يخطئ من يظن أن التغيير لم يبدأ بعد… يشهد العالم كله اليوم مرحلة مخاض تاريخي ومتغيرات مفصلية لن ينتج عنها أنظمة سياسية واقتصادية بديلة فحسب بل ستعيد صياغة منظومة مفاهيم مجتمعية وقيم إنسانية جديدة لإعادة تشكيل بنى وكيانات مجتمعية جديدة، من شأنها أن تغير مفهوم الديمقراطية وأساليب ممارساتها في العالم.
إن هذه المرحلة من تاريخنا المعاصر لا يمكن أن يكون حاملها إلا المجتمعات، فاليوم لم يعد من الممكن تجاوز الشعوب، وروادها إلا الأفراد المبدعون وأصحاب الرؤى والكفاءات.
وإن من يقرأ التاريخ يؤمن أن ما تشهده سورية اليوم ليس إلا جزءاً لا يتجزأ من هذه المتغيرات لا بل محور لها والحالة السورية هي استثنائية بامتياز، فإذا كانت سورية هي محور الصراع ومحور المقاومة فحكماً ستكون محور الحل، وبالتالي عليها ستعتمد إعادة تشكيل النظام العالمي الجديد.
فالتغيير آتٍ شئنا أم أبينا، وهنا نتوقف لنسأل لماذا لا نقود هذا التغيير بدلاً من أن نُساق مع الأمواج تدريجياً!!!
التغيير حالة ميكانيكية تأتي نتيجة تطور ما تصحبه متطلبات جديدة لا تكون فيها الآليات والأنظمة الفاعلة الموجودة قادرة على تلبيتها وبالتالي يولد شعوراً بالحاجة إلى الجديد لدى من يقرأ التاريخ ومن يعيش حالة التطور فتبدأ عملية البحث عن إيجاد آليات وابتكار أفكار تخدم هذه المتطلبات.
يلتقط هذه الحالة عادة أصحاب الرؤى والمبدعون والمفكرون قبل غيرهم، فيكتبون ويحللون ويخلقون ويقودون، ويكون حامل التغيير كل أصحاب الحاجة له وبالتالي الأجيال الحديثة من الشباب التي تريد إثبات ذاتها والبحث عن مكان لها في منظومة الحياة، ولا تتمكن من تحقيق هدفها نتيجة العطالة الموجودة في آلية هذه المنظومات. وهذا يخلق ردة فعل عكسية لدى طيف آخر نمطي لا يعي هذه الحالة فيعتبر أن أي تغيير سينهي دوره ويكون غير قادر على التكيّف معه فيبدأ بمحاربته وهنا يبدأ الصراع. ومع الوقت تمر هذه المعادلة من رؤية إلى متطلبات حقيقية إلى حاجة إلى بحث إلى عمل، ويبدأ معها التحول التدريجي من الرفض إلى القبول إلى الدخول في التغيير عند الجزء القادر على التكيف أو من يستطيع أن يوجد له مكاناً جديداً في هذه المنظومة التي تبدأ عشوائية. وهكذا يتشكل فرز بين من يقود التغيير ومن يركب التغيير ومن يلتحق به تدريجياً بعملية عدوى ومن يعاند ويحارب أو يتمسك بواقعه الذي سيصبح تاريخاً فيغنّي على الأطلال …
إن عملية التوازن ومحاولة ضبط هذه الحالة من الفوضى لا يمكن أن تكون إلا من خلال أصحاب الرؤى والفكر والخبرة لتوجيه المسار بالاتجاه الصحيح تفادياً للأخطاء والمطبّات التي قد تحرف المسار نحو الهاوية والانهيار قبل أن تبدأ من جديد ولكن بعد فوات الأوان …
من يقرأ التاريخ يعلم تماماً أن مع متطلبات مرحلة ما يبدأ التغيير، ولكنه يعيش في مخاض من تجارب تراكمية عشوائية معرضة إلى الكثير من الرفض والأخطاء والفشل حتى الوصول إلى مرحلة النضوج التي تعتمد على نقد التجارب والبناء عليها لإيجاد منظومة جديدة أكثر صحة وتوافقية لتكون قاعدة أساساً تبدأ منها مرحلة التطوير ….
