مسعى هذه المقالة، التوصل الى منفسح معرفي يقارب حرية التفكير والاعتقاد تأسيساً على ما هو مشترك بين أديان الوحي. ولقد وجدنا ان نأخذ بمفهوم التعرُّف المنطلِق من الايمان الديني والتخلّق، أساساً لهذه المقاربة.
لم يكن قصدنا من إجراء هذا التلازم بين الإيمان والمعرفة والأخلاق، إلا لتظهير الغاية الالهية من خلق الانسان، وهي الإرتقاء به من حضيض الجاهلية الى كمال التوحيد. ومبتنى أطروحتنا قائم على اعتقاد الأديان الوحيانية بحقيقة الامتداد المعرفي من الله الى العالم ورجوعاً من العالم الى الله. ذلك بأن عالم الخلق لا يستوي على صراط التوحيد إلا بمعرفة حقيقة هذا الامتداد الوجودي الآيل الى معرفة الخالق. واذا كانت رسالات الوحي السابقة على الاسلام قد انتظمت على التعرّف الى الحق الأول وصفاته وآثاره، فقد جاءت الرسالة الخاتمة لتبيّن للعالمين كيفية السفر من الله الى عالم الانسان عبر منظومة ايمانية ومعرفية وأخلاقية بلغت كمالها بتمام الشريعة، ثم لتستمر عبر الزمن بظهورات الحقيقة المحمدية المعبَّر عنها في قول النبي الخاتم (ص): "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق".
بهذه المنزلة يتأسس التعرُّف لدينا بوصفه واجباً دينياً وأخلاقياً تظهر تجلياته العملية في حقول التدافع التي يزخر بها الاجتماع البشري. من أجل هذا صغنا سؤالنا على الوجه التالي:
ماذا لو نظرنا الى الإيمان المقرون بالتخلُّق والعلم كناظم للتعرُّف بين الأديان والثقافات والفضاءات الحضارية المتعددة؟..
سوف نحاول أن نأتي بالإجابة بناءً على فرضية مؤداها: وجوب التعرَّف على الغير كأساس يمهد للحوار معه والإقرار بحقَّانيته.
لنبتدئ أولاً بإيضاح المقصود:
إن ما نرمي اليه من «واجبية التعرُّف»، هو بلورة اطروحة تقوم على توفرُّ إرادة فهم بين الهويات الدينية المتغايرة، مسبوقة بصدق النية وصفاء السريرة. وما ذاك إلاّ لجلاء منظومة معرفية جامعة مؤيدة بالعقل ومسدَّدة بالإيمان والأخلاق. منظومة ترى الى التعرُّف بوصفه غاية قصوى للإيمان الديني. وان هذه الغاية لا يمكن تحصيلها إلا بالسعي المعرفي والبذل العلمي والاجتهاد والمجاهدة. فلمّا أن يأخذ التعرُّف هذا المسرى، يصير شأناً ذاتياً لدى المتعرَّف سواءً كان فرداً او جماعةً أو كتلة حضارية. والمتعرِّف المؤمن – أي الذي يمارس تديُّنه في دائر الانتماء إلى أديان الوحي – مدركٌ حقيقة أن ما يفعله، إنما يدخل ضمن سَيْرِيَّة تحويل ما كان مجهولاً في دينه أو لدى دين الغير إلى أمر معلوم. وهو على يقين أيضاً ان مثل هذه السَيْرِيَّة لا تنهض الا بتلازم فعلي بين الايمان بقول الوحي، والعمل على تصديقه في الآن عينه.
والعمل الذي يقصده المؤمن المتعرِّف لتأكيد إيمانه هو النشاط الديني الواعي على نحو يمكنه من النظر الى نفسه والى الغير نظرة الكاشف المتبصر والعامل بما كشف له وتبصّر به. وهذا هو مصداق الايمان الذي يفصح عن صفات المتعرِّف الآخذ بفضيلة التخلُّق وتهذيب النفس وإيثار الغير. فتكون النتيجة كما تتراءى لك من خلال أعماله، أن يشهد الغير في نفسه ويشهد نفسه في الغير. كما لو كان هو والغير نفساً واحدة. فلو تحقق في هذا المقام يكون قد قطع مسافة التباين المكتظة بالريب حيال هذا الغير بما هو نظير له في الآدمية. ولكي تستوي موازين العلاقة بين الأنا والنظير على نصاب التعرُّف، فلا مناص من قيامها على الصفاء ورحمانية الاختلاف. وحين يأخذ التعرُّف سبيله العملي الى حقول التنوع والكثرة، يتحقق الوصل الخلاّق على أرض التناظر بين الذات وسواها. فإن أفضل درجات هذا الوصل ما نشأ ونما في متسعات الغيرية.
