(حكايات)
أنا متهم بأنني شامي، وهي تهمة لا أدفعها وشرف لا أدّعيه .
فبسبب أسمي الجغرافي، الذي لا يوحي بأنني أنتمي الى الصعيد الجغرافي في مصر، توهم الناس بأنني لا بدّ ان أكون مستورداً من الخارج، حتى سألني واحد منهم وكنت نحيل الجسم هل انت من بيت لحم ؟ فقلت له : كلا، فأنا من بيت عظم.
وعندما كانت منطقة غزة تابعة للحكم المصري، كانت جميع الرسائل الموجهة اليّ من الخارج ترسل اولاً الى غزة، ومن هناك يحّول البريد هذه الرسائل الى القاهرة.
ودفعاً لتهمة الشامية، فعندما استدعيت الى مباحث أمن الدولة العليا، بادرني الضابط الهمام بمجرد دخولي غرفته قائلاً : متى شرفت مصريا أستاذ وديع ؟ فقلت له ! انني شرفت مصر من سبعة الآف سنة فأنا صعيدي وقبطي وفرعوني وجّدي الأكبر رمسيس الثاني!
ولكن تعاظم الاعتقاد بأنني من شوام مصر عندما ألقيت نفسي في فجر حياتي العملية غارقاً في "أوقيانوس " من الشوام. فهم امامي وخلفي يحيطون بي احاطة السوار بالمعصم. ذلك أنني بعد نيلي شهادة الصحافة من الجامعة الاميركية بالقاهرة، زرت أستاذي فؤاد صرّوف – وهو أيضاً شامي فسألني : هل اهتديت الى عمل؟ فقلت له : إنني لم أحاول حتى الآن. فقال : هل تحب ان تعمل في جريدة "الاهرام" فقد كنت من يومين مع قريبي فريديك شقير مدير "الاهرام" الذي أعرب لي عن رغبته في تعيين شباب في الجريدة؟ فقلت له : طبعاً. وعلى الفور اعطاني خطاباً الى شقير بك، وبعد أيام القيت نفسي موظفاً في "الاهرام" لا في قسم التحرير كما كنت أحب بل في الادارة، وعلى وجه التحديد في قسم التوزيع. واكتشفت ان كل العاملين في هذا القسم من الشوام: سوقي وحبيقة وشيخاني وأبي ناضر وضاهر وبحري وشدياق وبشارة وصيقلي وخطار، ولكنني لم أحس بالغربة في وسطهم لا أنا ولا زميلي الشاعر صالح جودت الذي كان يعمل بدوره في الادارة ولكن في قسم الاعلانات. والحقيقة أنني طوال السنين الثلاث التي عملت فيها وسط هؤلاء الشوام، لم تكن تربطني بهم الا زمالة كريمة بل كانوا يدعونني الى مناسباتهم العائلية.
وكنت الأحظ ان معطم الشوام يقيمون أما في حي الفجالة او في حي الظاهر القريب منه، وسبب ذلك على ما أعتقد- انه عندما بدأت هجرة الشوام الى مصر، كانوا يصلون بالبواخر الى الاسكندرية او بورسعيد، ثم يستقلون القطار الى نهاية الخط في باب الحديد. ولأن حي الفجالة كان هو الاقرب الى محطة مصر، فقد كانوا يفضلونه للسكن، وما زال الحي الى هذا اليوم يحتفظ بمعالم شامية، منها دار المعارف بمبناها القديم، ومنها مكتبة العرب لصاحبها يوسف توما البستاني. وهناك أيضا حي السكاكيني القريب، وفيه قصر شامخ كان يسكنه حبيب سكاكيني باشا، وهو أيضاً من الشوام.
اما قسم التحرير في "الاهرام" فكان يرأسه انطون الجميل باشا ويستعين بنجيب كنعان سكرتير التحرير ومحررين منهم توفيق حنا الشمالي والبير عمون، وهؤلاء جميعا من الشوام.
