قدم الشاعر نعيم تلحوق كتاب "ظلال الليل" لميشال غرِبِنيكوف، فكتب:
من مكان الغريزة يتجه الألم، ويصبح الحبر نثيرة فيض للمعنى، متى صار الزمان مكاناً، ليحفظ؟
الأدب يوارب الألفاظ، لتفيض المعاني، وبه يبداً التفكرن والتشعرن.
الوظيفة دالة لالتقاط المعنى، الأدب يفيض، ويعيد إنتاج رؤيته بمعناه أكثر من مرة، لذا يصعب نفيه بالعين السحرية…
ميشال غربنيكوف، واحد من الذين يواربون لعبة المعنى، يستدل الألفاظ، ليقيم صورة فاضحة بخفر ليذيب المعنى مرة جديدة في حيز واسع من الرجاء. أسئلة يخرج بها ميشال في قصائده "ظلال الليل" بعد محاولتيه السابقتين "شفق الياسمين" (2011 ) و"قصائد للريح" (2012)، ليجر مع أفكاره لسردية عائمة حيناً وغائمة حيناً آخر لكن من دون أن يزعج المتلقي بصوتٍ غير ضروري.
وخلال زيارة ميشال غرِبِنيكوف لبيروت كان لـ"تحولات" حديث معه، هنا نصه.
ميشال غرِبِنيكوف هل عرفتنا عن نفسك وعن بداياتك مع الشعر؟
بين دويلاتٍ من نتاج الحروب الأهلية ترعرعْتُ في لبنان، في بلدة ساحل علما تحت أشجار الصنوبر، على فراش الصعتر والحمّيضة. تعلّمتُ الخوف من ملاحقة المزارعين لي، بسبب نهمي في ثمار البساتين، قبل الخوف من عبثيّة الحرب. أبواي روسيّا الأصل، من طبقة أرستقراطيّة لاذت بثيابها إبّان الثورة البولشفيّة إلى فرنسا وسوريا ولبنان، واختارت لهما الصدفة أن يلتقيا بعيداً عن أرض الجذور والهوية.
كان لمدرستي (معهد الرّسل جونية) الأثر الكبير في صقل المعابد لأوّل الشياطين والملائكة الدفينة في أعلى البطن، فَكنتُ أعشق المشاغبة والامتناع عن ممارسة التعاليم الرهبانيّة الصارمة. لم ينقذ مسيرتي الدراسية الأولية من الطرد الدّائم إلّا معدّلات متفوّقة.
لم أهو الأدب والشعر تحديداً في سنين المراهقة، لكنّي انهمكتُ في قراءة كل ما وقعت عليه يداي في رفوف مكتبة أبي المنزليّة، من المعاجم إلى علم النّبات بلغاتٍ ثلاث꞉
العربية، والإنكليزية كما الفرنسية. سباحٌ ماهرٌ مع تيّار جيلي حتى بدايات سن العشرين، لم تستفزني حدود اللغة ولا آفاق الهويّة، هذا تأثير خِدْر المجتمع والمناهج التي لا تسمح لك بِحُرِّيّة التفكير.
في ظهيرة أحد الأيام أسمعني أخي أغنية ”ريتا“ لمحمود درويش ومرسيل خليفة، فتراءى لي هذا المركب الذي نسمّيه اللغة وحوريّة تلوّح لي من بعيد. ارتمَيتُ بجثّتي على متنه، لم آبه إلى الوجهة لأن السؤال وحده كفيلٌ بالنّفي الفكريّ؛ ”حان وقت الذهاب، إلى أين؟“.
السؤال وحده يكفي. كان ينقصني الشراع، لا المسار.
حَدِّثنا عن إصدراتك الأدبيَّة التي أصدرتها مُؤخَّرًا.
أول ما قرأته من الشعر هي مجموعة ”حبيبتي تنهض من نومها“ لمحمود درويش، زوبعة، لم أرَ بعد قراءتها الأشياء كما قبلها، تلك الصورة في المرآة ضمناً. تبعته بسيرة لينين بالإنكليزية فاستيقظَت الشياطين بعد سبات دام عشرين سنة، انحرفْتُ مبتسماً عن قبيلتي، فمن لم يكن شيوعيّاً بلحيةٍ طليقة في تلك الفترات، لم يكن شاباً قط.
استَحْوَذَت رغبة بدائية للتعبير عن مخاض الحياة على السَّمر وعلى أناملي فانكببتُ أجذف بالحبر متحدّياً الموج العالي كالمريض النفسيّ، الى ان حاكت ابتسامة شقراء فرنسيّة لي الشّراع المنتظر. بدّلتُ الخلاص بالمرأة وأنهيت مجموعتي الأولى ”شغف الياسمين“ العام ۲۰۱۱.
في عشق ابتسامات الجسد وتقمّص النساء لم أجد نفسي إلّا في هواجسي التي أردتها أن تمضي إرثاً أدبيّاً حول شموليّة علاقتي بنفسي. مجموعتي الشعرية الثانية ”قصائد للرّيح“ الصادرة العام ۲۰۱۳ عن الدّار العربية للعلوم ناشرون (بيروت) طَلَتها الغيوم بالدّكناء. جدلٌ حول غاية الشّعر في زمن اللّاشعراء مرَرْتُ بفترةٍ طويلةٍ من الاكتئاب. وَشَمْتُ قصائدي بالأسود، فالذّنب لا يرحم.
