ينهمك السوريون اليوم في كتابة نصّهم الجديد، بكامل كارثيته واحتمالاته واقتراف التجريب فيه.. وفي حين يعمل البعض بهدوء على روايات تتعلق مباشرة بالأحداث، فإن أبرز معالم النصوص تظهر في الشعر الذي يطل عبر نوافذ الفيس بووك أو على هيئة كتب ألكترونية، فالمعجم السوري الجديد يؤكد أن ثمة انقلاباً في أفق الكتابة بدأ يتشكل مع شهور الأحداث الأولى حيث تفاجأ السوريون بوقوفهم وجهاً لوجه أمام قضايا من العيار الثقيل تتعلق بالانتماء والحرية والإسلام السياسي وما نتج عن كل ذلك من تطرف وطائفية وانهيار منظومة كاملة من الخطوط الحمر التي كانت حتى وقت قريب تعد من المحرمات.. نعم المعجم السوري يتشكل بطريقة مختلفة هذه المرة ويضيف إلى القاموس مفردات قاسية وناتئة في الذائقة التي استكانت زمناً طويلاً وأدت فيما أدت إلى أحكام نقدية راحت تجزم بسلسلة مآزق تعصف بالشعر وتهدد بترجله من مكانته العالية كديوان للعرب ليتحول إلى ما يشبه التراث!.
يستطيع متتبع النص السوري أن يكتشف مباشرة موضوع شق عصا الطاعة على عدمية الحدث، ويعثر على كثير من ردات الفعل التي قسمت الكتاب إلى أجزاء على صعيد المواقف، أما على صعيد الكتابة، فهناك كتابة تنمو في الظل وهي تنتمي إلى السرديات في الغالب، أما الشعر، فبقي الفن السريع القادر على اقتناص اللحظة وطبعها مباشرة "كبوست" على الفيس، أو عبر المساهمة في إنشاء لقاءات أدبية أخذت شكل الدفاع بالكلمة عن مفهوم الحياة في دمشق كمدينة تعد الأقدم في العالم، وهنا كان على الشعراء أن يقاوموا التلاشي برهانهم على النص الذي يكتب الآن وأن يرفعوا وتيرة التجريب فيه إلى الحدود القصوى تمشياً مع سخونة الحدث وزخم المفردات الهائلة التي راحت تطفح من المخيلات كأنها تقول للناس: اكتبوني.. في هذا الجو، نشأ منذ عدة أشهر لقاء أسبوعي شاء أصحابه تسميته "ثلاثاء شعر" يقام كل يوم ثلاثاء في مقهى بدمشق القديمة، وهو عبارة عن ورشة عمل إبداعية تقتفي أثر النص الراهن بهدف الإضاءة عليه وإغنائه عبر الحوار والتواصل بين الشعراء، بالإضافة إلى صياغة عناوين إشكالية لحلقات الحوار التي يستضيفها اللقاء كموقف الإسلام من الشعر، والعلاقة مع النص الآرامي السوري القديم، والانعطافات التي سببتها الذائقة الصحراوية بعد دخول الإسلام للمنطقة والخلط الذي حدث بين الماورائيات وموضوع الإلهام الشعري.. كلها قضايا تحضر بقوة في "ثلاثاء شعر" الذي أفرد مساحات لشعراء ضيوف لهم تجارب مهمة في الكتابة، فاستضاف عبر خدمة "سكايب" الشاعر السوري محمد عضيمة من اليابان، كذلك أقام حوارا مع الشاعر منذ مصري عبر "الشات" من اللاذقية، وفي خطوة أرادها من أجل البحث عن الشعرية في الفنون الأخرى، استضاف اللقاء فنان الكاريكاتير هاني عباس الذي يعد من أبرز الفنانين الذين واكبوا الحدث السوري برسوماتهم.. هذا اللقاء يشكل جانباً مهماً من المشهد لأنه يقدم مجموعة من الأسماء الشابة غير المكرسة في المشهد الشعري، وهم في الغالب ممن لم يطبعوا مجموعات شعرية إنما نصوصهم تشير إلى معالم ذلك النص الذي يمكن تسميته بالجديد سواء على صعيد الذائقة والأسلوب والحساسية التي تقف وراء انتاجه.. في هذه الكتابات نعثر على الكثير من المفردات الجديدة مثل "القناص، القذيفة، الحواجز، الإرهابيين، التطرف…" وربما تكون أهم مفردة يُحتفى بها هي "الموت" ومترادفاتها رغم أننا لا يمكن أن نصف هذا النص بالكئيب أو المتقهقر تبعاً لسوداوية الألفاظ فيه، فمن يتدرج مع زمن كتابة هذه النصوص يكتشف موضوع التأقلم مع هول الحدث على أكثر من صعيد خاصة في تمرد هذا النص وتغريده خارج سرب المألوف واستحضاره الأسئلة الساخنة حتى في حالات قصائد الحب.. في هذا اللقاء تبرز أسماء جديدة مثل: أحمد ودعة، معاذ زمريق، أحمد سبيناتي، أحمد علاء الدين، جوزيف حداد.. وجميعهم شباب عشرينيون يقولون إنهم قضيتهم الأهم اليوم هي اقتفاء النص الراهن والجديد.. من فضاء هذا اللقاء، يقول معاذ زمريق في نص بعنوان "بكتيريا الكره لهذا العالم":
"أشعر بالضيق نحو هذا العالم
المقيت كربطات العنق
الغبي كأبناء الملوك
أغني بصوت مبحوح عن الوطن
و الحرية
و أبتلع حبوب منع الحب مع البيرة
كما كنت أرضع الرعب في طفولتي
أفلام الرعب في الطفولة
ليست عن "الزومبي" كما اليوم
أفلام الطفولة كانت عن "الله" !!
