ميزتي أنني أجالس الكبار، في العلم والثقافة والنضال وخبرة الحياة وحبهم لها، وهم قضوها في الجد والكد والفرح والعطاء، ولم يمنعهم تراكم السنين من ان يتحولوا إلى خاملين او جالسين على رصيف أعمارهم، بل قاوموا الشيخوخة بشبابهم العقلي والفكري، ونضوجهم الإنساني، وممارستهم المناقبية، وتوقهم الدائم إلى تحقيق هدف، وتلبية طموح في كل شأن له علاقة بالإنسان والمجتمع والوطن.
وتسنى لي أن أتعرّف عن قرب على هؤلاء الكبار وأبرزهم الأديب والمؤرخ جورج مصروعة، والمحامي اللامع والمنبري المثقف عبدالله قبرصي، والمفكر العقائدي والسياسي الذي ترهّب للنضال القومي الاجتماعي إنعام رعد، والنهضوي الذي جمع بين المؤمن بالعقيدة القومية الاجتماعية ورجل الأعمال وزاوج
الإصلاح، هذه العقيدة التي كانت تساوي وجوده منذ تعاقد مع واضع أسسها ومؤسس نهضتها القومية الاجتماعية انطون سعاده، بين العدالة الاجتماعية وصاحب المال، هو منصور عازار باني المؤسسات الاقتصادية في الاغتراب، وناشر الفكر والرأي في مجلة "المنبر"، ومنشئ "مكتب الدراسات العلمية للأبحاث والدراسات والنشر" لتعميم المعرفة في المجتمع، لأنه مدرك أن "المجتمع معرفة والمعرفة قوة".
منصور عازار كان رجالاً، فهو رجل الكلمة، والكلمة رجل، وهو رجل الصعاب والصعاب تصنع رجلاً، وهو رجل ولد في النضال القومي والنضال مصنع للرجال، وهو رجل العقل فكان العقل شرعه الأعلى، وهو رجل الفكر وبالفكر صنع أصدقاء له، وهو رجل المحبة وبها استوطن قلوب عارفيه ومحبيه، وهو رجل تضحيات ومن أجلها كان معتنق مبادئ لم يخرج عن إيمانه بها في ثمانيتها الأساسية وخمستها الإصلاحية.
هؤلاء الرجال في رجل كـ منصور عازار، هي مسيرته الذاتية والحزبية – النضالية ومنهج حياته الفكرية والثقافية، فهو والكتاب من وطن واحد، فكان شغوفاً بالقراءة، وملماً في المواضيع كلها لعمق ثقافته، ففتح منزله في بيت الشعار للندوات الفكرية واللقاءات الثقافية والحوارات السياسية، فأغنى المنطقة بنشاط معرفي، فبات ديوانه مقصداً لمن أراد أن يزداد معرفة وثقافة واطلاعاً، فخصص قاعة من منزله الحجري – الأثري، لتكون ملتقى يجمع المفكرين والمثقفين والإعلاميين والباحثين والشعراء، فيدعوهم باسم مكتب الدراسات العلمية إلى هذا المحراب الفكري فيؤم منصور عازار "المصلّين" بالفكر متحدثاً به وبالأدب والسياسة.
عرفت الأستاذ منصور عازار قبل الحرب الأهلية، عندما كان يتردّد إلى منزل الأستاذ جورج مصروعة في انطلياس، وسمعت به مرشحاً للنيابة في المتن الشمالي العام 1972، وقيل يومها إنه خالف قرار الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي رشح الأستاذ أسد الأشقر، وهو قريب عازار الذي كان يرفض الإرث السياسي، أو تشكيل بيت سياسي على غرار ما هو معمول به في "البيئة السياسية اللبنانية" التي أفسدت الديمقراطية وحجّرت التغيير الذي كان بالنسبة لـ عازار صلاة يومية، فانتفض على كل ما هو خارج أسس النهضة القومية الاجتماعية، فلم تأخذه المسؤولية الحزبية او تكبّله عن رفض أداء أعضاء في قيادة الحزب او من بعض مسؤوليه، فلعب مع آخرين دور تصحيح الأداء والنهج للحفاظ على المؤسسات الدستورية في الحزب وثوابته العقائدية وروحيته الأخلاقية.
منذ أكثر من عقدين، لم أفارق الأمين منصور عازار، فكنت على لقاء شبه دائم، وعلى اتصال يومي أو أسبوعي به، وكان يهاتفني مهنئاً ومقدراً كلما قرأ لي مقالاً او استمع إلى مقابلة تلفزيونية، وكان يدعونا إلى لقاءات في منزله، او يلتقينا عند أصدقاء لمناقشة قضية أو البحث بفكرة ومنهم الأستاذ سركيس أبو زيد الذي كان كلما يريد أن ينفذ مبادرة ما، يستعين بصديق فيكون منصور عازار، الذي وقبل أسبوع من وفاته كنت في زيارته يحدّثني عن إنهاء القراءة الأخيرة من مذكراته، كما سألني عن نشاط فكري – ثقافي نقوم به في مكتب الدراسات، وكان يعيش أيامه رغم تقدّم السن وظهور العجز، على أنه باقٍ ولن يرحل.
وهو فعلاً لم يرحل، لأن الجسد وهو قميص يخلعه الإنسان، فتبقى الروح دائمة بما تحمل من إنسانية وقيم ومناقب وسموّ وتواضع ومحبة، وبما يخلده الإنسان من أعمال، وما يتركه من ميراث خُلقي في عائلته وهو فعل، وما يسجله من مخزون فكري جمعه في كتب لأجيال هي بحاجة إلى الكبار نسترشد بمواقفهم، ونستنير بأفكارهم، ونستلهم من نضالهم في المجالات كلها.
هذا هو منصور عازرا، الذي سنفتقده دائماً، وسنتذكره بشكل دائم، وسيحضر معنا في لقاءاتنا وحواراتنا جميعاً.