هذا وقت الحساب، أو، بلغة الكتاب، في إنجيله اليسوعي، وقت الوزنات… فماذا فعلت أيها الرجل طيلة أربعين عاماً؟ تفاؤلك النهضوي، لم يعثر على مكان إقامة، لا في بلدك ولا في ناسه…
الكلمة التي امتشقتها، منذ بداية «الستنسل»، انكسرت أمام سطوة السلطة. السلطة التي امتنعت عن تقبيل يدها، وآثرت أن تكسرها، طمنتك. الدين الذي حاولت اجتنابه وتجنب السياسة فيه، صار ملء الخنادق والطوائف، فلا صوت يعلو فوق الله، في خيارات أبنائه المرعبة. الحرية التي كتبت عنها، ظلت أسيرة السجون والقمع والاستبداد وأنظمة احتقار شعوبها.
الوطن الذي كنت ذاهباً إليه مع كوكبة من حملة الأقلام والناطقين بالكلمات، لم يرَ النور بعد. العلمانية التي جعلتها أحد أعمدة الهيكل، لم تجد إلا ما تداعى منه. لا علمانية ولا حرية ولا مواطنة مع الركام. وكنتَ، في تحولاتك، مؤمناً بأن الإنسان شرع أعلى بما يملك من عقل وخلق وإبداع… النتيجة: وداعاً أيها الإنسان.
أكثر من نصف قرن عربي، كان من أجل استبدال الإنسان، بأي كيان. أكان من صنف النبات أم صنف الحيوان. دُرِّب الإنسان على الخضوع والطاعة والامتثال. مرة للنظام، مراراً للسلطة، دائماً لعمال وأخيراً للدين، بعدما استلبت منه الروح، فتحول من آية إلى آفة.
وتصرُّ على الاحتفال.
لا بأس. نهنئك في كل حال. ما زلت مصراً على «تحولات» تنبئ بانتصار الحداثة، قيماً وأخلاقاً وأوطاناً ومعارف. إصرارك فضيلتك وفكرك ضوؤك ويقينك.
أنا لست من المؤمنين. أدين بالشك، ويريحني الاستسلام. فمن تكون يا صديقي؟ إنك الأقرب إليّ، وأسألك: من أنت؟ تلتبس عندي: أنهمك ولا أتفهم عنادك.
لعلني أجد تفسيراً في هذه المناسبة. قد تكون مأخوذاً بالأفكار والقضايا أكثر مني. أعترف أنني طالق منها. إيمانك بالنهوض، لا يكل بعد كل كبوة. تعيد التجربة، تبتدع مشروعاً، وأنت ولادة مشاريع. أعترف أنني سريع إلى إعلان هزيمتي. عقيدتي هي إشهار اليأس البناء. أخشى اليوم، أن أشهر اليأس الحاف.
من أنت من جماعة «أضئ شمعة بدل أن تلعن الظلام»؟ أعترف أنني كلما رأيت شمعة ضئيلة الضوء، قارنتها بقامة العتمة، فأشفق على نحول الشعاع… وتصر على أن تكون شعاعاً يحترف، فيما الحرائق تزين البلاد بالدم والقتل والسفك. الظلام في أمتك أقوى من شموعك.
من أنت؟ أهو إيمان عندك وإصرار لديك وطريقة لك؟ ألا تتعب؟ أم تصرّ على أن سيزيف، لا بد وأن يحمل الصخرة ويمنعها من السقوط ذات عصر؟ أعترف أيها الصديق الأقرب إلى عقلي وقيمي، إنني أكتشف الهاوية قبل الهجس بها. لديّ، من سياقات التاريخ، أن قانون التقدم هو استثناء، وقانون التأخر هو القاعدة، ونحن من سلالة الضياع، في كل دين وطائفة وأحزاب وسلطات يهيمون. التأخر مستقبلنا. إذا قورن بماضينا في مئة عام، تحسّرنا على بهاء هزائمنا. إنها حرب وجود حقيقية، منا وفينا.
ومع ذلك… فإنني أهنئك. لديك فضيلة ليست عندي. النقص عندي، هو اكتمال تملأه الوقائع. الفضيلة عندك، اكتمال الأفكار تملأها بالمحاولات والتجارب، و«تحولات» هي من هذه الفضائل.
ليتني أنتَ.
إنما، القناعة كنز. أنا مقتنع بك شعلة، وقانع بما أنا عليه من بؤس الوقائع… هذه البلاد، تريدها كما تحلم، ولا أجدها، إلا كما لا تحلم.
أربعون عاما؟
تستحق الشكر من ناكرٍ مثلي. وتستحق التقدير، من الجميع.
وفي كل الأحوال، هذا النقيضان، أنت وأنا، نشكّل معنى واحداً بطريقتين. لعل طريقتك هي الفضلى.