كان العام الفائت يلفظ أنفاسه الأخيرة عندما ترك مانديلا العالم، شاهداً على نحو قرن من الزمن (95) عاماً. فكان شاهداً وصانعاً لأبرز تجليات العصر من المعاني الإنسانية والنضالية.
ذلك العملاق في تحدي قوى الاستعمار القديم والجديد، الجبار في سجنه الذي لم يتعد الأمتار القليلة، الثابت الذي استطاع أن يزيح إمبراطورية استمرّت في اعتقادها أنها لن تغيب عنها الشمس، عندما مارست نظام الفصل العنصري ترجمة لنهج بريطانيا الاستعماري.
هزم مانديلا منظومة العالم الحر، كما يدعون أنفسهم، عندما أكد حق شعبه بالمساواة والعلم والعمل من دون عزل.
هكذا كان في حياته، وفي مماته أيضاً، وقف العالم حول جثمانه المسجّى يقول فيه ويعترف مرة جديدة بنضال هذا العملاق.
قال فيه "أوباما" إنه كان ملهمه، وكان بذلك ينطق باسم، ليس دولة الولايات المتحدة الأميركية التي لا تزال تحمي دولة الكيان الصهيوني، بل بما تبقى من "أوباما" الأسود الذي حرّره "ابراهام لنكولن".. فاستطاع أن يصبح رئيس الولايات المتحدة الأميركية، قال كلمته من أجل قاعدته الأميركية السوداء من أصل أفريقي، المعجبة جداً بنلسون مانديلا، وانصرف، بعدها بلحظات، يتفكه مع امرأة شقراء، حسب ما أظهرت الصور.
حضر مأتمه الوداعي في "جوهانسبوع" كل عظماء العالم، من الأمين العام للأمم المتحدة "بان كي مون"، إلى نحو 70 رئيس دولة، حالياً وسابقاً، في ملعب يتسع لنحو مئة ألف شخص، هتفوا جميعهم، "ماديبا" أو "تاتا ماديبا"، وفي ذلك عودة إلى لقب قبيلته له الأب المشاكس.
هذا الحضور الحاشد، جمع تناقضات كثيرة، من أميركا إلى كوبا، إلى بوش، إلى "كاسترو راوول"، حيث كانت المصافحة، حسب التفسير الأميركي، شكلاً دبلوماسياً فرضته المناسبة وليس الاعتراف.
مانديلا حامل جائزة نوبل للسلام العام 1993، كان من أكثر الشخصيات إثارة للجدل في العالم، فهو حمل ميدالية الرئاسة الأميركية، كما حمل وسام لينين من الاتحاد السوفياتي سابقاً، السجين الأكثر شهرة في العالم، بعد سبع وعشرين سنة قضاها في السجن الانفرادي، منذ العام 1962 ولغاية العام 1990، ومن زنزانته الرطبة التي أصيب فيها بمرض السل، استطاع أن يثير اكبر حملة تضامن دولي مع قضية شعبه وبلاده، التي استعمرها الانكليز ليسقطوا عليها العام 1948 نظام الفصل العنصري "الأبارتيد".
خرج منه ليصبح أبا الأمة، في بلاد تشهد حرباً أهلية، وتمييزاً عنصرياً بين البيض والسود، تمييزاً في حق العمل والتعلم والسكن والانتقال والانتخاب، فأكد مانديلا عند خروجه من السجن، الالتزام بالسلام والمصالحة مع الأقلية البيضاء، ولكنه كان مشدداً على عدم إنهاء الكفاح المسلح لحزبه، حزب "المؤتمر الوطني الأفريقي"، مشترطاً لذلك موافقة حكومة الفصل العنصري على المفاوضات.
خرج من سجنه بعدما اضطر سجّانوه لذلك، واستأنف نشاطه مستفيداً من قوة موقعه، في ضمير شعبه، وقوى التحرر في العالم، وكانت له جولة أفريقية التقى خلالها سياسيين ومشجّعين، آزروه بفرض العقوبات على دولة الفصل العنصري في "بريتوريا". وأيضاً إلى القارة البيضاء، فالتقى آنذاك "ميتران" و"تاتشر" ثم إلى كوبا، حيث التقى صديقه "فيدل كاسترو" ثم إلى الولايات المتحدة واللقاء مع "بوش" الأب، من دون أن يخفي مناهضته للسياسة الأميركية في العالم الثالث، لاسيما قضية فلسطين، وإظهار موقفه الرافض للعنصرية الصهيونية، هذا الموقف الذي أحرج الساسة والإعلاميين الأميركيين من دون أن تحرجه، لكونه كان مقتنعاً باستمرار، بتماثل الواقع بين نظامي جنوب أفريقيا ودولة "إسرائيل" المغتصبة لفلسطين، لجهة وحدة المنشأ من رحم الاستعمار الأوروبي الاستيطاني العنصري.
فالمفارقة واضحة، أن الحزب الأبيض في جنوب أفريقيا، أخذ منذ العام 1948 يطبق نظام "الأبارتيد" العنصري رسمياً، فعزل الأفارقة السود، الذين يشكلون 20 مليوناً، في مناطق خاصة بهم، وأخضعهم لحكم أربعة ملايين من البيض الأوروبيين، يقول "مانديلا" بصدد المقارنة بين فلسطين وجنوب أفريقيا: لم تبدأ القضية الفلسطينية العام 1967، بل منذ العام 1948. و"إسرائيل" لا تريد قيام دولة فلسطينية، بل ما يجري هو فصل وعزل في محميات وتطهير من العرق العربي، ودليله على عنصرية القضاء "الإسرائيلي"، الذي تتباهى فيه الدولة الصهيونية والعالم الغربي، أن هناك مقاربة مختلفة لحياة الإنسان، إذ أن حياة الفلسطينيين هي على درجة أدنى من حياة اليهود.
