I ـ فاتحة الفشل
ما العلمانية؟ لا تعريف لها، لكلّ مدرسة تعريف خاص تُطبّقه، لفرنسا تعريفها المتزمّت، لبريطانيا تعريف آخر منفتح، للولايات المتحدة تطبيقات علمانية أقرها الدستور، من دون اللجوء إلى استعمال مفردة العلمانية… المؤسف عندنا، أننا في حروب حول المفهوم، وهذا دليل عجز وليس مصدر غنى، عندما تظل الفكرة أو يبقى المفهوم أسير الفكر، يصاب بالبيزنطية، أي باللغو. العلمانية ممارسة والحكم عليها هو في نجاحها أو في فشلها، ليس كنموذج يُحتذى، بل كطريقة خاصة تمّ ابتكارها في مجتمع ما بالاستجابة لشروطه الثقافية والبيئية ودرجة تقدمه في مضمار الحداثة، لا علمانية في مجتمع متخلف. لا سلامة لمفهومها في مجتمع استبدادي. لا إمكانية لتجسدها في مجتمع ما قبل الدولة، حيث تهيمن الانتماءات القبلية، الإثنية، العنصرية، الدينية، المذهبية إلخ…
ما بين العلمانية وهذه المجتمعات والجماعات، طلاق… هل هذا يعني أن العلمانية يُفترض تأجيلها إلى ما بعد تأهيل الجماعات؟ هل العلمانية قادرة وحدها على تغيير المجتمع، من دون بروز الشخصية الفردية الحرة، التي تتخذ قراراتها وتسلك في خياراتها بمعزل عن أيّ انتماء؟
لا تعريف محدّداً للعلمانية، هل هي فصل الدين عن الدولة؟ أم فصل الدين عن السياسة؟ أم فصل الدين عن المجتمع؟ أم تحديد الحيّز الديني المستقل عن الحيز المدني؟ هل هناك نصف علمانية أم علمانية متدرّجة؟ أسئلة تحتاج إلى أجوبة واقعية. الأجوبة النظرية تغني الفكر ولكنّها تدل على شحّ في التجربة. تجاربنا العلمانية بائسة جداً. تجاربنا المجتمعية الأخرى اللاعلمانية، أشدّ بؤساً وأكثر حراجة، بحيث يمكن تبرير ما ينعت البعض فيه العرب، من أنهم استثناء حضاري، حيث أن العلمانية تسجل في مجتمعات كثيرة تقدماً، بينما هي بالكاد ترى لها ظلاً في هذه الصحراء العربية الغارقة في العنصرية والطائفية والمذهبية والإثنية والجهوية. عدد الهويات في المجتمعات العلمانية ضئيل جداً، الفرنسي فرنسي، الألماني ألماني، وهكذا. أما عندنا، فلدينا من الهويات ما لا يعدّ، أو بالأحرى، هي بعد الطوائف والمذاهب والفرق والجماعات لسنا دولة بعد. إذاً لا علمانية بعد.
العلمانية خادمة غير مخدومة
لا تُنكر الجهود التي بذلها الرواد في عصر النهضة، لوضع المجتمعات العربية على سكة الحداثة. كتابات هؤلاء جريئة، متحدّية، رؤيوية وحقيقية. تنضح كتاباتهم بأمل التغيير والانتقال من مرحلة التخلف إلى أفق الحداثة. أخفقت هذه الكتابات في خلخلة البناء التاريخي للجماعات في العالم العربي، أصابت الأفكار النخب، مع تبني بعض الأنظمة الأفكار القومية، لم تكن العلمانية عنوان زمن الصعود القومي. كان الهاجس، التخلص من الاستعمار والتحرر الاجتماعي. كانت العلمانية ضيفاً هشّاً على هذه الأنظمة التي سرعان ما تحولت إلى ديكتاتورية استبدادية كان من نتائج حقبتها، تفجير المجتمع إلى اثنيات وفرق دينية وتكفيرية. تنمو العلمانية في مناخ الحرية والديموقراطية. العلمانية الاستبدادية عاقبتها وخيمة. بها تلصق تهمة مهادنة الاستبداد، والاغتراب عن البيئة، ولقد حصل ما هو أفدح من ذلك حيث لجأت هذه الأنظمة إلى سجن وملاحقة ومطاردة وتعذيب القوى الحزبية المؤمنة بالعلمانية والديموقراطية والحداثة. لا وجود لحزب سياسي خارج السجن، إلّا إذا كان محظياً ومطيعاً للقوة المستبدة… وهذا ما تؤكده لوائح السجون في كلّ من مصر العلمانية وسوريا العلمانية والعراق العلماني وليبيا العلمانية والجزائر العلمانية.
