في هذه الأيام تتمثل الأغنية اللبنانية بكلمات نعجز عن فهم المعنى الذي يقصده الكاتب. ان المسألة وصلت أيضا الى التفاهة والترويج والتشجيع على أمور تخشاها المجتمعات الراقية. ولهذا نقول إننا فعلاً لم نفهم ما المقصود من حملة التتفيه والتسطيح الى درجة ان البعض استغرب عدم المطالبة بمنعها مثلاً مع أغنية "جمهورية قلبي" التي قيل إنها تريد إرجاعنا الى العصر القديم بعدم السماح للمرأة بالعمل.
انها مسألة تسليط الضوء على معانٍ ومفردات لم نفهمها أو أن فيها تسويقاً للافتة معينة. أكثر الفنانين إثارة للجدل بأغنياته يرغب باثارة حملات المدافعة عن حقوق المرأة. وبالرغم من ان البعض اعتبر انها "احتقار" للمرأة خصوصاً في أغنية "غرفة عمليات" و"الزواج المدني". اضافة الى أن هذه الأغنية حرّكت الناشطات في ميدان حقوق المرأة ودعت لتأييد الزواج المدني. تلتقط الأغنية ظواهر اجتماعية والإضاءة عليها خصوصاً بالمعنى الشعبي الذي يبلغ الابتذال وأحياناً بكونها تخاطب المراهقين وجيلاً متحمسّاً للرّقص مهما كان الكلام.
من جهة ثانية في الوقت الذي تتكاثر فيه الدعوات الى منع التدخين في الأماكن العامة والمحاضرات اليومية التي يطلقها الأطباء والمختصون للتحذير من خطر النرجيلة التي تنتشر في شكل واسع في لبنان والذي يقال انه يزيد عن خطر السيجارة العادية بأربع مرات تأتي أغنية "ريتني تنبك معسل" لتزيد النرجيلة ترويجاً من خلال أغنية يسهل حفظها وتردادها. وكل ذلك طبعاً من دون حسيب ولا رقيب.
أما المصيبة الأكبر فهي كيفية تلويث عقول الناس بحجة أن "الجمهور هيك بدو" أو "هيدا اللي ماشي" والخ من الحجج الفارغة التي لا تصب الا في خانة الجهل والإفلاس الفني الصريح. ولجهة ألحان غالبية الأغنيات تتدرج ضمن إطار "الدبكة" والأغنية الشعبية اللبنانية التي كرّس لها روّاد الأغنية اللبنانية حياتهم من وديع الصافي الى الرحابنة.
هل هذا هو تراثنا فعلاً؟ أم أن ضجيج الطبول والمزامير في الأغنية كفيل بإلهاء الناس عن معاني هذه الأغنيات؟
هل المزيد من الابتذال والإثارة والإغراء مواصفات مطلوبة لنجاح الأغنية المعاصرة فما يراه البعض جرأة في كسر المحظور يعتبره البعض الآخر سخرية تتخطّى حدود المعقول ليبقى الجمهور ويسمع كل ما هبّ ودبّ ويتماشى مع الموجود. فهل ولّى زمن الأغاني الطريبة الجميلة في عصر طغيان الصورة والجسد؟
الأغاني الهابطة والسخيفة سبّبت فقدان الثقافة للجمهور بالتفاعل مع الأغنية اللبنانية واللغة العربية الإباحية. فالإغنية اللبنانية الحديثة لا تشكّل جزءاً من الثقافة الفنية التي تستحق الحضور.
أما الأغنية التراثية فهي تعزز النهج الثقافي الضارب في أعماق التاريخ اللبناني وتعمل على ترسيخه وتعزيزه. فربما ما يعرفه الجيل الجديد عن الأغنية التراثية في لبنان محدود بالإرث الكبير الذي تركه لنا الأخوان الرحباني والسيدة فيروز. ولكن الأغنية الشعبية تتنوع شعراً ولحناً.
حال الأغنية المعاصرة وحال الأغنية التراثية أو الأصيلة أو التقليدية أو السابقة… التي قدّمت من أواخر القرن التاسع عشر, وتطورت وسادت في النصف الأول من القرن العشرين, هذا الفرق هو كالفرق بين لغة ينطق بها إنسان رافقها في طفولته وفي شبابه وفي شيخوخته, وبين لغة طرأت على ذلك الإنسان لاحقاً, فبان بشكل جلي أنها ليست لغته الأصلية, وبأنه دخيل عليها وأنها دخيلة عليه. من هنا يُقال في عاميّتنا: فلان عربيّته على قدّه, أو فلان فرنسيّته على قدّه, أو فلان إنكليزيته على قدّه… وهذا ما يُقال عن الأغنية العربية المعاصرة: عربيّتها على قدّها, وليس لها من صرخة الآه نصيب. بالاضافة الى غياب الأداء التقليدي الأصيل الى غير رجعة, في الغناء، كما في العزف, باستثناء بعض الحالات الأكاديمية أو الشعبية التي يصر أصحابها على مواصلة التحدي وارتفاع شأن
الميكروفون مع ما له من تأثير في محاولات دعم الأصوات الضعيفة والمحدودة وذلك عند انتشار أغنيات الـ”فيديو كليب” التجارية التي تطيح المواهب والإمكانيات بما لها من قدرات، وكما قال أحد الباحثين: إنّ الموسيقى العربية اليوم هي الأغنية. والأغنية هي الـ”فيديو كليب”، ولكن الـ”فيديو كليب” هو التعبير بإيقاع العصر. والهدف هو شهرة المغني, وإرضاء الجمهور, وإنجاح الشركات المنتجة
وقد ساعد في هذا الهبوط أن القضية في واحد من وجوهها تجارية, تروّج لنماذج عابرة من البضاعة يسهل فيها إحلال السلعة مكان الأخرى في منافسة مستمرة. كل ذلك في حمى شركات كبيرة تبتغي الربح وسيلة, وإلغاء الشخصية القومية الثقافية منهجاً, وهي تروّج لعالمية الموسيقى وكأنها بذلك تعالج مسائل الكيمياء والفيزياء والطبّ.