إنها مقاربة صحيحة، حيث لا يزال نحو عشرة آلاف فلسطيني يقبعون في السجون "الإسرائيلية"، وبقرارات سجن تصل بعضها إلى مدى الحياة، ولولا الحركة السجنية التي تتفاعل الآن داخل هذه السجون، أو حتى بمقايضات وصفها قادة "إسرائيل" أنفسهم، إنها مقايضات عقارية، مقابل الإفراج عن بعض السجناء، بقصد إنشاء المزيد من المستوطنات.
هذه المواقف التي تمسك بها "مانديلا" في مواجهة الاستعمار القديم والجديد وأطلقها خلال رئاسته العام 1998 لحركة عدم الانحياز، لاسيما وأنه سبق له، قبل سجنه، أن تعرّف على روحية هذه الحركة، وعلى الرواد المؤسسين لتلك الحركة قبل دخوله السجن العام 1962، عندما كان مسافراً بالسر إلى خارج جنوبي أفريقيا، مفتشاً عن سند عسكري وسياسي لقضية شعبه، منتدباً عن حزب المؤتمر الأفريقي، فالتقى في أثيوبيا الإمبراطور "هيلا سيلاسي"، ثم الرئيس المصري جمال عبد الناصر، إلى لقاءاته بقادة الثورة الجزائرية، وحصوله على مساعدة مالية من الرئيس التونسي حبيب أبو رقيبة.
وعندما تولى رئاسة الجمهورية العام 1994 غداة فوز حزبه بإقرار حكم الأغلبية، أطلق على أمته لقب "أمة قوس القزح" وبدا حريصاً على الأقلية البيضاء، ومن جهة أخرى استمر بتضامن بلاده مع القضية الفلسطينية، وفي يوم التضامن مع فلسطين العام 1997 وجه رسالة رسمية أكد فيها حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، وتأكيد حق العودة، وبهذه العناوين واجه "الإسرائيليين" عند زيارة الكيان الصهيوني العام 1999 مؤكداً ضرورة الانسحاب من الأراضي المحتلة، في فلسطين والدول العربية.
ناصر مانديلا "فلسطين"، بعد تقاعده، واقتصار نشاطه العام على منظمة "الحكماء في العالم". فندد بحصار غزة، وأدان الممارسات "الإسرائيلية" لاسيما لدى محاولات خرق الحصار عبر أسطول الحرية.
في دفتر حياته نحو مئتين وخمسين جائزة دولية، نالها تقديراً لنضاله الذي هزم نظام الفصل العنصري، في جنوب أفريقيا، ولتكريس حياته في سبيل حق شعبه بالمساواة والحياة الحرة الكريمة.
لقد ناضل ضد الاستعمار بكل وجوهه، وسعى إلى تثبيت أهدافه السياسية التي تتلاءم مع أهداف حركة عدم الانحياز، بتأكيد حق الشعوب بالاستقلال وتقرير المصير، ومواجهة الاحتلال للدول، ومن هنا كان رفضه لاحتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية، ومن هنا كان رفضه لجائزتين من تركيا، نظراً لممارساتها، حيال الأقليات فيها.
في وداعه، الغائب الأبرز عنه كانت دولة "إسرائيل" الدولة العنصرية الوحيدة في العالم، التي لا تزال تحظى بدعم أولياء الغرب الأبيض، الاستعمار الجديد، الذي يتساوى فيه عنده القاتل بالضحية، فيمارس سياسة الصيف والشتاء على سطح واحد. وبينما تنشئ "إسرائيل" جدار فصل عنصرياً، يبتر الأراضي الفلسطينية، نرى العالم يسارع إلى إزالة جدار برلين، وفي موازاة ذلك كان الغياب واضحاً للعرب وها هي القيادات الفلسطينية، ضائعة في اتفاقات تكبلها، وتعاكس مواثيق حركة التحرر الفلسطيني التي لا يزال مطلوباً منها، تأكيد حق العودة، ومواجهة الاستيطان وعنصرية الكيان الصهيوني.
أبو الأمة، المشاكس، "مانديلا" أغضب الكثيرين لكنه افرح بلاده وشعبه، وبموته يفتقد الأحرار صديقاً كبيراً، وتخسر القضية الفلسطينية مناصراً عنيداً، لا ينحني، ولا تغريه المناصب بل هي ترنو إليه.
نموذج رثاه رئيس أميركا معترفاً بنضاله عندما قال "تعلمنا منه الكثير وسنذكره على الدوام أيقونة في ذاكرتنا". هو مديح كلامي تتقنه أميركا وتمارس نقيضه، فيما العرب يضيعون كما تضيع فلسطين بالاتفاقات، وها هم العرب يتلهون بربيع يجرف منطقتهم، ويقسمهم من جديد، والغرب المستعمر، أفكاره الولادة تضعفهم، وتفرقهم، تارة بالطائفية وطوراً بالمذهبية فيما هو يريد مواردهم، وهم لا يزالون يفتشون عن جنس الملائكة في معارك "دونكيشوتية"..
نلسون مانديلا نموذج تفتقده القضايا العربية
112
المقالة السابقة