فرضت ظاهرة العولمة نفسها بقوة في العقدين الأخيرين، وكُتب حولها الكثير تأييداً أو دحضاً أو تحليلاً في كل مستوياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والعلمية؛ ولم يقصّر الباحثون العرب في هذا المجال وسال حبرهم غزيراً، خاصة أصحاب التوجهات الإسلامية، والعناوين أكثر من أن تحصى*، حتى ليتساءل المرء: هل من جديد يُضاف الى هذا الموضوع؟ إنها حقيقة يدركها الباحث الدكتور عاطف عطيه ويشير إليها في مقدمة كتابه "الثقافة المعولمة"، ومع ذلك آثر المغامرة وهاجسه تحليل علاقة الثقافة العربية بالعولمة وكيف تعامل العرب مع العصر الذي يعيشون فيه. لا يدّعي الكاتب أنه يقدّم قراءة غير مسبوقة، إنما بالتأكيد هو يقدّم لنا قراءة مفيدة وإضاءة قيّمة على هذا الموضوع الشائك. فهو الى جانب موضوع تعامل العرب مع ظاهرة العولمة، لجأ الى المقارنة ودرس كيفية تعامل بلدين كبيرين مع هذه الظاهرة محكومين بإيديولوجيتين متقابلتين وشموليتين في تعاطيهما في أمور الاجتماع والسياسة: الصين الشيوعية وتركيا المسلمة، وإن كانت ذات نظام علماني. إنها مناسبة للنظر الى كيفية المواءمة بين العولمة والإيديولوجيات الوطنية "المحلية". وما يميّز هذا الكتاب أيضاً هو بحثه في تداعيات العولمة وتأثيرها في السلوك اليومي للناس، فيختار لذلك ثلاثة موضوعات: العلاقات داخل الأسرة العربية، اللباس، والتعاطي مع كبار السن.
العولمة والثقافة
يلتقي الدكتور عاطف عطيه مع معظم الباحثين في تحديده لثقافة العولمة، سيما مع محمد عابد الجابري في كتابه "العولمة والهوية الثقافية" (دار المستقبل، 1998) حيث يعرّف هذا الأخير العولمة بقوله: هي "العمل على تعميم نمط حضاري يخص بلداً بعينه هو الولايات المتحدة الأميركية بالذات على بلدان العالم أجمع" وهي أيضاً أيديولوجياً تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته". أي محاولة الولايات المتحدة
*"العرب والعولمة" (محمد علي الحوت)، "الثقافة العربية في عصر العولمة" (تركي الحمد)، "ثقافة العولمة، وعولمة الثقافة" (برهان غليون وسمير أمين)، "انهيار مزاعم العولمة" (عزت السيد أحمد)، "العولمة والحياة الثقافية في العالم الإسلامي" (عبد العزيز التويجري)، "العولمة المزعومة" (روجيه جارودي)، "العولمة وآليات التهميش في الثقافة العربية" (أحمد مجدي حجازي)، "الخروج من فخ العولمة" (كمال الدين المرسي)، "الإسلام والعولمة" (محمد ابراهيم المبروك)، "الإعلام العربي وتحديات العولمة الثقافية" (راضية الشرعبي)، "الإسلام في عصر العولمة" (محمود حمدي الزقزوق) الخ.
إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها الاقتصادية والسياسية، ويتركز أساساً على عمليتي تحليل وتركيب للكيانات السياسية العالمية، وإعادة صياغتها سياسياً واقتصادياً وثقافياً وبشرياً، وبالطريقة التي تستجيب للمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة الأميركية. إننا هنا إذاً أمام منظومة من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك، يُراد بها إكراه العالم كلِّه على الاندماج فيها والعيش في إطارها.