التعرُّف إذاً، وليد شرعي للتغاير. وهو بهذه الدلالة قضية اخلاقية وعقلانية ودينية بامتياز. وهو بقدر ما يكون قضية تتعالى على التحيُّزات والهويات، بقدر ما يتصل بها من دون ان يلغي أحدٌ أحداً، حيث يتفاعل الكل مع الكل، وصولاً الى التكامل والتراحم والامتداد الرحيم في المنفسح الانساني.
وعند المتبصِّر بواجبية التعرّف لا ريب في الاختلاف. فالتعرُّف المنبثق من مقام المتحيزّ الى دين أو هوية بلا عصبية، ليس عيباً ولا منقصة، وإنما هو إقرار بحقيقة التنوع. بل أزيَدَ من ذلك: إن التعرُّف من جانب المتحيِّزين هو من بديهيات حضورهم في جدلية العيش. ولأن الذي نسعى إلى تأصيل مبانيه وشرائطه، قائم على الجمع الخلاّق بين التعالي على التعصُّب من جهة، وعلى التحيّز الايجابي للهويات الذاتية من جهة أخرى، أمكن ان ينفتح الأفق نحو تواصل خيِّرٍ وبناءٍ بين الاديان والثقافات على تنوعها واختلافها.
بهذا يغدو التعرُّف مساراً نابعاً من ذات المتحيِّز الذي يفيض على الغير بما لديه من جميل، ثم ليدفع بهذا الغير الى إفاضة معاكسة هي ادنى الى رد الجميل بالجميل.
التلازم بين الإيمان والمعرفة
في مقام الاحتدام على ارض الاديان والمذاهب اليوم، تتضاعف أهمية الصلة بالغير في بعدها الايماني والمعرفي. فلو دخلنا في تأصيل هذا البعد لوجدنا ان من لوازم التعرَّف اقتران الإيمان بالمعرفة. فلا يبلغ التعرّف الخلاَّق حقّانيته، ما لم تتلازم هاتان القيمتان لتغدوا معاً أساس كل لقاء. فإن أياً منهما تُسدِّد الأخرى وتؤيدها، أما النتائج المترتبة على مثل هذا اللقاء، فستكون في مدى ما يبديه المتلاقون من أخلاقيات عملية، ويقينيات دينية، تعزز معارفهم بنظائرهم على النحو الأكمل.
إن شرط التفاؤل في تفعيل الأسس النظرية والسلوكية للتعرُّف الخلاق في المجتمع العربي والاسلامي، أن يكون المنطق الذي يحكم الشخص المتديِّن، لجهة ما يبذله من جهود نفسية وروحية وفكرية من أجل تمتين ارتباطه المعرفي بدينه، هو نفسه المنطق الذي يحكم الشخص إياه لكي يبذل الجهد اللازم باتجاه التعرُّف على دين غيره. ذلك ان الامر يستلزم في هذه الحال، سَيْريّة نشاط مدفوعة بالتبصُّر الخلقي وبالإيمان الديني في آن. وهو ما تنكشف آثاره من خلال الإيمان بالغير كنظير في النوع الانساني، والتعرُّف على هذا النظير بوصفه شريكاً في الإحياء الحضاري المنشود.
ماهية المتعرِّف ومهمته
المتعرِّف كالفيلسوف يمكن ان يتعايش مع إصدار الاحكام من دون ان يتصرَّف كإيديولوجي. فليست مهمة المتعرِّف – بما هو متعرِّف – التحيُّز لهوية ما والاستيطان في فضائها. يمكنه، بل قد يكون من حقه الولاء لهوية ما، لكن ولاءَه الموصول بحسن الجوار مع الغير، يحيل تحيزَّه الى حقل تواصل وتعارف وتكامل. فلو فعل ذلك فإنه بهذه الخصيصة يكتسب صفة العابر للهويات المتعددة جميعاً.
كان رائد الفينومينولوجيا ادموند هوسرل يدعو كل من أراد ان يصير فيلسوفاً عارفاً، الى الانعطاف ولو مرة واحدة في حياته على ذاته. وفي داخل ذاته يحاول ان يقلب كل المعارف المقبولة، وان يسعى الى معاودة بنائها. فالفلسفة بهذا النحو تغدو مسألة شخصية لا غير. اي انها معرفته الخاصة التي تسير به نحو ما هو كوني.