وكانت مناي ان أعمل في التحرير، فاستحال عليّ ذلك بدعوى ان قسمي الادارة والتحرير يستقل كل منهما ببناية خاصة ولا سبيل الى الانتقال بينهما حتى مع وجود كوبري معدني معلق بين البنايتين. وما أكثر ما عبرت عليه. ولهذا رحبت بدعوة كريم ثابت باشا للعمل معه في "دار المقتطف والمقطم" كواحد من المحررين.
وفي هذه الدار أيضا استقبلني ثلاثة باشوات، وكلهم من الشوام، هم الدكتور فارس نمر باشا الباقي على قيد الحياة من المؤسسين الثلاثة للدار بعد رحيل شريكيه الدكتور يعقوب صروف وشاهين مكاريوس، وخليل تابت باشا وابنه كريم تابت باشا. وكان معنا شوام آخرون منهم قربة ومكاريوس واليازجي وأيضاً ماري كاثرين بولاد. اما مجلة "المقتطف" فكان للشوام دور فيها. هم فؤاد صروف وبشير فارس ونقولا الحداد مترجم نظرية النسبية لانشتين وسكرتير التحرير اسبيرو جسري الذي غير اسمه الى سامي الجسري.
في عام 1948 قرر خليل ثابت باشا محرر جريدة " المقطم" المسألية ان يتقاعد عن عمله الذي قضى فيه نحو 40 عاماً مستمراً على مقعده في الجريدة، بل كان مكتبه جزءاً لصيقاً من بيته، فاذا استيقظ في الصباح المبكر توجه الى آلة التيكر (المبرقة الكاتبة) وهي الآلة التي كانت تخرج منها نشرات الأخبار العالمية، ومتى فرغ من قراءتها، عكف على كتابة مقاله الافتتاحي اليومي الذي كان ينشر في صدر الصفحة الاولى مع ذيول من التعليقات الموجزة في صفحة داخلية.
يا كيكي كيكي
بعدما تحرر خليل ثابت باشا من "عبودية" الوظيفة، قرر السفر الى لبنان للاصطياف في مسقط رأسه دير القمر،وعند عوودته سأله أصدقاؤه عن انطباعاته أو ارتساماته عن الاوضاع في لبنان، فقرر ان يلقي محاضرة عامة في النادي الشرقي الذي كان يرأسه، وهو ناد اجتماعي وليس رياضياً، وكان أكبر الأندية الشامية في مصر حيث كان هناك ناديان آخران صغيران هما نادي لبنان ونادي الارز.
وبحكم تلمذتي المهنية على خليل ثابت باشا وأيضاً بحكم عملي الصحفي كنت حريصاً على الاستماع الى هذه المحاضرة التي القيت ارتجالاً، وتسجيل وقائعها في الجريدة اعتماداً على ذاكرتي وعلى ما كنت أخطه في وريقاتي حيث لم نكن نعرف أحهزة التسجيل المنتشرة اليوم.
وكان مما قاله خليل ثابت باشا ان الحكومة اللبنانية رغبت في دراسة الوضع الاقتصادي في البلاد، فاستقدمت الخبير البلجيكي العالمي فان زيلند لكي يدرس هذا الوضع ويشير على الحكومة بآرائه ونصائحه في ختام مهمته الرسمية.
وكان فان زيلند يطلب موافاته بتقارير من الجهات الحكوميةة المختلفة ليسترشد بها في فهم جميع جوانب الوضع الاقتصادي للبنان، وهي تقارير رسمية استندت الى ما توافر لدى الجهات الحكومية من بيانات رسمية. وبعد دراسة معمقة لكل هذه التقارير انتهى فان زيلند الى النتيجة التي فاجأ بها الحكومة اللبنانية وهي ان لبنان دولة مفلسة تماماً! ولكنه استدرك قائلاً ان يرى الرخاء سائداً في لبنان فكيف تعللون هذه المفارقة؟ فالرخاء بكل مظاهرة يتعارض تماما مع حالة الافلاس التي تنطق بها التقارير الرسمية.
