عيشها على امتداد خط المياه بدءًا من قرية تسمى الآن عناز وصولاً لقرية حب نمرة مع الانعطاف طبعاً نحو اليمين واليسار في ذلك الخط العام. ارتفعت اعدادهم بشكل سريع لأن المنطقة كانت عذراء الطبيعة والحكومة ويوم بدت عليهم ملامح القوة سارعت الدولة العثمانية لتقوضهم من جديد بأن تسوقهم إلى "سفر برلك"، وهنا كانت انطلاقة وادي النصارى الاستكشافية للعالم الجديد هرباً من شقاء المجتمع الزراعي وظلم الاسلام السياسي المبني على السرقة لا على أحكام الدين وكان الشرخ الحقيقي المسيحي الاسلامي فقد استشعروا الظلم بأن الدولة صاحبة الدين لم تذكرهم وقت كانوا يشقون في استصلاح الصخور وتفتيتها، لكنها تسوقهم إلى أعمال السخرة وسفر برلك ليدافعوا عن سيادة دولة خليفة المسلمين ضد الدول الغربية المسيحية، إن أردنا القول… تركزت هجرات أهل وادي النصارى نحو الأمريكيتين وهو ما جعلها لاحقاً مترفة بالمال غنية بالعلوم سياحية التوجه منطوية التفاعل مع محيطها المسلم بكل طوائفه، وكان من أهم واجبات المهاجر أن يرسل بعد سنة أو أكثر بقليل لأخوته وأقربائه أوراق الكفالة ليتبعوه نحو بلاد المال والأضواء، لذلك ترى اليوم قرية كاملة لا تحوي في فصول الشتاء إلا العجائز وعدداً قليل جداً من العائلات التي تخدم المسنين في احتياجاتهم ويرحلون بدورهم أيضاً مع رحيل الوالدين ليعود عجائز جدد من بلاد الغربة، طمعاً بالموت في أرض الوادي الذي لا سعادة تضاهي الموت فيه والاستقرار الأبدي في ترابه القاسي.
على وجه العموم ليس هناك في وادي النصارى أي أسرة ليس فيها مهاجر خصوصاً بعد اتساع دائرة الهجرة إلى كل أوروبا والخليج العربي ونادراً ما طرقوا باب القارة الأفريقية.
استمرت الحال على هذا النحو ولم يكترثوا ولا بأي لحظة لمن هي السلطة وبيد من تكون ولكنهم يتغنون بإرثهم الفقير كرجالات الدولة أمثال فارس بك الخوري وميشيل عفلق وما تبعه من أصحاب أيديولوجيات عقائدية حاولت بدورها صهر هذه الأقلية الدينية في بوتقة الدين بسبب سيطرة المسلمين على الرئاسة والحكم. كان من أهم تأثيرات الهجرة هي الرخاء الاقتصادي والبدء بالتحضر يسبق جميع الجارات فهم يستحضرون أبنية بلاد الهجرة وطريقة عيشهم وتصاميم مدنهم وعكسوها على أرض واقعهم في واديهم النصراني العتيد.
وما يلفت النظر أن العار الأكبر الذي قد يصيب أي شخص كان هو بيع العقار أو الأرض الزراعية خارج إطار الدين، فهو عار يصيب مرتكبه بكل أنواع النفي الاجتماعي والإقصاء والطامة الكبرى تقع على عاتق أي شاب يتزوج مسلمة، فهذا يصبح محط الأصبع في الإشارة، وأما البنت فنادراً ما كانت تستطيع للحظة العودة إلى بيت أبيها بعد زواجها بمسلم سني كان أم علوي أو أي طائفة أخرى. وعند سؤالهم عن السبب فتصطدم بجواب واحد إنهم يحبون أن يتعاملوا بالمثل واعتدادهم بدينهم لا يقل أو ينقص عن اعتداد المسلمين بعقيدتهم أيضا ورافضين لذاك المبدأ الذي يقول إن هناك ديناً أرقى وديناً أدنى. لم يعن المسيحيين شيئاً أن يكون رئيس الدولة علويا أو سنيا فهم غير معتمدين على الدولة بأي شيء كان وغير مكترثين فهم يملكون وجهات نظرهم السياسية التي كانت تتوزع بين الشيوعية والسورية القومية الاجتماعية والبعثية الحقة، وعلى هذا الأساس تم التعامل مع القيادات الجديدة، ولكن ما يلفت النظر هو بدء تراجع الوعي السياسي والانحياز إلى البعث من طبقة الفقراء لأن البعث يعمل على توظيفهم، خصوصاً بعد أن تراجعت فرصهم بالسفر مع خلق أنظمة معادية للعالم كله بمثابة لعنة، وأصبحوا يعتقدون أنها غضب من الله بكونهم سوريين ويترحمون دوماً على البطرك الحويك بطرك جبل لبنان لأنه أقصاهم من دولة لبنان الكبير وباتوا حصة سورية من اتفاق الحدود الجديدة.