لكن الباحث الدكتور عطيه يتساءل: إزاء هذه السطوة الأميركية، هل من سبيل للعولمة الإنسانية؟ باعتقاده، المنفذ الوحيد هو التوجه الى العالم المتقدم الصناعي والتقني الذي يظهر اليوم، وإن بكثير من عدم الوضوح، خارج إطار الهيمنة والمنطق المعولم على الطريقة الأميركية. وهذا العالم، وفق الكاتب "هو أوروبا، والغربية بالتحديد، نواة الاتحاد الأوروبي الذي عمل ولا يزال يعمل على ضم أوروبا بكاملها دون الإفساح في المجال، قدر الإمكان، للتدخل الأميركي في ظروف التشكّل وكيفيته، أو في الدول التي عليها الانضمام اليه. هذا الاتحاد الذي وصل الى مرحلة متقدمة، حتى على المستوى السياسي، لا ضرورة له – كما يقول الكاتب – إلا من أجل اختطاط مسيرة معولمة جديدة أكثر رأفة بالإنسان وأكثر احتراماً للديمقراطية والحرية والمساواة بين الشعوب" (ص. 42-43). هذا هو المثال إذاً، ومن هنا دعوة الباحث لتعميق الشراكة الأوروبية – العربية. لكن تجدر الملاحظة أن أوروبا هي بدورها بناء سياسي معقد، ونقول بأسف إن كل الخطوات التي اتخذتها الى الآن والرامية الى تشكيل قوة قادرة لم تستطع تكوين هوية أوروبية مستقلة بإمكانها التخلص من الهيمنة الأميركية. أوروبا اليوم هي في صلب مجموعة العشرين التي تستهدفها الحركات المناهضة للعولمة. هل ترانا نراهن في هذه الحال على صعود الصين أو الهند أو روسيا؟ الجواب عند الكاتب بغاية الوضوح: ترسيخ مكامن القوة في ذواتنا، وذلك عبر ما يسميه "أهمية التكامل العربي". بالنسبة لعاطف عطية، لا مجال لوجود عربي فاعل اليوم، أو في المدى المنظور، إذا لم ينهج نهجاً مغايراً في أمور السياسة، وفي العلاقات العربية – العربية، كأنظمة ومجتمعات، وفي العلاقات العربية – الدولية: "على هذا النهج أن يكون، في كل الأحوال، ذا توجّه وحدوي في إطار البيئات الطبيعية التي يتألف منها العالم العربي، أو اتحادي – تنسيقي في البداية، إذا صعب التوجه الوحدوي، على المستويات كافة، وخصوصاً على المستوى الاقتصادي، ومستوى النظر الى الأمور الدولية ولاسيما العلاقات مع الدول المتقدمة، وعلى رأسها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول جنوب شرق آسيا؛ وتحديد العلاقة مع هذه الدول بما تقتضيه المصالح العربية العليا" (ص. 64-65). ما من عاقل إلا ويؤيّد هذا الكلام مع إدراكه بأنه مُغرق في المثالية، خصوصاً حين ننظر الى واقع حال العالم العربي الذي ينحو الى التشرذم والضياع لا الى التوحد.
نموذجان مغايران: تركيا والصين
يمثل النموذج التركي للتعاطي مع ظاهرة العولمة مثالاً يحمل مدلولات كثيرة. فتركيا تنتمي الى الإسلام ديناً وحضارة، لكنها أيضاً ذات نظام علماني. ارتكز الكاتب على دراسة تركية قام بها باحثان انطلقا من فكرة أساسية تعتبر أن العولمة ليست ضد الإسلام ولا ضد المسلمين، بل إنها حفّزت المجتمع التركي بعناصره الحديثة والتقليدية الإسلامية على الدخول في فلكها؛ أولاً لأن الإسلام قابل لأن يتعولم، والاقتصاد كذلك؛ وثانياً، لأن الاقتصاد لا بدّ أن يكون ذا قوة عالمية لا يمكن لجمها. وهنا يمكن أن تتمفصل قوتان عالميتان لهما القابلية المؤثرة في توجه العولمة وفي مسارها، هما الإسلام كحضارة وتوجّه عالميين، واقتصاد لا مكان فيه للإقليمية أو المحلية إلا بقدر استجابته للمنطق المعولم. لكن السؤال المحوري يبقى هو إياه كما في التجربة العربية: ماذا يمكن أن يحصل نتيجة تصادم القيم الغربية الناشئة من تجليات العولمة، مع القيم المجتمعية التركية الناشئة من تاريخ الأتراك الطويل، ومن قيم الحضارة الإسلامية والمشرقية؟ إن التجربة التركية تتمتّع بسمات خاصة، فالعولمة الثقافية، كما مصادر الحداثة في تركيا ليست وليدة الاقتصاد ولا العولمة الاقتصادية، بل هي نتيجة سيرورة ثقافية طويلة تمخض عنها المجتمع التركي نتيجة تجربته الطويلة مع العلمنة. بدأت هذه المحاولة الفريدة بنقد الفكر العلماني التركي باعتباره المصدر الوحيد للحداثة، والتفكير بالبديل الذي لم يكن سوى الإسلام السياسي. إلا أن القيّمين على شؤون الإسلام "الحديث" يعتبرون أن الإسلام السياسي لا يستقيم نهجه بدون التفكير الفعلي بالحداثة والعيش في قلب العصر؛ ما يعني البحث في مسألة الديمقراطية، فكراً وممارسة، وتنمية الاهتمام بالمجتمع المدني ومؤسساته، والبحث في فكرة المواطنة وترسيخها في الذهنية العامة وتنمية الوعي بالحقوق والواجبات.