فقيل لفان زيلند ان لبنان يتميز بجوانب اقتصادية أخرى لا تظهر في التقارير الرسمية. فالمهاجرون من اللبنانيين يبعثون الى عائلاتهم بأموال من مدخراتهم. وهذه تصب في الاقتصاد اللبناني ثم ان لبنان دولة سياحية يؤمها الآلاف من السياح سنويا شتاء وصيفاً، وهؤلاء ينفقوا اموالاً طائلة على انشطتهم السياحية، وهي أموال تصب في الاقتصاد الوطني، كما ان لبنان دولة مفتوحة أمام التعامل في العملات الأجنبية، والمعادي النفيسة كالذهب والفضة، وهذا النشاط يصب بدوره في الاقتصاد القومي، ولا تنس ان لبنان يزرع الحشيش ويصدره الى الاسواق الخارجية، ولا سيما مصر، والايرادات المتحصلة من هذا النشاط تصب في الاقتصاد اللبناني.
وعندما أسمع فان زيلند هذا التفسير من الحكومة اللبنانية قال للمسؤولين فيها : ما دام هذا هو حالكم، فاستمروا كما انتم ولا تتغيروا ولا تفكروا في استقدام اي خبير اقتصادي مهما تكن سمعته أو شهرته.
والتقط المطرب اللبناني عمر الزعني هذه النتيجة ونظم مقطوعة غناها أذكر مما جاء فيها قوله : يا كيكي كيكي، تعالي لما احكيكي، لا ينفع فيك خبير بلجيكي ولا بروفسير أمريكي!
نشرت في "المقطم" وهي جريدة مسائية – محاضرة خليل ثابت باشا كما استطعت تسجيلها بأمانة وفي صباح اليوم التالي تلقيت مكالمة هاتفية من خليل باشا يهنئني فيها على دقتي في تسجيل كلامه.
وبمجرد ظهور الجريدة كتب إسماعيل صدقي باشا مقالاً في جريدة "المصري" تعليقا على حكاية الحشيش، وكان صدقي باشا معروفاً بكراهيته للعرب والعروبة، بل كان يطالب مصر بالخروج من جامعة الدول العربية لأن كل هذه الدول العربية ستكون عالة على مصر، ومما قاله في تعليقه المنشور (وليس هذا كلامه بالنص ولكنه يمثل فحواه) تصوروا ان لبنان الذي نزامله في الجامعة العربية لا هم له الا تدمير صحة المصريين بما يصدره الينا من الحشيش. ان اول واجب على الحكومة المصرية هو قطع علاقاتها مع لبنان والانسحاب من الجامعة العربية التي تجمعنا مع أمثال هذه الدويلة.
لم تكد مقالة إسماعيل صدقي باشا تظهر، حتى انبرى له حبيب جاماتي فرد عليه في نفس جريدة "المصري" بما مؤداه ان الدول العربية فرادى هي دول ضعيفة، ولكن وحدتها من خلال الجامعة العربية تكسبها قوة وتجعل لها منزلة مرموقة أمام دول العالم، اما مشكلة الحشيش فهي مشكلة ثانوية يمكن حلها بين الحكومتين المصرية واللبنانية.
ومع انني كنت – وما زلت – من دعاة العروبة، فقد أغناني الصديق حبيب جاماتي عن استخدام المنطق السياسي في الرد على اسماعيل صدقي باشا. ولهذا رددت على دولته – بلساني الطويل قائلاً: يا دولة الباشا، لقد توليت رياسة الوزارة مرات من قبل، وربما أسندت اليك في المستقبل. فلماذا فشلت فشلاً ذريعاً في القضاء على تجارة الحشيش اللبناني، سواء بالقانون أو بالزجر أو بأي أسلوب آخر؟ ولو انك نجحت في اقناع مواطنيك بالكف عن التحشيش، لكف لبنان عن زراعة هذا العقار لبوار سوقه، فلا تلم اللبنانيين بل لم مواطنيك المصريين، وقبل ذلك لم نفسك على فشلك في علاج المشكلة من جذورها.
ولم يحاول إسماعيل صدقي باشا بعد ذلك الرد، سواء على حبيب جاماتي او على كاتب هذه السطور.