مجموعتي الأخيرة ”ظلال اللّيل“ الصادرة هذا العام عن الدّار العربية للعلوم ناشرون هي بداية النجاح بمصاحبة الشّياطين والمجرمين والسّكارى، وطّدتُ علاقتي مع نفسي وتقبّلتُ النفي بالشِّعر مساحةً وملجأً من ورق وحبر.
في قصائدِكِ نجدُ بعضَ الكلماتِ والتعابير والإيحاءاتِ الجنسيَّة، هل تعرضتِ يومًا لنقدٍ بهذا الصَّدد؟
من الجدير بالذِّكر (وهو أول ما خطر في بالي عند سماع كلمة نقد وجنسيّة معاً) أن المجتمعات القديمة بأشكالها المتنوّعة، ما نكرت حقّ الإنسان بالحب والغريزة والجنس. لكن مجيء (أو سقوط) الأديان السّماويّة على الناس أدّت الى احتكار علاقة الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، وحتّى علاقة الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، ضمن أطرٍ محدودة. لطالما أزعجتني الحدود والمتاريس الإيديولوجية حتى القرف، خاصة تلك الّتي تقهر لذّة الحبّ والنوم على صدر الحبيبة. فبأيّ حقّ يملي عليّ اللّه الحرام والحلال؟ بالطبع هذه المجموعات الشعرية ستقابَل بنقدٍ سطحيٍ مفكِّكٍ في بعض المجتمعات العربية المجاورة الّتي تحرّم الحبّ.
من حقّنا أن نعشق وننتشي من لهاث جسدين، العشق حقٌّ بدائيّ للإلهام، أين الإبداع من القيود والأغلال الثقافية؟
صحيحٌ انّ مجموعتي الأولى فذّة جريئة لكن الإيحاءات الجنسيّة فيها نابعة عن حبّ وإعجاب وتقدير للمرأة، فهي تتقمّص الجمال لمجرّد انّها امرأة وأنا مجرّد رجل، رجلٌ يكتب. لم أسمح لأحدٍ يوماً بأن يملي عليّ علاقتي بالمرأة لسبب وحيد؛ سرّ الإلهام. كلّما أردتُ دفع حائطٍ فكريٍّ بعيداً تردّدْتُ على خصر المرأة كي تَتْلوَ لي حكايات الفراشات.
كيف حضرت المرأة في قصائدك.. وكيف تنظر إليها؟
علاقة الرجل بالمرأة فكرٌ، فلسفة الشوق والألم والنشوان، المرأة فكرٌ من جسدٍ وغموض.
للمرأة أثرٌ في كل ما كتبْتُ وسأكتب، حتى العناوين الوجوديّة لا تخلو من مرورها العاري، كيف لي أن أقتات الكمال حبّةً حبّة من غير كفّ امرأة أعشقها؟
لكلّ امرأة تفاصيلها، منها سرّية ومنها ما هو ظاهر، تفتح مساحات عذراء لشعري، كتعداد النّمش والزغب، وكالاستراحة في غمازتين من أسفل ظهر. لكلّ امرأة عطر وطعم لعاب أنيق، تلك هي خيمياء الحواس وأسلحة الشعر.
ما عُدْتُ أكيداً من شيء في أيامنا هذه، حتّى شروق الشمس مهدّد بالزّوال بعد حرب نووية مثلاً (وانه احتمال كأي رقم من وجوه نرد)، لكن نزهة الحبيب والحبيبة، يدٌ بيد، دربٌ إلى الأبديّة.
هل لك طقوس خاصة للكتابة؟
غالباً ما أكتب معزولاً، تحت سماءٍ وحيدة من الغسق إلى آخر اللّيل عندما تكون الملائكة والهررة نائمة، للسّمر وحيداً طقوس حميمة. مراراً أكتب في المقاهي خاصة عندما أكون في باريس، أو في حدائقها.
أضعْتُ في السنة الماضية القلم الذي رافق بدايات شعري وحرث المئات من الصفحات، منها ما أثمر ومنها ما حرق لموسم جديد، فلم أقدر على الكتابة لأشهرٍ كاملة ولم أحلق لحيتي حداداً.
ما هيَ مفاهيمُكِ للجسد والحب والجنس ِ.. كيفَ تقيِّمها؟
عندما سمعتُ تلك الكلمات الثلاث؛ الجسد والحب والجنس في تركيبة جملة واحدة، بان لي السّؤال ولو هرب الجواب بعيداً عني. فلنحتكم إلى أبعاد السّؤال نفسه التي تأخذ المنحى التصوري الاحتمالي (لا الشَّرطي) عبر تمرين بسيط. أغلق عينيك واعطِ لكلٍّ من الكلمات الثلاث صورةً في مخيّلتك. هل بإمكانك رسم صورة لجسد المرأة دون تدخّل أو اشتراك الحبّ والجنس فيها؟؟
لا يمكن الفصل بين الجسد والحبّ والجنس. الجسد هو بوابة للحبّ الى الجنس، الحبّ وهمٌ من جسد وشغف جنسيّ يحاول إقناعك بالخلود، أما الجنس فهو أصدق تعبيرٍ للحبّ تجاه الجسد.
أكثرُ مكان تحبَّ أن تكون موجودَاً فيهِ دائمًا؟
مع الشّياطين، حول مأدبة الجنون في هواجسي.