إن سرّ نجاح التجربة التركية يكمن في المؤالفة بين التقليد والحداثة، ذاك أن العولمة تشرّع الأبواب لإيقاظ التقاليد ونشر التراث، وإظهار كل ما هو محلي باسم العولمة، وباسم التراث الإنساني. وإذا كان على العولمة الثقافية أن تتعايش مع الثقافات الوطنية والمحلية، فليس على ذلك أن ينتهي لا بأسلمة الحداثة ولا بحدثنة الإسلام، على حد قول جيرار لوكلير في كتابه "العولمة الثقافية". من هنا يمكن للتفاعل المتسامح والمنفتح أن ينتج عالماً "تتعايش فيه بسلام تعددية التقاليد وحيث تجد العديد من الحداثات مكاناً مشروعاً لها، بما في ذلك الحداثات الإسلامية".
تُعتبر التجربة التركية الحديثة في النهوض بالدولة والمجتمع أحد أهم نماذج النهوض على المستوى الاقليمي والإسلامي بل والدولي. فالتأكيد على الهوية التركية وعلى الخصوصية التركية ترافق مع خطط تنموية واقتصادية ضاعفت من مؤشر دخل الفرد ومن حجم الإنتاج ومن تسجيل معدل نمو هائل؛ أما الركيزة الأساسية فنهضة علمية وتعليمية قائمة على قناعة راسخة بأن التعليم يشكل حجر الزاوية لمشروع النهوض، ويرافق ذلك إعلام قوي يركز جهوده على إقناع الناس بحتمية النهضة التعليمية لرفع مستوى المعيشة وتحسين مستوى ونوعية الحياة في تركيا. بعد أن تحصنت بقوتها الذاتية، تمكنت تركيا من الالتفات الى الخارج بثقة، وهي لا تخشى الدخول في الاتحاد الأوروبي، لأنها لن تكون الجناح الأضعف ولا تتصرف كتابع يتلقى الأوامر في حلف شمال الأطلسي. صحيح أن النموذج التركي خاص بالأتراك انما يمكن استلهام التجربة التركية لا استنساخها، عبر القيام بإصلاحات في مجال التعليم، وتحقيق التقدم الاقتصادي، وإرساء الاستقرار السياسي والاجتماعي. إنه مشروع النهوض بالدولة والمجتمع للدخول الى العولمة كشريك لا كمتلقٍ دائم.
هذا أيضاً ما أدركته الصين التي لم تستطع البقاء بمنأى عن تأثيرات العولمة فعملت على تنظيم العلاقة بين ايديولوجيتها القائمة على ملكية وسائل الإنتاج، والإيمان العميق بالعقيدة الماركسية اللينينية – الماوية، وبين العولمة وثقافتها الاستهلاكية وايديولوجيتها المبنية على حرية التبادل في سوق حرة عالمية. من هنا عملت الدولة على حماية النواة الصلبة للثقافة الصينية من التأثيرات القوية للثقافة الأجنبية وتداعياتها على الساحة الصينية، فقامت بخطوات هامة لتقوية وسائل الإعلام الوطنية عن طريق الإدماج لمواجهة الإعلام الغربي بكل وسائله. وقد حظيت السلطات الصينية بدعم الكثير من منظمات المجتمع المدني الصيني لحماية الصناعة الثقافية القومية والتراث والهوية الوطنيين. في المقابل انخرطت في منطق العولمة واتجهت الى الانفتاح وجلب الاستثمارات، وكل ذلك استدعى مرونة متزايدة للنظام لامتصاص هذه التحولات وإدارتها بما يتناسب مع ايديولوجيا الدولة القوية. هكذا رأينا الصين تلتزم منهجاً براغماتياً، فاستوعبت حقيقة وواقع التحولات العالمية ومقتضياتها وضرورة الانفتاح والبعد عن الجمود الفكري، وبالتالي خلقت لنفسها إطارها الأساسي الاقتصادي السياسي الجديد الذي يمثّل موقعاً وسطاً بين الرأسمالية التقليدية والاشتراكية التقليدية. من هنا نجح نظام الدولة الصيني في التحول الهادئ من نظام هيمنة دولة بيروقراطية الى نظام قادر بقيادة الدولة على الاندماج في الاقتصاد العالمي. وتتجلّى عناصر السياسة الجديدة للصين في عصر العولمة والانفتاح القائم على المنافسة بتسريع تطوير العلم والتكنولوجيا والتعليم ودعم التطوير الثقافي والأخلاقي، والتوسّع في استخدام التكنولوجيا وتطبيقها في الإنتاج، وتعزيز جهود إصلاح نظام الإدارة، وتعميق الإصلاح التعليمي، والانفتاح أكثر على العالم واستخدام التمويل الأجنبي والتوسّع في التصدير. اقترن بهذا المخطط جهود حثيثة وهادئة للإصلاح التشريعي والديمقراطي. وقد حققت الصين إنجازات ملموسة تدريجية في هذا الاتجاه، مع إعطاء الأولوية للاقتصاد، متحاشية بذلك خطأ الاتحاد السوفياتي، كما عبّر عنه دينغ هسياو بينغ : "الخطأ الأكبر الذي وقع فيه غورباتشيف أنه سمح بالحرية السياسية قبل تجديد الاقتصاد".