وفي اثناء عملي في "المقطم" لم ينقطع تواصلي مع الشوام ففي أحد الايام زارني الشاعر اللبناني الياس خليل زخريا وكان يركب سيارة فارهة بسائق. فسألته هل جئت بهذه السيارة من بيروت أو أستأجرتها من القاهرة؟ فقال : انها سيارة زوجتي. فسألته : وهل أنت متزوج من مصرية؟ فقال : ان زوجتي هي بديعة مصابني. ولدهشتي سالته : هل هي الفنانة، منحرجاً من ان أصفها بالراقصة. فقال نعم، فقد تزوجنا بعد وفاة زوجها الممثل نجيب الريحاني بسبب استحالة الطلاق بينهما في حياته حسب المذهب الكاثوليكي.
وذات يوم تلقيت بالبريد المسجل رسالة في مظروف يحمل أسم " مجلس النواب اللبناني"، وهو ما أثار فضولي. وعندما فضضت الرسالة تبينت انها من الشاعر أمين نخلة – ولم أكن أعرفه .. يقول فيها انه يجمع تراث الشاعر ولي الدين يكن الذي كان ينشر في "المقطم" حوالي عام 1912 سلسلة من المقالات بعنوان الصحائف السود، ورجاني ان انقلها اليه فقمت بنسخها ولم يكن هناك تصوير ووافيته بها.
ثم تلقيت رسالة دورية بتوقيع رشيد بك بيضون يقول فيها انه تقرر اقامة حفل كبير لتكريم الشاعر بولس سلامة – شاعر الملاحم . ووصف في الرسالة حالته المرضية التي تكاد تقعده الا عن الكتابة ونظم الشعر، ودعاني الى المشاركة في حفل التكريم، فما كان مني الا ان نشرت مقالاً عن بولس سلامة – الذي لا أعرفه ولا قرأت شيئاً من آثاره. وبعثت بهذا المقال الى لجنة التكريم التي نشرته في الكتاب التذكاري الذي أصدرته عام 1950 . واتفق في ذلك الوقت ان زارت مصر شقيقة ميشال مكرزل صاحب مجلة "الدبور" اللبنانية وسألت زميلاً لي عما اذا كان يرغب في تحقيق رجاء هذه السيدة بان يصبح مراسلاً للمجلة في مصر، فرحبت بأن أكون المراسل المتطوع. وأتفق وقتها ان القيت قنبلة على دار سينما مترو بالقاهرة، وهي أكبر وأحدث دار سينمائية، فقام رئيس الوزراء اسماعيل صدقي باشا المشهور بالدكتاتورية والطغيان بالقاء القبض على 40 من المعروفين بالاتجاه اليساري، ومنهم سلامة موسى والدكتور محمد مندور والصحفي محمد زكي عبد القادر وفتحي الرملي والد الكاتب المسرحي لينين الرملي وغيرهم. وجاءني ابن سلامة موسى ومعه رسالة من ابيه حول اعتقاله، فحاولت نشر الخبر في الجريدة. ولكن الرقيب حذفه. فكتبت مقالاً حملت فيه حملة شعواء على صدقي باشا وسخرت من اتهامه هؤلاء المفكرين بالقاء قنبلة على دار سينما، وبعثت بالمقال الى مجلة "الدبور" وبمجرد ظهوره استدعى السفير المصري في بيروت صاحب المجلة واحتج على هذه المجلة التي من شأنها الاساءة الى العلاقات بين مصر ولبنان. فدافع ميشال مكرزل عني وقال للسفير ان مراسلنا في القاهرة يعرف الحقيقة ولا يكتب الا صدقاً، وان المجلة ستنشر اي رسائل تأتيها منه. وعرف السفير ان جهده لم يوفق، وتلقيت من مكرزل رسالة وصف فيها ما دار بينه وبين السفير المصري ولكنه نصحنى بتخفيف لهجتي.