أغني بصوت مبحوح عن الحرية
و الوطن
تفوح مني بكتيريا الكره
و حانقٌ جداً
على الكتب التي تُشعل حطب عزلتي
على زوربا القديس و غريغوري المسكين..".
على ضفة أخرى، فإن لقاء أسبوعياً آخر أيضاً يقام كل يوم أربعاء تحت عنوان "شعر وخمر" في مشغل الفنان مصطفى علي بدمشق القديمة، وهو أشبه بالاحتفاء بالشعر إذ يقتصر على القراءات التي يقدمها الحاضرون حيث الهدف الأهم هو المحافظة على حيوية الحياة في المدينة رغم ما تكابده من ظروف صعبة… هذان اللقاءان يشكلان الواجهة الحاضرة إعلامياً على صعيد العمل الجماعي المختص بالأدب والشعر، وهما يقدمان بالتالي تلك النصوص التي تبدو وهي تشحذ ذائقتها المختلفة كمقدمة ربما تشكل انعطافات في النص السوري مستقبلاً..
يعتقد كثيرون أن تأثيرات ما اصطلح على تسميته "الأزمة السورية"، سيؤدي لولادة كتابة تتجاوز الأزمات التي يتم تداولها نقدياً بشكل كبير منذ سنين طويلة، فما تحدثنا عنه من فضاءات جديدة بدأت تدخل بقوة إلى القصيدة السورية وتدفع الشعراء إلى البحث عن أدوات مختلفة وتقنيات غير مستخدمة، أصبح هو القاسم المشترك بين جميع من يزاولون الأدب اليوم، فمن النادر أن تلتقي كاتباً لا تكتشف أنه يعمل على نص فيه تجريب مختلف عن السابق، حتى فيما يخص السرد والرويّ، فإن مشاريع الكتابة تبدو على قدم وساق وهذا أمر واضح من أخبار الكتاب أنفسهم..
على جدران الفيس بووك، جزء مهم من المشهد الشعري السوري الذي ينتظر الظروف المناسبة من أجل طباعته أسوة بالدواوين المكتوبة في الظروف العادية، هذه المشاريع تبدو مؤجلة إلى حين استقرار الأمور، لكن بعضهم عمد إلى إصدار مجموعته ضمن كتاب ألكتروني، مثل الشاعر قيس مصطفى مثلا، أما هوية النصوص وشخصيتها فتظهر منطوية تحت البند الذي شرحناه سابقاً وهو المفردات الجديدة وشحذ الأدوات والبحث عن ضفاف تختلف جذرياً عن السابق.. يكتب الشاعر عادل محمود في أحد "بوستاته" على الفيس:
"الغضب… فائض الزحمه.
الخذلان … فائض الوحده.
الصرخة ، أو الصمت ، كلاهما يعني …
ان الحياة في مكان آخر "!.
في حين تبدو نصوص الشعراء الشباب حاملة ملامح مختلفة، يكتب الشاعر الشاب أحمد ودعة على صفحته:
"فتشوا في جيوب الخراب
ومحفظته
ستجدونني مدوناً في السطر الأول
من جدول أعماله اليومية..".
في جميع الأحوال، فإن فن الشعر يظهر المرشح الأول للظهور بسرعة أكبر من الفنون الأخرى تبعاً لتقنيات كتابة الشعر وسهولة نشره على الانترنت، وتفضيل الناس قراءة المقاطع القصيرة على الشبكة أكثر من نصوص السرد والمطولات، تلك النصوص التي تنتظر طباعتها في كتب ريثما تهدأ الأحوال كما يقول الكتاب، تقترح ذائقة مختلفة وأسلوبية ربما تتبلور في المراحل القادمة على نحو أكثر وضوحاً ونضوجاً، حيث القاسم المشترك بين جميع الكتاب رغم اختلاف ألوان الكتابة لديهم، هو كيفية خروج نص الأزمة الذي يكتب اليوم، من أزمة النص التي ورثها من تاريخ طويل؟.
نص الأزمة يتمرّد على أزمة النص! الكتابة السورية في تداعيات الأحداث والإنشغال بالتجريب
113