لقد كانت الأغنية العربية طرفاً أساسياً في الربط بين فصحى اللغة العربية وبين لهجاتها العامية على تنوّعها وتعددها, خصوصاً في ظل ما كان (ولا يزال) يطرح على صعيد الاختلاف بين نطقها وبين كتابتها. لكنّها انحازت في الوقت الحاضر, أو بالأحرى تمّ تحريكها وتوجيهها, نحو اللهجات العامية المحلية. كما أنها باتت تتناول الفصحى بلفظ أقرب ما يكون الى العامية منه الى اللغة الأساسية بجمالها ورونقها.
انطلاقاً من مبدأ "الاعتراف بالآخر" يقتضي الاعتراف بالأغنية العربية المعاصرة معبّرة عن الكثير من مشاعر الإنسان العربي المعاصر, ومنسجمة مع الكثير من أمنياته ورغباته. إنّ الجمهور العريض الذي نراه صارخاً بها, مردداً صدى كلماتها, ضارباً إيقاعاتها, إنما يعبّر عمّا في نفوس أفراده من ارتباط حقيقي بها, وهو غير موجّه نحوها بالقوة, وغير مستدرج إليها بالتهديد. صحيح أن للدعاية التي تتولاها شركات الإنتاج ومؤسسات الإعلان, الدور الأقوى في إبراز هذا النوع من الغناء, لكن الجمهور وجد فيها شيئاً ما يهمه ويرضيه, فانحاز اليها… وهذا هو الواقع مع الأسف. إلا أن ذلك لا يقودنا, بأيّ شكل, الى اعتبار ما يتمّ إنتاجه أغنية عربية جديرة بالشرح والتدريس والحفظ والتناقل عبر الأجيال. إنّ الجمهور المذكور ما يكاد ينتهي من أغنية حتى ينتقل الى الأخرى مصفقاً بالحدة نفسها وصارخاً بالأسلوب نفسه، حتى وإن لم تنته الأولى… الحال هي حال إيقاعية, حال حرية مجنونة, حال صراخ معبرة عن مشاعر ميّالة الى التخلص من كل شيء, حتّى من القواعد والأصول, وكثرة العدد لا تمثّل النخبة بأيّ حال.
إعادة تقديم التراث الغنائي الأصيل على أنه فن محترم يجب تعميمه على الشعب في جميع أجياله ومراحله, ومن الواجب إحياؤه والتعامل معه باحترام تماماً كما تتعامل الأمم الراقية مع تراثها الغنائيّ والموسيقيّ. إن تراث تلك الأمم مسموع, ليس فقط عند أبنائها, إنما لدى شعوب أخرى قد تفهمه وقد لا تفهمه, لكنها تتأثر بالمهابة التي تضفيها عليه أمته, وتحسّ بالمجد الذي تغلّفه به. من هنا تجب مواصلة تدوين التراث الغنائي والموسيقي العربي بأكمله بعد رسوخ علم التدوين الموسيقي. ومن المعروف أنه قبل القرن العشرين كان ذلك التراث يتواصل عبر الحفظة من مطربين وعازفين, وجدير ذكره أن هؤلاء كانوا يحفظون ما يلائم أذواقهم وما يرضي مستمعيهم, إضافة الى أنهم كانوا يقدمون ما يقدمونه وفقاً لأمزجتهم واتكالاً على ذاكراتهم, فيزيدون عليه, أو ينقصون منه, بعكس ما كان يجري مع التراث الأدبي والشعري على وجه الخصوص, من هنا تأكد ضياع الكثير من التراث الغنائي والموسيقي العربي الأصيل. إن إحياء ذلك الرصيد يساعد كثيراً في إعادة حاضرنا الفني الى صوابه.
ليس كل ما نسمعه بالحرف العربي غناءً عربياً وإلا لما كان لنا أن نطرب لأغنية تركية لا نفهم كلماتها, أو أغنية فارسية أو أغنية كردية… ولو كان المقصود أن نكتفي بفهم المعنى الأدبي, لقرأنا الأغنية عبر الورق. إنّ الفنّ الغنائيّ موجّه للسمع أولاً, الحواسّ دور يأتي لاحقاً, ويا ضياع الأضواء التي تشتعل في المسارح وتنطفئ, إذا ما تفقدنا نتائجها البسيطة في الآذان اللاقطة.