يخلص الدكتور عطيه بعد تحليل هذين النموذجين الى القول: "مثال الصين يبيّن أن لا إمكانية لشمول العولمة ومنطقها الغربي أصقاع العالم كافة. كما أنه يبيّن، كما المثال التركي، أن العولمة قابلة للتلوّن، وخصوصاً في جوانبها الثقافية، بتلوينات المجتمعات الإقليمية التي تحط رحالها فيها. كما أنها قابلة لأن تتحوّل الى عولمات كثيرة، على قدر ما هو موجود من حضارات، أو مجتمعات وازنة، على صعيد العالم كله" (ص. 157).
الخيارات العربية؟
نعود الى الهاجس الذي أملى بنظرنا على الدكتور عطيه مشقة البحث: ماذا نفعل نحن العرب؟
تطرح تحديات العولمة على الدول العربية تجاوز منطق قبولها أو رفضها فكرياً، لأنها أصبحت واقعاً فعلياً يجب البحث الجاد عن كيفية التعامل معها، والتفكير في الخطط والاستراتيجيات التي يمتلكها العرب والتي ستحدد موقعهم في مجريات الحدث على ضوء الأهداف والإمكانات العربية. وهذا يعني أنه رغم الطابع الكوني للعولمة فهي ليست قدراً محتوماً وإنما تتعلّق بما سوف يعمل العرب. من هنا، فالأجدى للعرب أن يكونوا مع العولمة ولكن شريطة التفاعل معها من خلال رؤية عربية مشتركة للمستقبل، وصوغ آليات محددة في كل من الاقتصاد والمال والسياسة والتجارة، للوصول إلى درجة كافية من التكامل العربي، تستطيع من خلالها الدول العربية مجتمعة أن تتحدث بلغة مصلحية واحدة، والعمل على محاكاة التكتلات الاقتصادية والمالية الأخرى بلغة تفاوضية عربية واحدة. فقد أصبح التكتل على المستوى القومي أو القاري في عصر العولمة هو الخيار الأنجح على المستوى الاستراتيجي. نقطة البداية للدول العربية تجب أن تكون في البحث عن قواها الاستراتيجية البشرية والجيوسياسية، يلي ذلك إصلاح الأجهزة الإدارية والحكومية بوصفها العصب الأساسي للدولة، وهو ما سيحصّن الدولة ومؤسساتها لتكون أقدر على التكيف مع المتغيرات الجديدة. كما أن إصلاح سياسات التعليم والتدريب والتأهيل يمثل عنصراً جوهرياً في هذا الإطار، لأنه سيخلق قوة عاملة مدرّبة ومؤهلة وقادرة على استيعاب التطورات المرتبطة بظاهرة العولمة. يضاف الى ذلك تطوير سياسات نقل التكنولوجيا وتوطينها، وهو ما يهيّئ الدول لعصر العولمة. فضلاً عن ضرورة الإصلاح السياسي بوصفه ركيزة أساسية في أية استراتيجية إصلاح داخلي، ويتمثل في تحقيق تحوّل ديمقراطي حقيقي يؤمّن تحقيق العدالة الاجتماعية، ومكافحة ظواهر الفساد السياسي والإداري، المدخل الحقيقي لبناء دولة المؤسسات وتحقيق سيادة القانون. أخيراً لا بد من التأكيد على الثقافة والهوية العربية دون تقوقع أو خوف من تفاقم مخاطر الاستلاب، فالثقافة العربية تمتلك مواطن قوة تمكّنها من الفعل والتأثير والحد من الهيمنة، والتجدد والإبداع المتواصل، والمشاركة الفعلية في التفاعل الثقافي.
إن مواجهة العرب لتحديات العولمة هي بالفعل معادلة صعبة، وهي معركة حضارية معقدة يجب على العرب خوضها بدراية وحكمة ومعرفة. بذلك لا يكون كتاب عاطف عطيه صرخة في واد وإنما مشعلاً ينير الدرب، ويفتح آفاقاً جديدة لمستقبل زاهر وواعد.