لقد غامرت الأحزاب العلمانية مغامرة مخيبة للأمل، تحديداً في لبنان، عندما اختارت أن تؤجل علمانيتها لصالح مواقع لها في السلطة، فتحالفت مع قوى الإقطاع الطائفي وتيارات المذاهب… ألغت نفسها ومبرر وجودها، عندما انحرفت عن نضالها العلماني مفضّلة المكاسب السياسية، والتي لا تدرّ عليها غير التكلّس. في أيام السلم الطائفي فضلت أن تكون في القافلة الانتخابية مقطورة بقادة طوائفيين وإقطاعيين، وفي أيام الحرب، برهنت على جدارة قتالية في صفوف قوى مُحتضنة طائفياً. تتشابه هنا الأحزاب القومية وتيارات العروبة وجماعات اليسار. لذا، لم تكن العلمانية مخدومة من أحزابها، بل كانت خادمة أمينة للأحزاب والتيارات العلمانية.
المجتمع المدني رخو جداً، مقطّع الأوصال، ذو نزوة لا ترقى إلى مرتبة النضال. وعليه، فقد كانت العلمانية أصيلة في منابعها، معتكرة في معترك الحياة السياسية، منسية بحكم التقادم الاجتماعي والإنساني. ما تزال العلمانية صالحة، ولكن العلمانيين عاطلون عن تبنّيها. وفي معادلة الوقائع، برهنت الطائفية على حيوية منقطعة النظير، وأنها مخدومة بجدارة وتكافئ المناضلين فيها بأرقى المراكز وبأكثريات جماهيرية لا تحصى. الغلبة للطائفية والمذهبية والخسارة للعلمانية. هي نتيجة حتمية ومبرمة.
III ـ الطائف علماني من يطبّقه؟
لم يتسنّ للعلمانية أن تكون مكان اختبار حتى يُبرّر فشلها. هي لم تفشل لأنها لم تُختبَر على مدار قرن. تُستثنى تونس التي تجرأت على الموروث بقرار من صلب العالم الحديث. أضحت العلمانية في تونس في قلب الصراع، عندما فرضت على الدولة وعلى المجتمع. رفض الإسلاميون هذه العلمانية ودافع عنها وطنيون ويساريون ومواطنون مستنيرون. نجحت التجربة بنسبة عالية. لكن عدم تجديد الحياة السياسية واستكانة السلطة في مواقعها وتداولها بالقوة، منح الإسلاميين فرصة الدفاع عن الديموقراطية التي لا يؤمنون بها، وأصابوا بسهامهم العلمانية التي صمدت بصمود جماهيرها ونخبها والأحزاب التي تدافع عنها… تجربة جديرة بالاحترام.
لبنان، منحته فرنسا دستوراً علمانياً، لا دين للدولة في لبنان، الدولة ليست دينية، تحمي الدين كما هو ولا تتدخل في معتقداته. شابته مادة وحيدة، دعت إلى توزيع الحقائب في الدولة على الطوائف، التماساً للعدل، وبطريقة لا تضرّ بالمصلحة العامة، على أن يكون هذا التدبير مؤقتاً. إنها المادة الخامسة والتسعون من الدستور القديم قبل تعديله بُعيد اتفاق الطائف.
شاب الحياة القانونية صدور القرار 60 ل.ر. من قبل المندوب السامي في سوريا ولبنان والتي نظم عبرها المحاكم المذهبية الشرعية والراعية للطوائف، مستثنياً من ذلك «العلمانيين» أصحاب الحق في ألا يكونوا طائفيين. اكتفت السلطات اللبنانية بإقرار مراسيم المحاكم الروحية والشرعية لكل الطوائف والمذاهب، وتجاهلت ما يخص المواطنين غير المنتمين إلى أي طائفة، بحكم علمانيتهم. الفرنسي مستعمراً، أعطى اللبنانيين والسوريين حقاً علمانياً لم يطالب به أحد. العلمانيون طنشوا، ربما عرفوا ونسوا. في كل الأحوال، فقد العلمانيون حقاً نصّ عليه القرار 60 ل.ر… فهل هؤلاء العلمانيون علمانيون حقاً؟
ألف لا، الجعجعة بصوت مرتفع الداعية إلى العلمانية مفضوحة «ليس كل من يقول يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات» الطريق إلى العلمانية هي التدرج بالمطالب لا إلغاء المكاسب.