تعرفون ان الشوام هم الذين أنشأوا أكبر دور للصحافة والنشر في القاهرة: دار المقتطف والمقطم التي هجرناها في عام 1952 عندما ناصبتنا الثورة العداء. ودار الاهرام الني أنشأها سليم وبشارة تقلا والتي آلت ملكيتها بعد وفاة جبرائيل تقلا باشا الى نجله بشارة تقلا، وهذا تنازل بعد التأمين عن كل حقوقه حيث لم يكن له ورثة. ودار الهلال التي كان المعتقد بعد التأميم ان تؤول ملكيتها الى حفيد
جرجي زيدان، وهو زميلنا اميل سمعان، ولكن الحفيد كان مهووساً برياضة اليوغا الهندية، فهاجر الى الهند وعاش هناك مثل اي فقير هندي، وعند وفاته من بضع سنين احرق جثمانه طبقا للمناسك الهندوكسية.
اما دار المعارف التي عوملت بعد التأميم بانها دار صحفية بسبب مجلة "اكتوبر" التي الحقت بها، فقد ارتأى المسؤولون عنها بعد التأميم الابقاء على صاحبها شفيق متري لكي يلاحق المطابع والعمال مقابل "نفقة " شهرية قدرها مئة جنيه وليست مرتباً او مكافأة. وعندما التقيت به للمرة الاخيرة في الطريق اخبرني انه توجه الى مدير الدار وقال له : كيف أعيش بمئة جنية في الشهر مع ان أجرة الشقة التي أقيم فيها هي مئة جنيه؟ فقال له المدير: أحمد ربكُ لأننا أبقينا عليك .فما كان منه الا ان هاجر الى فرنسا للحاق بنجله الوحيد الذي كان يعمل في دار هاشيت لطباعة القواميس.
ولان كريم ثابت باشا كان يعمل الى جانب رئاسة تحرير "المقطم" مستشاراً صحفياً لجلالة الملك فاروق، فقد تمت محاكمته مرتين امام محاكم استثنائية وحكم عليه بالسجن ومصادرة كل املاكه حتى أثاث بيته. فقامت زوجته وهي ابنة الصحفي اللبناني سليم سركيس – بشراء هذا الاثاث مرتين.
وعند وفاة كريم ثابت اقتصر النعي المنشور في الصحف على اسم وعنوان الكنيسة التي تقام فيها شعائر الجنازة. وكان طبعياً ان اتوجه الى الكنيسة حيث جاء مجلسي الى جوار الصحفي حبيب حاماتي. ولما بدأ القس الخدمة الكنيسية قال: نزولاً على رغبة من لا أستطيع لرغبتهم رداً، لن أذكر أسم الفقيد طوال الخدمة وهي عبارة رددها في ختام الخدمة
معرباً عن أسفه لانه لا يستطيع ذكر أسم الفقيد فالتفت الى حبيب حاماتي وقلت له : لو كان في وسعي أن أكتب مقالاً لجعلت عنوانه " ثورة ترتعب من جثة".
وبسبب حركات التأميم والرقابة، صرح الدكتور طه حسين قائلاً ان مركز الاشعاع انتقل من القاهرة الى بيروت. وكان الشاعر أحمد شوقي قد سبقه الى تعظيم لبنان بقوله : لبنان والخلد اختراع الله.
وكنت أجد في المجلات الأدبية اللبنانية متنفساً لي ونافذة حرة للتعبير بعيداً عن السياسة ومزالقها، فبدأت اتواصل مع مجلة "الأديب" لصاحبها البير أديب منذ عام 1945 واستمر التواصل طوال عمر هذه المجلة. كما كتبت في مجلة "الآداب" لسهيل ادريس في سنواتها الاولى. ونشرت فصولاً في مجلات أخرى منها "الرسالة" لجان كميد، و"الغربال" لسليم مكرزل و"رسالة التربية" وكان يحررها فوزي عطوي، و"العلوم" لمنير البعلبكي ولكن مجلة "الاديب" هي التي افسحت لي صدرها وبفضلها عرفت الى العالم العربي وفي المهاجر لان المجلة كانت غير معنية بالسياسة وكانت تدخل جميع البلدان العربية دون ات تتعرض للوقف او المصادرة باعتبارها رسولاً عالمياً للأدب العربي.