تفضي إلينا كلمات هوسرل تظهيراً للسر الذي ينتظم عمل الفيلسوف كصانع للأفكار. مثلما تفضي الى التعريف به كمبدِّد لما ينتجه من أفكار لئلا تتحول أفكاره مع الوقت الى حجاب ايديولوجي يقطع الصلة بالغير، ويطرده من فردوسه في الوقت عينه.
المقترح الذي نقدمه في هذا الصدد، ان تتعامل فلسفة المتعرِّف مع موضوعها كاشتغال معرفي تختار من التجربة ما يلائم ماهيتها التي تتعالى على التحيزات الايديولوجية. ولذا فهي فلسفة اختبار للقّاء المفترض بين التصورات والوقائع. ذلك بأنها فعالية معرفية لا تنمو الا حيث يوجد النشاط البشري. ولذا فلا يستوي الكلام على فلسفة المتعرِّف ما لم ندرك ماهيته وهويته والمهمة التي يعمل على انجازها.
كيف لنا إذاً، ان نرى الى ماهية المتعرّف وهويته والمهمة التي يعمل على انجازها؟
إنه مفكر مجتهد وجاد وقلق في الآن ذاته. غالباً ما يحمله قلقه على التساؤل نظير كل مسألة يجهلها، ثم يقترب منها اقتراب الباحث عن جوهرة نادرة وسط ركام. سوى انه حالما يعثر على طرف حقيقة لا ينعم بالدهشة الا بضع وقت، ثم لا يفتأ حتى يجتاحه التساؤل مرة أخرى، باحثاً عن جديد. لا يقف المتعرِّف عند فكرة أبدعها، ولا عند كشف تراءى له في سماء رمادية. هو في سير لا قرار له، وعزاؤه في هذا يقينه بأنه يملأ بالتساؤل الخواء من حوله. جنّتُه في تساؤله. كما لو كان يريد ان يبتني سكناً آمنا من طين الأسئلة. شأن ما قال فيه هايدغر ذات مرة "ان التساؤل تقوى وفكر". ولنا أن نضيف: إن التساؤل المولود من التجربة هو تقوى الفكر والوجدان في آن. الشيء الذي يفتح الافق لترقِّي المتعرِّف الى منزلة العارف. فمتى صار المتعرف عارفاً وعاش عرفانه على الحقيقة، فقد عمل بما حصَّل من علم، ليفتتح طورا آخر من التهيؤ لنشاط جديد تكون فيه المعرفة علماً محصَّلاً من التجربة. فعند هذا المنعطف تصير له التجربة علماً مستحدثاً يجعله على نشأة الاستبصار والتخلُّق. ومن الآثار المترتبة على هذه النشأة ان يتّقَد الفكرُ، ويشع القلبُ، وينفسح للعارف إمكان التعرف بالقدرة والعلم والارداة، حيث تمكنه معرفته من المضي نحو آفاق لم يكن يحسبها من قبل. فهو الآن صاحب مهمة ورسالة، لم يعد مجرد رقيب على الاحداث، وانما صانع لها، فاعل فيها. وهو الذي يحفر للغير سبيل التعرف الى قولهم وفعلهم، والى ما لم يقدروا عليه من دون مثل حيٍّ يقتدون به… ذلك ان المتعرِّف متبصِّر في الحاضر، راءٍ للمقبل بعين الواقع، ناظرٌ الى ما وراء الاحداث، يضع الامور في مواضعها، فلا يفصل الما قبل عن الما بعد، ولا المابعد عن اللحظة التي هو فيها، لئلا يقع في العجلة وتكون النتيجة ان يحكم بما لا دليل عليه في الواقع، فيمسي إذَّاك كمثل من يمشي في العتمة بلا ضوء…
والتبصُّر في تجربة المتعرّف، إجراء عقلاني حيال كل شأن. سواء تعلق الامر بالفرد أو بالجماعة او بالامة كوحدة اجتماعية وسياسية وحضارية. وإذ يكون التبصُّر موصولاً بالتخلّق فسيعود ذلك الوصل بفضائله على الكل. على الفاعل نفسه كما على المجال الذي يمارس فعله فيه. وهذه الجدلية من التفاعل سوف تؤتي أُكْلها بمعارف زائدة تملأ المساحة التي يضطرب فيها الفهم. وتخفِّضُ منسوب ما تراكم من الجهل، وما من تساؤل بعدئذٍ الا اتخذ سبيله الى الانقشاع.
