في هذه الصفحة تكريم متواصل من "تحولات" للمفكر منصور عازار الذي كان يطل على قرائها كل عدد بصفحة منبر. من هذه الحلقة وصاعداً ننشر نصوصاً مقتبسة عن آراء المفكر عازار ستنشر في كتاب قريباً بعنوان "منصور عازار ذخيرة عمر" من إعداد وتحرير الزميل هاني الحلبي.
في نظرة معمّقة لأنماط السلوك السائدة في مجتمعنا التي نشهدها ونعايشها نشهد رذائل كثيرة تصيب أفراداً منا، وتنتشر بالتقليد والاتباع لتصبح نمط سلوك واسع الانتشار.
يندر أن تسمع فرداً لا يُدين الفردية، لكنه ينسى موقفه منها عندما يُحشر بين فرديته ومصلحته الشخصية وبين الترفع عليهما. هذه الازدواجية تكاد تكون سمة عامة في تربية فاسدة.
كذلك تسمع المسؤول أنه زاهد وناسك في المنصب، وينتظر لحظة الفكاك من منصبه ليعود إلى حياته الخاصة والأسرية والاجتماعية، بالمقابل تراه ينسج في السر خيوط الإحكام من جديد ليتم التجديد له او ضمان ان يكون منصبه وراثة لسلالته الحميدة.
تفتح التلفاز فتصم آذاننا إدانة أهل السياسة والطوائف للطائفية وضرورة التنزه عنها، فتقول تبارك هؤلاء ما أنزههم. عجباً من هم الذين يحقنون في شرايين وعينا كل هذا السم من منابرهم ومن لقاءاتهم ومن حملاتهم التي لا تكفّ ليل نهار؟ حتى يأتي كبيرهم فيحذر من المساس بحقوق المسيحيين، وكبير آخر يؤكد أنه لن يقبل اضطهاد السنة ولن يرضى بالحيف اللاحق بهم، وهلم جرا من شكوى الظلم من طغاة لبنان الذين يشكون الجور الذي يقبعون فيه!
هكذا تلحّ على كل المصلحين، قواعد سلوك نبيل لتربية جديدة. هؤلاء المصلحون الذين يدمي قلوبهم فساد ما يشهدون وقسوة ما يعانون مما يصيب وطنهم ومما يثكل شعبهم، تحت ألف ذريعة وذريعة، وبألف لبوس ولبوس ليبقوا فسيفساء اقتراع محسوب الأداء والوظيفة.
لا يمكن تصور بلورة قواعد تربية نبيلة لإنسان نبيل ومواطن نبيل بلا تربية أسرية ومدرسية تتزامن في الوقت نفسه وبلا تفضيل. إعداد مربين وطنيين جديين يتخذون التربية النبيلة قضية لحياتهم وهماً لا يفارق وجدانهم وقلوبهم في كل ساعة من نهاراتهم ولياليهم،بأن يكونوا مربين حقاً لا موظفين في أيديهم حاسبات ما ستؤول إليه قيمة رواتبهم آخر الشهر وكأنهم مضاربون في بورصة مجنونة. مربون يحيون بأمان نفسي وروحي وثقة أنهم قرة عين الشعب والدولة وأنهم ضمانهما الأكيد لمستقبل آمن في إعداد أجيالنا الجديدة لمواجهة عراك الأمم لصنع السلام ولحسم حروب الوجود وتزخيم القوى العامة فينا.
لا أتصور تحقيق هذا الجيل من المربين في البيت وفي المدرسة، أكانت خاصة ام رسمية، إلا بتوحيد مناهج التربية وتصحيح النظرة إلى التاريخ والجغرافيا ومفهوم الإنسان عبر توحيد الكتاب المدرسي للتربية وللتاريخ وللجغرافيا، بخاصة جغرافية لبنان وجغرافية محيطه المشرقي الطبيعي وعلاقتهما العضوية التاريخية غير القابلة للفكاك والتحلل، كما يتوهم البعض.