وفي مجلة "الأديب" نشرت ثلاث سلاسل كانت الاولى بعنوان "صورة وصفية" تناولت فيها رسم لوحات أدبية لرائدات عرفتهن تمثل كل منهن نموذجاً جميلاً للمرأة. فهناك الرسامة وعازفة البيان والكاتبة والمضيفة الجوية والمهمومة بقضايا المجتمع – التي أصبحت مع الوقت مديرة لمنظمة اليونيسيف في جنيف – وسيدة المجتمع التي تفتح بيتها لصفوة المجتمع،. وهلم جرا. واتفق في ذلك الوقت ان كان هناك شاعر لبناني – نسيت اسمه الان- يقيم في دولة أفريقية وهو قد حرص على أهدائي ديوانه مطرزاً بعبارة " الى صاحب الصور الوصفية" ولأنه لم يكن يعرف عنواني فقد بعث بديوانه الى مجلة "الأديب" التي وافتني به.
أما السلسلة الثانية فكان عنوانها " شعر ناجي المضّيع" كنت صديقاً للشاعر الدكتور ابراهيم ناجي، وعند وفاته اصدرت وزارة الثقافة ديوانه وقال محققوه ان يضم كل شعره. ولكن صدور الديوان اقترن بفضيحتين اولاهما انه لا يضم كل شعره، والثانية انه قد تسللت الى الديوان قصائد للشاعرين علي حمود طه وكمال نشأت، مما ترتب عليه مصادرة الديوان، وهو ما حفزني على محاولة جمع شعر ناجي الضائع سواء من مجلات قديمة او ممن كانوا يحتفظون بشعر نظمه الشاعر حول انشطتهم.
وأما السلسة الثالثة التي استمرت ست سنين فكان عنوانها "الأدب والأحذية" ذلك ان صديقي الشاعر نزار قباني كان مدعواً الى مهرجان المربد السنوي الذي يقام في بغداد، حيث القي قصيدة كان مما جاء فيها بقوله :
واذا أصبح المفكر بوقاً يستوي الفكر عندها والحذاء
أنا حريتي فان سلبوها تسقط الارض دونها السماء
فقلت لنفسي: هذا كلام مُنزل.وعقدت مقالاً بعنوان " الأدب والأحذية" رويت فيه حكايات تدور حول الحذاء، منها مثلاً ان الأديب عبد الرحمن الخميسي – وهو أديب وشاعر وملحن وموسيقار ومخرج سينمائي ورقاص ! نقل في حركة بطش بالصحفيين الى مؤسسة باتا للاحذية. فتوجه وهو الشيوعي الى صديقه الشاعر كامل الشناوي يشكو همه، فما كان من الشناوي الا ان عزاه بقوله : هون عليك فان استاذك غوركي بدأ اسكافياً وانتهى أديباً، وها أنت قد عكست الآية وتحولت من أديب الى اسكافي!
ورويت قصة أخرى حول الأديب حبيب الزحلاوي الذي كان يبيع الاحذية في متجر صيدناوي في القاهرة وانتهى به الحال الى بيع خردة الحديد في حي بولاق القديم.
وبمجرد نشر المقال انهالت على مجلة "الأديب" وعليّ تعليقات كثيرة حتى من المستشرق جرمانوس في المجر، مما شجعني على مواصلة السلسلة وكنت في كل حلقة منها اكرر قول نزار قباني :
واذا أصبح المفكر بوقاً يستوي الفكر عندها والحذاء
على امل ان يحفظ كل حامل قلم هذا البيت ويستظهره في حياته.