التعرُّف بفضائله الست
لا شك في أن الكلام على التعرف والمحاورة الرحمانية يكتسبُ اهميته الاستثنائية اليوم في سياق النقاش حول حوار الأديان. ولعل ما يمنح أطروحة التعرُّف اولويتها الخاصة، انها تكشف عن واحد من أهم وأبرز عوامل القطيعة بين الأديان الكبرى، وهو ما تعكسه الحالة النمطية من الحوار المعمول به على سيرة المجاملات العابرة والجهل المتبادل. وهذا بالذات ما قصدناه بواجبيَّة الأخذ بقاعدة التعرُّف لتجاوز الجهل عبر معرفة الذات والآخر قبل الشروع بأي حوار.
لكن الفضيلة العليا للتعرف لا تتوقف على تنوير مساحات العتمة التي تحجب بصيرة المتحاورين وحسب. بل هي تمتد بفضائلها لتغمر بأنوار المعرفة كل من يمضي إليها او يأخذ بناصيتها. وكلما مضى المتعرِّف الى لقاء نظيره على خط الرحمانية، انقشعت عن نفسه غمامة الجهل، فعرف نفسه وعرف النظير في عين الوقت.
اما العائدات التي يحصّلها السالك الى فهم دين سواه والتعرُّف اليه فهي كثيرة وجليلة على الجملة:
اولاً: سوف يساعده التعرف في معرفة دينه على نحو اكثر عمقاً. وذلك على اعتبار ان الحقائق تدرك بنظائرها، أو كما يقال «إن الاشياء تعرف بأضدادها». ففي مسار التعرف الذي يحفر مجراه عبر التداول والاستقراء والمساءلة، يتكشَّف المزيد مما هو مجهول علينا من حيوات الغير. وهو مسار لن يكون له حدود ما دام مفتوحاً على الامتلاء المستمر بالعلم. لا سيما اذا تشكلت معلومات ومعارف هي حصيلة فهم الآخر لدين المتعرِّف ومعتقداته.
ثانياً: سوف يعينه على معرفة مواطن الخلل التي ينطوي عليها سلوكه الديني حيال المنتمي الى دين آخر. ونعني بمواطن الخلل: شعور المؤمن الساعي الى المعرفة بالرضى والأمان داخل معزلِهِ الديني (الطائفي او المذهبي)- والشعور بالاكتفاء الذاتي وهو يعيش حبيس قلعته المغلقة- والنظر الى معتقده كطريق خلاص الى المدينة الفاضلة والى معتقدات الغير كموصل الى الجحيم.
ثالثا: من نتائج التعرف ان يغادر المتعرف عقدة الخصومة المسبقة الناتجة من جهله بنظيره، حيث لا يتوقع منه في هذه الحال، الا سوء النية والشر المستطير.
رابعاً: سوف يتوصل المتعرّف الى ادراك معنى آخر للحرية. حيث تكف الحرية في حالة الإدراك المتبصِّر لأبعادها الإلهية والأخلاقية عن كونها مجرد لعبة تستباح فيها افهام ومعارف ومعتقدات الغير. خصوصاً حين تتحول الحرية لديه الى سلوك بعد ان اختبرت في حقل التواصل الحميم.
خامساً: من فضائل التعرف انه يمنحك منفسحاً لتوسيع معارفك مما في معتقد غيرك من محاسن وكمالات لا تتوفر في مجال ثقافتك الدينية والاخلاقية.
سادساً: إمكان التوصل عبر التعرُّف الى ملتقى مفتوح يمكّن المتعرفين، وكل من موقعيته من بلورة استراتيجية تفضي الى الخير العام في ميدان الفكر والثقافة الاجتماع والسياسة والتنمية ومقاومة الهيمنة الخارجية والاستبداد الداخلي.
في مناخ التحولات الكبرى في هذا الشرق، يبدو المسيحيون والمسلمون امام اختبار ايمانهم الديني من جديد ضمن دائرة العيش المشترك. ولا يبدو في ظني شيء اكثر واجبية من التعرُّف والفهم كمبتدأ لهذا الاختبار.
مفكر وباحث في الفلسفة والاجتماع الديني
واجبية التعرُّف فهم الآخر بما هو قضية إيمانية ودينية وأخلاقية
116
المقالة السابقة