لم نسمع أحداً من الأحزاب العلمانية، باستثناء بعض الحقوقيين الذين أثاروا في عدد من المؤتمرات هذه الحالة، ولما انقضى المؤتمر، مسحت الكلمات عن الطاولات كما يمسح الغبار. هذا غيض من فيض.
انفجر لبنان في عام 1975. دخل الجميع كرنفال الدم. تقدمت الطائفية السياسية واحتلت المواقع وحفرت الخنادق. انتشرت الأحزاب العلمانية في الجبهات إلى جانب الطوائفية المتقاتلة، كان حظها بعد القتال أن أقصيت عن الحلول. وبعدما برهنت على جدارة في القتال ذهب الجميع إلى الطائف إلا هؤلاء. لم يدعوا إليه، ولا دعوا مرة إلى مفاوضات. عوملوا كإجراء عند الطوائف.
إن آليات تغيير النظام الطائفي في لبنان موجودة في الدستور، نص اتفاق الطائف على آلية التغيير، أو الانتقال من النظام الطائفي إلى النظام المدني.
الطائف وضع اللبنانيين أمام طريق الخروج من الحرب عبر جمع الأسلحة ومنع الانقسام وإعادة تكوين السلطة بعد التعديلات التي أصابت مركز المارونية السياسية بالضعف، ونُقلت بعض صلاحيات الرئاسة إلى الحكومة مجتمعة، بصيغة المشاركة المتناسبة في الحكم. وكان من المفترض، بعد تأمين المناصفة الطائفية بين المسيحيين والمسلمين، أن يُصار، بعد أول انتخابات على قاعدة المناصفة، إلى تشكيل الهيئة الوطنية العليا لإلغاء الطائفية السياسية، وإقرار قانون انتخابي خارج القيد الطائفي، وإنشاء مجلس شيوخ تمثل فيه العائلات الروحية.
ماذا فعل العلمانيون لتطبيق أو لدفع القوى المهيمنة إلى تطبيق هذه المواد الدستورية المُلزمة؟ لا شيء على الإطلاق. وحده الرئيس نبيه بري، لجأ مرتين مهدّداً بهذه المواد الدستورية للابتزاز السياسي. كما حاولت السلطة السورية أن تستعمله للتخويف أو تدفنه للطمأنة… العلمانيون هباء منثور لا علاقة لهم بالعلمانية.
ليس المطلوب عملياً اختراع البارود، الطائف موجود. إنه الطريق إلى علمنة حقيقية للدولة ومؤسساتها، المادة الخامسة والتسعون واضحة، تحتاج إلى من يلتزم بها.
حاول المطران غريغوار حداد أن يخوض معركة العلمانية الشاملة. جمع حوله علمانيين من المجتمع المدني. كان صادقاً ووفياً لعلمانيته الشاملة، حتى النفس الأخير. كان صوتاً صارخاً في البرية. لم يقف معه إلا قلة من المؤمنين بالعلمانية عن جد، لكن الحرب اللبنانية، قصمت مشروعه. الطائفية تنين برؤوس متعددة. غلبت المطران الذي لم تغلبه كنيسته، برغم أنها شنت عليه حروبها وأقصته عن مطرانيته.
ولا حزب من الأحزاب «العلمانية»، له من نضال المطران ما يوازي سطراً من جهاده.
IV ـ الطائفة تجمع والعلمانية لا
من هو العلماني؟ هو ذاك الذي خرج على طائفته في السياسة والاجتماع والأخلاق، هو الذي بات متحرراً، انتزع أمرة نفسه من الطائفة التي ولد في أحضانها وتربى على ثقافتها. حريته تمنحه الاستقلال وتعزز فرديته. الأفراد في الطوائف قطعان.
الروابط الطائفية متينة جداً. الطائفي كائن مكتفٍ بطائفته. لا يشعر بتمام وجوده إلا في انتمائه إلى جماعته. يرثها فكراً وممارسة. يساهم في الدفاع عن طائفيته، سياسياً وإدارياً واجتماعياً وثقافياً، ويتجنّد للذود عن طائفته كلما دعت الحاجة، وهو لا يجتهد في تنفيذ القرارات ومسالك الاتجاهات التي يتخذها القادة. قد يتذمر ولكنه يطيع. قد ينتقد ولكنه يمتثل. إن خرج عن أو من طائفته، وجد نفسه عارياً في عراء. إنه منتمٍ وجودي وعن جد. يساهم في تقوية طائفته وينصرها على غيرها. لا يقيم وزناً للاعتبارات الأخلاقية أو للقيم. هو مع طائفته ظالمة أو مظلومة. الأزعر عنده في طائفته أفضل ألف مرة من الآدمي في غير طائفته، وهو يشعر بالانسجام مع نفسه ومحيطه، ويدافع عن التزامه من دون أن يشعر بعقدة نقص. هذا هو الطائفي عن جد. الطائفيون الانتهازيون هم المستفيدون من الطائفية يستخدمون الطائفية عندما تناسب مصالحهم ولا يخدمونها إذا أضرّت بمصالحهم.