عملت السلطة لخلق "بعبع" الأجهزة الأمنية فكان اعتقال شخصية مثقفة من كل قرية وإعادته شبه متخلف عقلياً كافياً لأن يرتدع أي شخص عن التفكير بحلم غير السفر ورغيف الخبز إن انقطع دابر الهجرة فسيقوا كالقطيع، ويوم التصويت يسألون بما صوّتوا وكما يأتيهم الأمر يتم تنفيذه، محتفظين بعبارة رسختها السلطة في رؤوسهم ( والله ما يستلموا السنة لحتى يمنعونا من دق الجرس وليحجبوا نسوانا ويهلكونا).
شهد عصر السلطة الجديد بعض الانفراج أكثر مما مضى. فتحت رعاية الدولة أقيمت المهرجانات التي طالما حلموا بتنفيذها والاحتفالات الموسمية التي كانوا دائماً أسيادها ويسجل يومٌ عظيم في صيفهم إلا وهو تاريخ 14 آب فيدخل إلى واديهم قرابة أربعة ملايين زائر ويخرج منه فتضيق الطرقات وتمتلئ المنطقة بالسياح، مسيحين ومسلمين، على حد سواء، فما يهمهم من المسيحي استقطاب النظر ليستوطن في أرضهم وأما المسلم لينفق ما في جيبه وينصرف ليعود في العام المقبل…
ومع انطلاق الحراك في سورية بقوا على الحياد لفترة قصيرة لكن الوسواس الجاثم في أعماق النفوس والتخوفات من قمع الدكتاتور المسلم وإرهاب السلفية وتدمير كنائسهم كان عاملاً رئيسياً في نجاح الأجهزة الأمنية في زجهم في عمق الصراع مع جيرانهم أهل قلعة الحصن المسلمين السنيين في أغلبيتهم، حتى بلغ المطاف بالأجهزة الأمنية وإثر ارتفاع أصوات أعمال البناء الليلية أن يبثوا الإشاعات في قرى المسيح المسالم أن أهل الحصن ينوون الهجوم عليكم ليلاً… أقيمت الحواجز ووضِع فيها العاطلون عن العمل وأصحاب الشغب ليحفظوا أمن منطقة سياحية لا يهدأ طريقها لا صيفاً ولا شتاءً إلى أن خرجت المظاهرة الأولى في الحصن وقدم شيخ مسلم أساء إلى المسلمين أكثر مما أساء لأهل المنطقة ذاتهم.
سقط وادي النصارى في أتون حرب طالما كان يبتعد عنها ويوم تسأل أهلها يقولون لك: إن لم تقصف الحصن السنية سنقصف من الجيران العلويين، نحن بين فكي الكماشة وأي كان المنتصر فلن يكون لنا حصة في الوطن أكثر مما كنا عليه. واليوم بعد مضي سنتين أو أكثر لا زالت الحصن هي بعبع متروك لأهل وادي النصارى والضغينة تتفاقم والفتنة الكبرى كانت يوم عليّ وأولاده، ولكن الفتنة الأكبر ستصير بين أهل النصارى وجيرانهم الجائعين.
وادي النصارى
130
المقالة السابقة