وان كان صديقنا الشاعر القروي رشيد سليم الخوري يحرص على وصف نفسه بأنه "بوق العروبة" وفي عام 1948 تلقيت رسالة غاضبة من البير أديب يرجوني فيها ان ابحث امكانيات انتقاله هو ومجلة "الأديب" الى القاهرة لاصدارها من العاصمة المصرية. وسبب ذلك ان قانونا جديدا صدر في لبنان "يعيدنا الى العهد الذي كان يلقي القبض فيه على الكاتب الذي ينعت الأسد بملك الغاب باعتبار ان السلطان وحده هو "ملك الغاب". وقال : "ان من حسنات القانون السوداء ان يفرض علينا تقديم ضمانة مالية نقدية قدرها ثلاثة الآف ليرة. وتجدني الآن أحاول ان اجد قيمة الضمان المالي، والا أضطررت الى وقف "الأديب ".
استفزتني هذه الرسالة وكنت في ذلك الوقت أجمع بين عملي وجريدة " المقطم" وبين تدريس علوم الصحافة في الجامعة الاميركية، وكانت قضايا حرية الصحافة والرأي تستأثر بكل اهتمامي. نشرت مقالاً أفتتاحياً في "المقطم" حول هذا القانون أبديت فيه عجبي من صدوره في وقت كان فيه الأديب خليل تقي الدين شقيق صديقي سعيد تقي الدين مسؤولاً عن دائرة الدعاية والنشر في لبنان. وكانت جريدة "المقطم" مسموعة الرأي في لبنان وكنت مكلفاً من صاحب الجريدة الدكتور فارس نمر باشا بان اعقد مقالات الصدر اليومية بعدما توقف عن كتابتها خليل ثابت باشا.
وعلى اثرصدور مقالي المدّوي تلقيت رسالتين من خليل تقي الدين وشقيقه بهيج تقي الدين المحامي وعضو مجلس النواب اللبناني، فبادرت بنشرها في الجريدة بنصها الكامل، ولا بأس من تلخيصها هنا لان الاجيال الحالية في لبنان قد لا تكون على دراية بهذه القضية.
أما خليل تقي الدين فقد قال انه لم يبق مديراً للمطبوعات في لبنان حيث استقال من هذه المهمة المؤقتة التي كانت قد وكلت اليه قبل صدور قانون المطبوعات الجديد، وانه ما زال في السلك الدبلوماسي اللبناني.
وأضاف ان فريقا من صحفيي لبنان كانوا من العاملين على وضع هذا القانون الذي جعل للقضاء وحده الفصل في قضايا الصحافة، بينما كان القانون القديم يعطي الحكومة حق تعطيل الجريدة إدارياً تعطيلا يتجاوز الشهور والسنين. اما القيود التي يفرضها القانون حيث مبلغ التأمين فيراد منه الحّد من فوضى الصحافة الطاغية في لبنان. وحسبك ان تعلم ان في بلدٍ لا يزيد عدد سكانه المليون أكثر من مئة وخمسين صحيفة. فلما بدُىء في تنفيذ القانون توارت من الوجود الستون صحيفة التي اشرتم اليها في مقالكم. وذلك لا بقرار من الحكومة كما ذكرتم. بل لعجزها عن ايفاء شروط القانون من حيث الضمانة والشهادة التي يجب ان يحملها صاحب الجريدة ورئيس التحرير.
وختم رسالته بقوله : أرجو مخلصاً أن تصدقوا ان في تواربها الخير والبركة، اذ لا يزال عندنا في لبنان اكثر من خمسين جريدة وهو عدد اكثر من كاف ٍ.
اما المحامي بهيج تقي الدين الذي كان عضواً في مجلس النواب عند اقرار هذا القانون فقال في رسالته التي قمت بنشرها في "المقطم":
"انني اشاطرك رأيك بشأن المفعول السلفي (أي الاثر الرجعي) للقانون، ولقد كنت بين النواب الذين اقترعوا ضد اعطاء النص المعلق بدفع الضمانة الآن، اي مفعول رجعي. ولكن الأكثرية وافقت على المشروع كما ورد من الحكوكة. ونقابة الصحافة اللبنانية ساعية لازالة تلك السيئات". وختم رسالته بقوله: "يمكنني ان اؤكد لحضرتك أنني سأقف مع التعديل الذي يطلبه الصحافيون وهو الموقف الذي يمليه عليّ واجبي وضميري، ذلك أنني أعتبر أن الدفاع عن حرية الفكر واجب مقدس وفرض على كل من يؤمن بالنظام الديمقراطي ولا يرضى عنه بديلاً. وانني واثق من ان زملائي في المجلس سيقفون من القانون الموقف نفسه لانهم في ممارستهم لرسالتهم النيابية انما يستروحون الروح نفسها".