فضيلة العلماني نقاوة من هذه اللوثة. أناة بريئة. متحرر ونقدي وقلق. لكنه يحتاج إلى انتماء عبر رابط بجماعة. البديل عن الرابطة الطائفية هي الروابط الاجتماعية المفتوحة أو الانتماء إلى الجماعة العلمانية.
قلّما نجد هذه الرابطة عند العلمانيين الأحرار. يكتفون بفرديتهم العلمانية ولا يلتزمون إلا نادراً بجماعات علمانية. وإن التزموا ما أطاعوا. لم تعد الأحزاب العلمانية جذابة بل هي منفرة. فضيلة العلماني فرادته في مجتمع التجمعات الطائفية واستقلال قراره. خطيئته أنه يأبى الالتزام الذي فرض عليه التأليف مع جماعة، لذلك، نجد في لبنان شكلاً من العلمانيين الذين يختلفون على تفاصيل التفاصيل، وهم ليسوا ديمقراطيين إلا بالكلام.
V ـ لبنان مخلوق طائفي فقط
لكيان لبنان مبرّر مفرد لوجوده. هو ملجأ للطوائف في البدء. كان ملاذاً للمسيحيين الخائفين من محيطهم، الخارجين من حرب مدمرة وفتنة قاسية: إبان القائمقاميتين التقت طموحات ومطامع الفرنسيين في أن يكون لهم موقع قدم في الشرق، مع المسيحيين الخائفين والمطالبين بعناد بجبل لبنان مستقلّ وماروني. لولا ذلك، لكان لبنان هذا مقاطعة من المقاطعات العثمانية، فالعربية. ناضل الطائفيون بدعوى أن لبنان الفينيقي ما زال موجوداً، برغم التبدلات والانقلابات والغزوات… هم اقتنعوا بهذا وسعوا إليه. لبنان هذا كان بسبب المسيحيين الموارنة. هم طالبوا به، فيما كان الآخرون غائبين أو مطمئنين إلى أنهم إما مع الإسلام، أو مع العروبة، أو مع الوحدة. انتصر الموارنة بإقامة كيان، أكبر من حجم طائفتهم، وذلك عبر ضمّ الأقضية الأربعة وعدد من مدن الساحل.
لبنان لا شبيه له في محيطه حتى اندلاع الحروب في المشرق العربي في العشرية الثانية من القرن العشرين. الطائفية ليست فيه بل في أساسه ولا أساس للبنان من دونها.
ولأنه كذلك، فإن حرّاس الهيكل حريصون جداً على حصر السياسة والإدارة في أنحاء أنشطته. لا سياسة خارج الطائفية، ولا إدارة كذلك. لقد كانت الطائفية أقل وطأة في ما قبل الاستقلال، بعده انتظمت وهدأت، إلى أن تحرك الإقليم حول قضايا قومية وتحديداً بعد العدوان الثلاثي على مصر وانتهاج كميل شمعون سياسة معادية لعبد الناصر، فاختلت «اللاآن»: لا للغرب ولا للوحدة. أما عشية الحرب في 1975 فقد كانت الطائفية على سلاحها، وكل سلاح يدافع عن طائفته، لقد بلغت الطائفية بعد الحرب مرتبة غير مسبوقة في الممارسة فأضحت هي الآمر الناهي، وانتظمت الحياة السياسية بين تكتلات طائفية نقية، ما أدى إلى بدعة «الأرثوذكسي» حيث يكون لكل طائفة استقلالها الانتخابي وما يتفرع عن ذلك من حصرية التمثيل ونقاوته، مانعة في ذلك أي تسرّب وطني أو علماني أو لاطائفي.
من الأساس، لم يكن لبنان إلا طائفياً، إنما كانت طائفيته لمرحلة مؤقتة يصار إلى إلغائها بعد فترة. كان ذلك وهماً. لا يمكن الركون إلى لاطائفية الطائفيين ولا يقبل أبداً أن يلغي الطائفي ذاته بقرار منه. لذا، تقدمت الطائفية الصفوف، نابذة غيرها، ولاغية أية إمكانية لتطوير النظام باتجاهات غير طائفية. ولم يكن اللاطائفيون والعلمانيون بقوة اتحاد الطوائف المتنازعة، لذلك لم يكونوا ذوي تأثير في المسار اللبناني. ولما شعروا بتقصيرهم اختاروا الالتحاق بالركب الطائفي.