الإيديولوجيات السياسية الموجودة نتجت بمواجهة ظروف سياسية معينة في فترة وحقبة تاريخية ومتطلبات مجتمعية مختلفة قد لا تصلح اليوم بكليّتها عدا عن فقدانها إمكانياتها في تحقيق أهدافها ومصداقيتها التي تهتز أمام مصالحها، وبالتالي لا بد من قراءة المرحلة المقبلة بدقة وإعادة إنتاج فكر جديد ومنظومة مفاهيم وقيم تتناسب ومتطلبات هذه المرحلة. ولذلك لا يمكن العبور بذهنية تقليدية تنتمي لأي طرف من الأطراف..
إنها مرحلة حرب المفاهيم …. !!!
نحن نشهد اليوم مرحلة الصراعات والنزاعات … وهذا ليس في العالم العربي فقط وإنما تبدأ مؤشراته في العالم بأسره، وهي في مجملها صراعات بدأت بين القوى السياسية إما على السلطة أو على مصادر الطاقة وكان ذلك على حساب مصلحة المجتمعات والمبادئ التي بنيت عليها الدول والإيديولوجيات، وبالتالي نتج عنه هوة كبيرة بين مفهوم الدولة ودورها الحقيقي في خدمة مجتمعاتها وبين المصالح الخاصة التي تبنى عليها امبراطوريات الدول واستغلالها للمبادئ والمفاهيم الإنسانية. ومع ازدياد حدة الصراع والتصعيد في المواجهات تنكشف الأقنعة السياسية وتسقط المبادئ وتتعرى فيها المصالح والأدوات، فتهتز الثقة بين الجميع، بين سياسات الدول من جهة وأمام شعوبها من جهة أخرى، وبالتالي نشهد وسنشهد خللاً في الميزان السياسي يرافقه خلل في توازن الأحزاب القائمة أي فقدان الثقة بين الشعوب وممثليها، بين المصالح والمبادئ.
هذا الخلل نشهده اليوم في العالم العربي بانكشاف أقنعة السياسات العربية في تحالفاتها وإفشالها المصالح الوطنية المشتركة التي ينبغي أنها وجدت لأجلها واستهتارها بمبادئ قيام دولها واستهزائها بعقول شعوبها. كما نشهده في العالم الغربي من خلال الانقسامات في العمليات الانتخابية وتغيير تحالفاتها وفقدان أرضياتها.
وهذا لا يعفي الشرعية الدولية أيضاً من اهتزاز مصداقيتها على الأرض أمام المجتمعات فهناك أيضاً الهوة الكبيرة بين احترامها لمبادئها الإنسانية وحماية الشعوب وبين انتهاكاتها لتحقيق أغراض سياسية والتدخل في شؤون الدول على حساب الشعوب وشرعيتها الوطنية ومبدأ السيادة.
نحن أمام ثورة التكنولوجيا وعصر السرعة فتحول العالم إلى شارع صغير تلاشت بين مجتمعاته الحدود وأصبحت قنوات التواصل أكبر من إدراك السياسات ومدرسة تلتقي فيها المجتمعات.
وسيبقى ميزان السياسة – المجتمع مختلاً وسيبقى الصراع قائماً حتى يجد توازنه الجديد بميزان قوى جديد على الأرض.
و بالتالي نحن أمام حرب مفاهيم حقيقية فلا يمكن أن يُعاد تشكيل أي منظومة عالمية واستعادة توازن ميزان القوى العالمي من دون إعادة صياغة المفاهيم الجديدة التي ستكون المجتمعات حاملاً لها وأصحاب الرؤى هم روادها.
فالزمن المقبل هو للمجتمعات….
شكراً لـ"تحولات"….
* نائب في مجلس الشعب السوري
نحن في زمن التحولات.. والزمن المقبل للمجتمعات
113
المقالة السابقة