وليس من قبيل المنّ على لبنان أن أسجل أن دفاعي عن حرية الصحافة في لبنان في مقالات الصور التي نشرتها في"المقطم" قد أثمرت عدول حكومة لبنان عن هذا القانون الجائر.
وعندما زرت لبنان للمرة الاولى في عام 1955 حرصت على التواصل شخصياً مع من كنت أعرفهم بالمراسلة لا بالمشافهة. فزرت الشاعر بولس سلامه في منزله القديم، والقيته راقداً على نصف سرير لأن النصف الآخر كان يختفي تحت أكداس من الكتب. وساءلني ان أعرف من زوجته انه لم يستطع النهوض لاستقبالي بسبب الجراحات الخاطئة التي اجريت له بالعشرات في العمود الفقري. ومع اشفاقي عليه من طول الزيارة ظلّ يستبقني ويلقي عليّ محاضرات في الأدب والشعر والأخلاق والفلسفة- لقد كان بحراً في العلم قلّ نظيره. وانصرفت من داره وأنا لا أملك الا أن أدعو له بالشفاء.
وبعد سنوات زرته في بيته الجديد بعد ما حدثت معه معجزة في مدينة لورد الفرنسية، وطار صوابي وأنا أراه يمشي على قدميه متوكئاً على عكازه ويحيط خاصرته بحزام عريض.
وزرت الشاعر أمين نخلة في مكتب المحاماة الذي كان يديره في طريق الشام،حيث قال لي انه يعتقد انه أحق الناس بمنصب رئيس الجمهورية وانه سيرشح نفسه في الانتخابات المقبلة.
وزرت الأديب سعيد تقي الدين بعد ان استقر في لبنان عائداً من مهجره في الفليبين وأخبرني ان يعتزم اصدار جريدة اسمها "الزوابع"وعلمت فيما بعد أنه هاجر من جديد ولكن الى أميركا الجنوبية.
وزرت البير أديب الذي نصحني بأن اركب ترام بيروت وأهبط امام الطبية الافرنسية لان بيته ومكتبه يقعان في البناية المقابلة لها. وأثناء الزيارة جاءت ابنتاه هدى وندى من المدرسة حاملتين بريد مجلة "الأديب" حيث كانتا تعّرجان على مكتب البريد والحصول على بريد المجلة من الصندوق المخصص لها بناءً على تعليمات أبيهما.
ولاحظت أن البير أديب يخاطبني باللهجة المصرية وظننته يجاملني، ولكنه أخبرني أنه أكتسب هذه اللهجة من اقامته في مصر ولم تفارقه بعد ذلك.
وزرت محمد جميل بيهم الذي أخذ يحدثني عن عروبة لبنان في التاريخ ليؤكد لي أن لبنان ليس فينيقياً كما يزعمون بل هو عربي صريح العروبة.
وطبعاً زرت أستاذي فؤاد صرّوف الذي أصبح نائب رئيس جامعة بيروت الاميركية وهو صاحب أفضال كثيرة عليّ، بل لقد كنت أتمنى أن أصبح امتداداً له، ولكن هيهات.
ولدى عودتي من لبنان نشرت مقالاً في مصر قلت فيه ان أجمل ما في لبنان هو الحرية حتى ولو خالطتها الفوضى، كما قلت ان كل لبناني يعتقد انه هو الأحق بمنصب رئيس الجمهورية، وان الديمقراطية السائدة في لبنان تسمح لكل لبناني بأن يحقق هذه الامنية.
وبعد تقبلوا مني آيات الشكر القلبية على حسن استماعكم، وأرجو الا أكون قد أمللتكم بحديث عن لبنان الذي تعرفونه أكثر منّي، والذي اعتبره دائماً وطني الثاني.