ليس للعلمانيين حلفاء إقليميون أو دوليون بينما تحظى الطوائف برعايات ودعم وتأييد ونصرة عدد من الدول العربية والأجنبية. للسنة امتدادات عابرة للحدود: مصرية، فلسطينية، سعودية. للشيعة أذرع تمتد إلى إيران والشام والعراق وسواها. للمسيحيين امتدادات تقلصت مع الزمن مع أوروبا وفرنسا سابقاً وسواها لاحقاً. تبدو الطائفة المسيحية متشبّثة بحصنها في الكيان ومصرّة على بقائها الركيزة الأساس نظراً إلى فقدانها الدعم المطلق الذي تحظى به الطوائف الإسلامية. وعليه، فإن التغيير في لبنان محاولة عقيمة جداً، جلّ ما يرقى إليه الصراع الواقعي، هو تحسين الأداء الطائفي، ولمثل هذا الطموح المتواضع ما لا يُحصى من التعقيدات. المرحلة الراهنة هي مرحلة استفحال المذهبية والطائفية في لبنان ومحيطه الذي فتح أبواب الجحيم عليه، عبر تبنّيه العنف.
هل هذا يدعو إلى اليأس؟
السلوك العلماني يدعو إلى أكثر من اليأس لا مفرّ أمام العلمانيين سوى أن يكونوا علمانيين، بشرط أن تأتي علمانيتهم واقعية ومتدرجة وقابلة بأن تخطو خطوات صغيرة، إن إنجازاً مثل إنجاز الاعتراف بالهوية العلمانية للعلمانيين، أي بحذف الإشارة إلى الطائفة في سجل النفوس، يفتح الطريق أمام تكاثر العلمانيين الحقيقيين المستقيلين من طوائفهم وعنها، ويفرض عليهم وضع برنامج لتحقيق موجبات تطبيق علمانيتهم، من داخل النظام الطائفي، إنما ضده وعبر معارضته لإلغائه. العلمانية خطوة خطوة. هي الطريق الواقعية للحضور العلماني الفعلي والميداني.
كل محاولات قلب النظام الطائفي بهدف إقامة نظام علماني فاشلة لا بل كاذبة. الوقائع تصدق على ذلك. لم يحدث أبداً أن قامت حركة بهذا الاتجاه. محاولة الحركة الوطنية ثم اغتيالها عربياً. لبنان هذا الطائفي جداً ضرورة عربية. دائماً كانت الجيوش من كل الاتجاهات، تحضر إلى لبنان لصيانة نظامه. حتى إبان الحرب اللبنانية، كانت تعقد حوارات في الداخل ولجان في الخارج، واتفاقات متعددة، لا يُدعى إليها أي فريق أو حزب علماني. الطائف نموذج. الاتفاق الثلاثي نموذج برعاية سورية. العلمانيون مُقصَون عن المسرح السياسي. يلزم أن يحضروا كماً ونوعاً، باستقلال تام عن الطائفية.
لا بد من القطيعة مع النظام وأهله ومطالبة هذا النظام بحقوق الوجود الحر. عندما يصبح العلمانيون كماً ونوعاً كتلة متراصة بأحزاب أو من دونها، ستكون رحلة الألف ميل قد بدأت. السياسة تأخذ بعين الاعتبار القوى الموجودة. من ليس موجوداً لا قيمة له، ولأن العلمانيين غير موجودين، فإنهم فرادى يائسون، وتجمعات يائسة وأنشطة تدعو للرثاء.
هذا النظام يدكّ من أساسه. أساسه الالتزام الطائفي. ودك هذا الأساس يبدأ بالانسحاب من الطائفية واعتبارها خصماً تلزم هزيمته في مناحي الحياة كافة، تأسيساً على لوائح حقوق الإنسان، التي هي دين المجتمع الجديد.
إلى أن يحصل شيء من ذلك، أمامنا فرصة التفكير والعمل بطرق جديدة وأساليب جديدة. الأساليب الدعائية والخطابية والكتابية القديمة بائدة وفاشلة. المطلوب خطوة قبل الفكرة، والخطوة تليها خطوات. إننا محكومون بهذا الأمل. وإن الحياة العلمانية تستحق إبداع وسائل جديدة للبدء بمسيرتها.
عسى!