فكتب التعليم اليوم في كل المدارس، وبالتحديد منها الخاصة والطائفية، تعلم الخلفية العقائدية او الدينية او الماورائية للجهات التي أسستها لغاية تخصها هي وقد لا تفيد وحدة البلاد على المدى البعيد، فيتحول الوطن والشعب من كونها متحداً واحداً أتم إلى متحدات فئوية وصغرى، في أفضل الأحوال تتباين، وفي أسوئها تتنابذ وتتصارع بين اوهامها الخاصة.هكذا تتباين العادات والتقاليد بين المكونات الطائفية في الشعب الواحد، من الطفولة الى الشباب والرجولة. فلا نكون قد أعددنا رجالاً للوطن بل أعددنا جيوشاً للطوائف وازلاماً لرجال الدين والبيوك ونظرائهم ممن يمعنون في تفتيت البنية الشعبية الواحدة.
ولا أتصور إنجاز هذا الإعداد التربوي لتربية نبيلة من دون ضبط جهد الإعلام كله، المسموع من إذاعة رسمية أو خاصة وتجارية، أو المقروء من جرائد ومجلات، أو المرئي، وهو الأكثر تأثيراً والأخطر بانحرافاته على الناشئة بخاصة قنوات التلفزة الملونة المدهشة في تقنيتها اللونية والبرمجية التي تسحر المشاهد فتنحط به ليكون متلقياً مشدوهاً فيها. فيفقد النقد ويتعطل فعل العقل وحسن الاختيار. وبالتعود يتلقى ما يُلقى له من فتات الأفكار المسمومة فيستسيغها مع الوقت ليصبح حاملاً لها. بعد ان يستسلم ويتنازل عن حريته البناءة.
إن ابرز قيم الإعداد التربوي المقصود استعادة نبل الإنسان وقرار المواطن ليصبح هذا النبل وهذا القرار قيمة وطنية يتحرر بها القطيع المساق بالإعلان الدعائي والبروباغندا اللونية والمالية السياسية من تبعيته ليعود شعباً حراً كريماً يمكنه ان يقرر إلى أين من هنا!! إلى أين من هنا، بدلاً من تدحرجه اللاإرادي في مسارب الهلاك الفتنوي الطائفي وصولاً إلى التكفير والتكفير المضاد.لم يتم احترام القرار الشعبي الوطني يوماً لا من حكام الطوائف ولا من المنتدَبين الأجانب ولا من المحتلين ومن المستعمرين ولم يسمح للشعب أن يبلور قراره مرة بروية وأناة وعقل راجح. في هذه السيرورة التربوية عبثاً نفكر في إصلاح وطني وفي سياسة نبيلة رشيدة للبلاد وفي توليد عصبية الروح التي تشد كل الجسم الوطني إليها ليبقى حياً معطاء.
ودور التربية ودور الإعلام لا يتكاملان من دون ترشيد القوانين الشخصية في البلاد وتوحيد الحقوق والواجبات بين كل الشرائح الطائفية، فيكون الحق الشخصي لدى المسلم المسيحي هو نفسه الحق الشخصي لدى المسلم المحمدي، بلا تفاوت وبلا تفضيل وبلا تبهيت. إسقاط الاحوال الشخصية الطائفية لمصلحة قانون احوال شخصية موحد في لبنان وباقي الدول المشرقية ضرورة مطلقةلإنقاذ البلاد مما يخطط لها من الإرادات الأجنبية الدولية والإقليمية الطامعة في مواردنا وفي قدراتنا.يجب أن يكون من حق أي مواطناعتماد الزواج المدني من دون قيود ولا شروط مسبقة، مع حفظ حق كل من المتزوجين في البقاء في مذهبه أو تغييره. أي اعتبار الحق في الاعتقاد حقاً شخصياً مقدساً، مكفولاً بالدستور والقيم العامة وتجريم التكفير والتحرج الطائفي والديني بين أتباع دين واحد برسالات متعددة. ليس من العدل القبول أن تتقدم علينا دول مجاورة في الزواج المدني وفي الحقوق الاجتماعية والشخصية بينما نحن قابعون في تعصب طائفيينا. وأرى من الأمانة القول إن تجارب الزواج المدني في أسرتي التي جمعت طوائف لبنان كلها تقريباً في بوتقة حب واحدة، كانت جدَّ منتجة حباً وجمالاً ونبوغاً وتستحق أن أشهد لها..بينما فشلت تجارب زواج القربى والصلة الطائفية.